الشعر في مصر (٧)١
أما وقد بدأنا بسوق الأمثلة من الشعر الذي يروع باطنه، ولا يعجب الأكثرين من قرائنا ظاهره، فلنمض في التمثيل خطوة أخرى ليكون مثلنا الجديد من شعر توماس هاردي الذي استشهدنا به في القطعة الأولى؛ لأنه أولًا: من المعاصرين الأحياء والوهم الغالب على الناس في أوربا وفي مصر أن العصر الحاضر ليس بالعصر الذي ينجب الشعراء ويحيي العبقرية الشعرية فلا لوم على المقصرين، وإنما اللوم كله على البيئة والجدود!
ولأنه ثانيًا: شاعر «الحالات النفسية» وهذه الحالات هي التي نقصت في شعرنا القديم والحديث؛ لأننا نفهم شعر الأسلوب، وشعر المعاني الذهنية، وشعر الألاعيب اللفظية والمعنوية، ولكننا لا نفهم الشعر الذي يترجم لقارئه عن حالات النفس بغير ما حفاوة مقصودة بذلك الذي يسمونه المعاني، ويفهمون منه أن يكون الشاعر مختلقًا للخواطر، مكثرًا من المبتكرات المعتسفة، مولعًا بالاستعارات والمواقف التي لا موقع لها في القصيدة، فنحن لفقرنا في الإحساس المنوع الغزير، أو لتفريقنا بين الشعر والإحساس.
نقرأ القصيدة التي تشرح لنا الحالة أو الحالات الكثيرة من عوارض النفس البشرية، ثم لا نزال نترقب من الشاعر مغزاه ونتوهم النقص في غرضه، أو نحن نقرأ القصيدة التي تومض لنا بالصور الخيالية، والمواقف الدقيقة ونعدوها كأننا لم نجد عندها مستوقفًا ولم نظفر بخبر، وتوماس هاردي غني بشعر الحالات النفسية، وإن لم يكن غنيًّا مثل هذا الغنى بشعر الصور الخيالية، فالتمثيل ببعض كلامه الذي يقل فيه ما يسمونه «بالمعاني» يعين على تقرير هذا الغرض الذي أردناه، ويرينا كيف يكون الكلام في الطبقة الأولى من الشعر بعد تجريده من زينة الصياغة الموسيقية، وخلوه من تلك «المعاني» التي يولع بها عندنا أناس يحسبون أنفسهم خيرًا من طلاب الألفاظ والأساليب، وهم مثلهم في الضلال عن روح الشعر ورسالة الشعراء.
هذا سببان لاختيارنا التمثيل من شعر توماس هاردي، وثمة سبب ثالث فيه بعض الغرابة ولكنه وجيه في رأينا كل الوجاهة، وذلك أننا نعد توماس هاردي من شعراء الطبقة الثانية ولا نعلو به إلى المقام الأول بين رهط الشعراء الكفاة الذين جمعوا خصال الشعر من موسيقية وإلهام وبداهة عالية ونفاذ وشيك، فليس في التمثيل به تكليف بشطط، ولا غلو في التحدي، ولا مهرب للذين يعتذرون عن شأو الكمال إلا أن يقنعوا بما دون ذلك من منازل الشعراء، ولو مثلنا لهم بالآخرين الذين تفردوا في عصورهم وأقوامهم عن النظراء لما كان عليهم ضير أن يخلدوا إلى العجز ويلقوا يد التسليم.
قلت للحب: ليست الدنيا الآن كما عهدتها في سالف الأيام. أيام كان الناس يعبدونك ويعبدون أساليبك وبدواتك، ويرفعون لك عرشًا لا تعلو عليه العروش. أيام كانوا يسمونك الصبي، والجميل، والوحيد، ويزعمونك باسطًا لهم تحت الشمس سماء النعيم. قلت للحب.
قلت له: إننا لنعلم اليوم ما لم يكونوا يعلمون، وإننا لضعاف رأي يوم أن كنا نفتح لك قلوبنا المفعمة، ونضج إليك عسى أن تلقي فيها بلواعجك وآلامك. قلت للحب.
