الشعر في مصر (٤)١
كنا منذ بضع عشرة سنة في مجلس ينشد فيه شعر لبعض الشعراء المعاصرين في وصف حسان أوربيات، وكان في ذلك الوصف إعجاب بشعرهن الأصفر، وعيونهن الزرقاوات، فقال بعض الحاضرين — وكان عالمًا أزهريًّا شابًّا — ولكن العرب كانت تعجب بالشعر الفاحم والأعين الكحلاء، ولا تمدح غير ذلك من ألوان الغدائر والعيون. قلنا ولكن الشاعر يصف حسانًا أوربيات وهن على هذه الصفة فكيف كنت تريده أن يقول! قال إذن لا يكون الشعر عربيًّا! ونحن عرب ننظم بلغة العرب، ونحيي آداب العرب ولا شأن لنا بالفرنجة، وما يستحبون من الجمال ويصفون من ألوان الوجوه وشمائل الحسان.
ذلك كان قبل بضع عشرة سنة ليس إلا! وكان في ذلك الوقت وما قبله بقليل أساتذة يدرسون الآداب — ويقال عنهم إنهم حجة في نقد الشعر وفهم البلاغة — يقصرون إعجابهم على الشعر الجاهلي، ولا يرون ما جاء بعده شعرًا يحفظ أو يعلمه المعلمون، فإذا مدوا بساط العفو والمسامحة قليلًا فإلى صدر من الإسلام يشبه الجاهلية، ثم لا عفو بعد ذلك ولا سماح ولا مفر من النار لديوان من الدواوين التي ظهرت في عهد الإسلام! ومنطق هؤلاء «الأدباء» معقول من حيث ينظرون إلى الشعر خاصة وإلى الآداب عامة، فالشعر عندهم هو «مادة لغوية» والآداب عندهم هي ما تحفظه من الكلام المنظور والمنثور لتقويم اللسان وتصحيح العبارة، فلا جرم يكون الجاهليون أشعر الشعراء، وأبلغ البلغاء؛ لأن العربية في زمانهم أعرب واللغة على أيامهم أصح وأسلم في رأي هؤلاء الناقدين، ولقد كان الذين ينقلون علومهم في الأدب عن هذه الزمرة يسمعون بدهشة الطفل الغرير كل ما يقال عن شعر الفرنجة وبلاغة الناطقين بغير الضاد: ألغير العرب شعر؟! يا عجبًا، وكيف يكون هذا الشعر الغريب وعلى أي وزن يوزن وبأي أسلوب يصاغ؟! كنا نتحادث في ذلك قبل سنين، ومعنا شيخ ينظم ويقرأ كتب الأدب فسألنا: أترون شيئًا من شعر الفرنجة.
قلنا: نعم.
قال: فأسمعوني إن شئتم أبياتًا مما ينظمون.
قلت: سأسمعك من خير ما ينظمون، وترجمت له قطعة للشاعر الإنجليزي شلي في «القنبرة» وأنا ألمح الاستهزاء في نظرات عينيه وابتسامة شفتيه، وجهدت أن يكون المعنى كأقرب ما يكون في الأصل مقرونًا بالتفسير والتوضيح لألفته إلى ما في الكلام من روح البلاغة وصدق التعبير، فما أمهلني أن أكمل القصيدة وصاح بنا. أهذا الذي تسمونه شعرًا؟ فظننت لأول وهلة أنه يقصد المعاني والتشبيهات التي لا عهد بها لقراء العربية، وليس في ذلك غرابة ولا إغراق في الجهالة، إذ كان فهم الجديد صعبًا على كل من يعالجه من قراء العربية وغير العربية، ولكن ما كان أشد دهشتنا حين علمنا أنه ينكر وصف ذلك الكلام بالشعر؛ لأنه لم يخرج موزونًا في الترجمة على أوزان البحور العربية، ولأنه يحسب أن الشعر إذا وجد عند الإفرنج فإنما يوجد على وزن من هذه الأوزان، وإذا ترجم فإنما يرد إلى الأوزان العربية بلا كلفة من المترجم ولا عناية، فأما ونحن نترجمه كلامًا منثورًا كسائر الكلام فقد وضح الأمر، وبان جهل الإفرنج بأوزان الخليل بن أحمد، وكذبت الدعوى التي يدعيها لهم شيعتهم المتفرنجون.