وقلت له: ما أنت بالفتى ولا أنت بالجميل، وما أنت بالجني الصغير يلعب بسهامه، ولا الملك الطهور يتخايل في وسامة، وما كان سيما الإوزة الناعمة، ولا الحمامة الوادعة، وإنما هي ملامح القسوة المتجهمة ملامحك، وخناجر الحديد الطاعنة سهامك، وسلاح الفتك والغيلة سلاحك. قلت للحب.
قلت له: سحقًا لك يا حب إذن، وفراقًا عنا إلى حيث لا معاد! أو يفنى الإنسان تقول؟ ويجهل الجيل غدًا ما يكون وما يحول؟ لقد شاخت نفوسنا يا حب في هذا الزمان، فما نبالي منك ذاك الوعيد، وسيفنى الإنسان! نعم ليذهب إلى حيث شاء! قلت للحب.
هذه إحدى النماذج التي نمثل بها لشعر الحالات النفسية، فتخيل أيها القارئ مجمعًا من ظرفاء الأدب عندنا يتناولونها بالنقد والتقدير، وقل لي كيف يحكمون على هذا الشعر وأي الحسنات يرونها فيه وأيها تنقصه وكن على يقين أن مصير القطعة عندهم «سلة المهملات» أو أي مصير يشبهها غير مأثورات عقولهم التي هي أشبه شيء بسلة المهملات! فلا «معنى» هنا ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا مراعاة نظير! ودع عنك اللطافة التي يتأفف صاحبها اللبق الرشيق من شاعر يصف ملامح الحب بالجهامة، وسهامه بالخناجر، وسيماه بسيما الغائلة وقطاع الطريق! ودع عنك الأناقة التي يتسخط صاحبها على شاعر يطرد الحب ويجازف بفناء الإنسان! فهذا بعض نصيب هاردي من ظرفاء الأدب عندنا، وهذا هو الحكم الرءوف الذي نتلقاه من منصة ذلك القضاء، ولكنك إذا ضربت صفحًا عن هؤلاء الأمساخ الهازلين ونظرت إلى القطعة من حيث هي ترجمان صادق لحالة تعتري النفوس الشاعرة، فهناك تعلم كم من الحياة يحتاج إليه الإنسان ليقول مثل هذا المقال، وتفهم كيف أن ناظم هذه القطعة لم تفته صورة من صور الحب في أجيال الخليقة من إنسان وحيوان، فما قالها إلا بعد أن أحس شبع الإحساس بضراوة الحب المفترس يمعن في عالم الحيوان قتلًا لا رحمة فيه ولا إمهال، وطغيان الحب الخالب يستغوي أبناء الفناء برونق الفتنة، وهو موت أصم أعمى لا يصغي ولا يحيد ولا يحفل ما سعادة النفوس وما هناءة البيوت وما شقاء الآباء والأبناء والأمهات وما سموم الغيرة ومرارة اليأس الخفي، وحسرات الفؤاد الكظيم، وما هان على الشاعر أن يذهب نوع الإنسان إلى حيث يشاء، إلا بعد أن بلا من الحب ما هو أشد من الفناء، وإلا بعد صرعات لا منفذ فيها للرجاء، ولا موضع فيها للعزاء، فإلى جانب هذا الفتور الشاحب الذي يسميه فتور الشيخوخة جحيم عذاب لا فتور فيه ولا سكون، ووراء هذه الملالة الهاجعة هاوية زافرة لا تبرد ولا تنام.
•••
ظلك أيتها الأرض — من القطب إلى المحيط — يدب الآن على شعاع القمر الضئيل في سواد لا شية فيه، وسكينة لا يخالجها اضطراب، وإني لأنظر إليه فأعجب كيف يستوي هذا الظل المنسوق، وذلك الجرم الذي أعرفه لك موارًا بالقلق والحيرة، وكيف تتفق هذه الصفحة الراضية كأنها الطلعة الإلهية، وأقطار عليك أيتها الأرض تموج الساعة بالأحزان والكروب!