وليس جميع الدارسين من تلك الزمرة على وتيرة صاحبنا هذا في السخف والعماية، فقد يفهمون أن الشعر لا يترجم شعرًا بهذه السهولة البديهية، وأن الموزون في نظم لغة لا يخرج موزونًا في نظم لغة أخرى بغير كلفة من الناقل، ولا رياضة للكلام، ولكنهم كلهم يفهمون أن الشاعرية خاصة عربية وأن الشعر مادة لغوية. بل كلهم يفهمون أن نطق العربي بلغة أمه وأبيه معجزة لا يضارعه فيها أبناء الأمهات والآباء، وأذكر من هذا أنني حضرت مناقشة قريبة بين سيدة فاضلة وعالم أزهري يسمع اسمه في كل حركة أزهرية، وكان مدار المناقشة الحجاب والسفور، والسيدة على رأي السفور والأستاذ بطبيعة الحال على رأي الحجاب، فاستشهد الأستاذ على غواية السفور بكلام لإمام عربي معروف، وأبت السيدة أن تسلم رأيه؛ لأنه رأي إنسان كسائر الناس يقبل النقد والقدح، كما يقبل الموافقة والاستحسان، فاستشاط صاحبنا غضبًا وقال محتدًا: سبحان الله يا سيدتي! إن أحدنا ليبلي العمر الطويل يتعلم اللغة، ثم لا ينطقها كما ينطقها الطفل العربي بلا تعليم ولا مشقة، فكيف بمقام ذلك الإمام الذي تدين له الأئمة؟
فتقديم الشعر العربي لأنه «عربي» عقيدة ما كان للشك إليها من سبيل، وتقديم الشعر الجاهلي على كل شعر؛ لأنه أمعن في العربية وأعرق في القدم — وهو كبرى فضائل القبائل البدوية التي تؤمن بالنسب والوراثة إيمانها بالأصنام والأوثان — هو لازمة تلك العقيدة ونتيجتها المنطقية في أذهان طلاب الأدب القديم، ولكننا نحن اليوم بعيدون عن هذا المذهب لا نشعر له بقوة ولا نتوجس منه شرًّا، ولسنا نحس من فلوله المشتتة ببقية تخاف لها كرة وتخشى لها عزيمة، فليس الشعر اليوم خاصة عربية، ولكنه خاصة إنسانية، وليست البلاغة اليوم مزية لغوية، ولكنها مزية نفسية، وهذه عقيدة مفروغ منها قل أن يماري فيها من يحسب له رأي ويسمع عنه كلام، فإذا أردنا أن نقيس خطواتنا على ما مضى وما نحن فيه، فالتقدم ظاهر والرحلة ليست بالهينة ولا بالقصيرة، ولكن هل تقاس الرحلات بالمبدأ أو بالغاية، وبما مضى أو بما سيأتي مما لا بد من عبوره والوصول إليه؟ إنما تقاس الرحلات بالنهاية وبالبقية الآتية، ولا تزال الغاية بعيدة والبقية الآتية كثيرة على الجهد الذي نراه. إنما ننظر حين نسير إلى أمامنا ولا نستكثر ما وراءنا إلا لنستقل ما بقي بيننا وبين الوجهة الميممة، وقد تحولنا عن فهم للشعر عتيق مأفون إلا أننا لم نبلغ بعد فهمًا للشعر يستقيم بنا على الجادة، ويسدد خطانا على معالم الوصول فما يبرح أناس يتعجبون كلما قيل لهم ليس هذا الشعر؟ أو ما هو الشعر الحديث الذي يرضيكم إذا قلناه، وما نخالكم إلا تجشموننا المحال وتطلبون منا ما لا يكون؟
قد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو وصف المخترعات الحديثة من بخار وكهرباء وطيارات، وأمثال ذلك من آلات ناطقة وصور متحركة ومعجزات لهذا العصر الحديث لم يتقدم بوصفها المتقدمون، فقلنا لهم: لا! لو كان هذا هو الشعر لكان واصف الزهرة والكوكب في السماء أقدم الشعراء مذهبًا، وأبعدهم عن العصرية والحداثة معنى؛ لأن الزهرة في الأرض والكوكب في السماء أقدم ما وقعت عليه نظرة إنسان منذ كان الناس بين الأرض والسماء، ولو كان هذا هو الشعر لوجب على كل شاعر أن يظل على اتصال بالمصانع تنفحه «بالكتالوجات» أولًا فأول ليسابق سواه في العصرية، ويكون في شعره على «آخر ساعة» كما يقولون في لغة التجارة والصناعة، وبعد فهؤلاء شعراء أوربا وأمريكا لم يجتمع مما نظموه في وصف «المخترعات» ما يملأ كراسة صغيرة، وفيهم الشعراء جد الشعراء في الوصف خاصة وفي سائر فنون القصيد، فهل يزري بهم ذلك أو يدخلهم في عداد الأقدمين والمقلدين؟ كلا! وإنما أنتم تولعون بالطيارات وما أشبهها؛ لأنكم تقيسون الشعر بمقياسه القديم، وتتأثرون بالجاهليين وأنتم تزعمون أنكم تأخذون بالحديث، فقد وصف الجاهليون الناقة فوجب أن تصفوا أنتم الطيارة؛ لأن الأقدمين كانوا يركبون النوق والعصريين يركبون الطيارات، فكأن الشاعر لم يخلق في الدنيا إلا لينظم في «وسائل المواصلات» كيفما تبدلت بها الغِيَرُ، وتقلبت بها الأحوال، وكأن الناقة شيء لا وجود له في الدنيا إلا لأنه في القرون الأولى يقابل الطيارة في القرن العشرين! وليس هذا بصحيح، فالناقة موجودة اليوم كما كانت موجودة قبل التاريخ، وعصرية في هذا الزمان كما كانت عصرية في زمان امرئ القيس، ولو وصفتموها أنتم لمعنى من المعاني تحسونه فيها لكنتم عصريين أكثر من «عصريتكم» حين تصفون الطيارة لمجاراة الأقدمين في وصف النوق والأظعان!
ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو اجتناب المبالغة، وأن اجتناب المبالغة هو التزام الصحة العلمية، والنظم في العلم والتحقيق لا في «الخيال والأوهام»؟ فقلنا لهم لا. ليس هذا بالشعر المقصود، ولو كانه لكانت ألفية ابن مالك أبلغ الشعر القديم والحديث وقدوة الصادقين في النظم والبيان؛ لأنها منظومة في «علم النحو» والعلوم كلها سواء في الصدق والتحقيق، وليس من ينظم في حقائق علم الكهرباء بأصدق ممن ينظم في حقائق الإعراب وقواعد الأسماء والأفعال والحروف، ولقد يكون الشاعر مبالغًا مخالفًا لظاهر العلم، وإنه مع هذا صادق في المبالغة قدير في الوصف والإبانة، فالذي يقول لحبيبه إنه أبهى من الشمس صادق في قوله؛ لأن الشمس لا تسره كما يسره حبيبه، ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها طلعة ذلك الحبيب، وللحقائق الفنية مسبارها الذي يفرق بينها كما للعلوم مسابيرها التي تكشف الباطل منها والصحيح، فبالغوا والتزموا الحقيقة الفنية تكونوا عصريين كأحدث العصريين وكأقدمهم في الزمن السالف على حد سواء، ولكنكم تبالغون وتفهمون أن فضيلة المبالغة هي الكذب لا التجلية والتقرير والتبيين. فإذا قال شاعر إن فلانًا أكبر من البحر، وأعجب الناس قوله ظننتم أنه قد أعجبهم؛ لأنه بالغ وكذب ولم تظنوا أنه أعجبهم لما في البحر من معنى السعة والغنى والبأس والمهابة، وما في هذه المعاني من الشبه الصادق المحقق بأخلاق العظماء والكرماء فتلتمسون التفوق عليه بالإرباء في الكذب والغلو في الإغراق، ويجيء منكم من يقول: إن بنانًا واحدًا من بنانه العشر تغرق البحار وتطغى على الأرضين والجبال! وهكذا تزيدون وتزيدون وأنتم تحسبون أن الزيادة هنا زيادة في البلاغة والشاعرية والإعجاب، فتخطئون سر المبالغة وترون أنها هي الكذب، وهي حين تمثل الحقيقة الفنية بريئة من الكذب براءة الأرقام والبديهيات.
ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «الحديث» هو القصص؛ لأنهم سمعوا أن العصرية هي «الأوربية» وأن الأوربيين نظموا في القصص المسهبة، ولم ينظم فيها العرب فخيل إليهم أن القصص إذن هي بيت القصيد، ومزية كل شاعر مجيد على كل شاعر غير مجيد، فما أصابوا الظن في هذه ولا عرفوا الوجه فيما يقال لهم عن العصرية والعصريين، فكأي من شاعر عظيم لا قصة له ولا شبه قصة، وكأي من صاحب قصص مسهبات لا يعد بين الشعراء، وإنما القصة باب من الشعر يميزها الناقدون على غيرها من الأبواب، بإفساح المجال فيها لوصف الأطوار، وتمثيل المواقف، وتصوير الإحساسات والعوارض، التي تنتاب الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعظماء والوضعاء، فهي مظهر حسن لقوة الشاعرية وليست هي قوة الشاعرية التي يبحث القوم عنها ولا يوفقون.
وظنوا وظن معهم بعض المطلعين على طرف من العلوم الحديثة أن الشاعر شاعر الأخلاق والاجتماعيات لا يكون ابن عصره إلا حين تقرأ في ديوانه قصيدة لكل حادثة من حوادث السياسة والاجتماع في أيامه! ولو أن هؤلاء راجعوا ديوان «جيتي» مثلًا لما عثروا فيه على بيت في وصف الزلازل السياسية التي أحاقت بألمانيا في حياته، وهو بإجماع النقاد شاعر وطنه العظيم والرجل الذي كان له أثر في يقظة ألمانيا الأدبية يعد في طليعة الآثار، فللشعر في إيقاظ الأمم طريق غير طريق الساسة ودعاة الاجتماع، ولليقظات النفسية مسالك ومسارب لا تستدل عليها بعناوين الحوادث السياسية، والدعوات الاجتماعية التي تكتب فيها الصحافة، ويتحدث بها اللاغطون بالموضوعات اليومية، فقد يعلمنا الشاعر حب الجمال فيعلمنا الثورة على الظلم والطغيان؛ لأن النفس التي تفقه جمال الحياة تضيق بها معيشة الأسر والمذلة، فتقتحم العوائق والسدود، وتنشد السعة والارتفاع، فالذين يبحثون عن نصيب الشعر في حركة أمة ناهضة فينظرون إلى عناوين الحوادث وأسماء الوقائع يجهلون الشعر، ويجهلون النهضات ويجهلون النفوس، ويجهلون فوق كل هذا أنهم جاهلون.
•••
تلك ظنونهم في الشعر الذي نريده ألممنا بها عن عرض، وأشرنا إلى مكان الصواب منها ومنفذ الشبهة إليها، وإن حيرتهم هذه في تعرف الشعر الصحيح لأحق بالحيرة والاستغراب مما يخبطون فيه من هاتيك الظنون، فالحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، والشعر الصحيح في أوجز تعريف هو ما يقوله الشاعر، والشاعر في أوجز تعريف هو الإنسان الممتاز بالعاطفة، والنظرة إلى الحياة، وهو القادر على الصياغة الجميلة في إعرابه عن العواطف والنظرات، وإن لهذا الإيجاز لشرحًا نعود إليه.