واسأل: أهذا الشبح الصغير كل ما يطرحه الفناء الزاخر من الظلال على ساحة الفضاء! أحكمة الله التي أراد بها عالم الإنسان متجمعة كلها في حيز هذا القوس المرسوم! أكذلك يكون مقياس الكواكب لما تبديه الأرض ويكشفه عليها الزمان: من أمة تنحر أمة، ورءوس تغلي بالهواجس، وأبطال غالبين ونساء أجمل من طلعة السماء؟!
وهذه قطعة أخرى لا «معنى» فيها ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا مراعاة نظير ولا خاتمة تنبه الأسماع إلى النهاية بالأجراس والطبول، ولكن من الهزل والظلم أن يفرض لهذا السفساف وجود إلى جانب ذلك الكون المرهوب الذي يفتحه لنا هاردي في لحظة الخسوف: شاعر يقف بين الأرض وظلها ينظر إلى هذا تارة، وينظر إلى تلك تارة أخرى ويستعرض في لمحة الطرف كل ما يجمله الظل الممدود من معارض، وتواريخ، وأقدار، وخطوب، ثم يحاول أن يرى في الظل مثالًا من صاحبته، فإذا هو لا يرى إلا قليلًا زهيدًا ولا يملك إلا أن يسأل في امتعاض وخيبة: أهذا هو كل ما ترسمه الدنيا من الظل على ساحة الفضاء.
هذا حرم سماوي لا لغو فيه ولا صغار، فمن الظلم جد الظلم أن نقف عند بابه وفي نفوسنا ذكر لذلك السفساف الذي يهذي به أدباؤنا الفارغون، ويحكون به الشعر حكاية القردة للآدميين.
•••
آه! إخالك تحفر عند قبري يا حبيبي لتغرس على حوافيه أشجار الشذاب؟
كلا! حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء، وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض عهدي لها في الحياة.
إذن من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر؟ أقاربي الأعزاء؟
لا يا بنية! إنهم يجلسون هناك ويقولون ماذا يجدي؟ أي نفع لهذه الأشجار والأزهار؟ إن روحها لن يفلت من براثن القضاء، خلال ذلك التراب المركوم.
ولكني أسمع حافرًا يحرف هناك، فمن ذا عسى أن يكون؟ أهو عدوتي اللئيمة الرعناء؟
لا! إنها حين علمت أنك عبرت الباب الذي لا مفر منه، ضنت عليك بالعداوة، ولم تجدك أهلًا للكره والبغضاء، فما تبالي اليوم في أي مرقد ترقدين.
إذن من يكون ذلك الحافر على قبري؟! فقد أعياني الظن وأقررت بالإعياء!
أوه! إنه أنا يا سيدتي الودود! أنا كلبك الصغير أعيش بقربك، وأرجو ألا يزعجك ذهابي، ومآبي في هذا الجوار.
آه نعم! أنت الذي تحفر على قبري. عجبًا! كيف غفلت عنك، ونسيت أن قلبًا واحدًا وافيًا قد تركته بين تلك القلوب الخواء؟ وأي عاطفة لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب الأمين؟!
سيدتي، إنني أحفر عند قبرك لأدفن فيه عظمة أعود إليها ساعة الجوع في هذه الطريق، فلا تعتبي علي إزعاجك! فقد نسيت أنك في هذا المكان تنامين نومك الأخير.
تلك حالة أخرى من حالات النفس السائمة، قد بطلت خدعتها في عواطف المودة والولاء وعلمت عجز طبيعة الإنسان والحيوان عما نكلفها من وفاء نتعزى به في محنة العزلة والقنوط، فالميت في قبره لا يساوي أكثر من عظمة في قلوب الكلاب، ولا أكثر في القلوب الأخرى التي لا تبحث عن العظام في جوار القبور!
ولعلنا بعد هذه الأمثلة القليلة قد أفلحنا في غرض ليس بالطامع ولا بالبعيد. لعلنا قد أقنعنا بعض المخلصين في حيرتهم بأننا لا نتحكم ولا نعتمد التعجيز حين ننكر شعرًا يروقهم فيه ما يسمونه المعنى والأسلوب، ونعجب بشعر بسيط لا «معنى» له غير ما يجلوه من حالات النفوس أو صور الخيال.