ماكيافيلي١
– ما رأيك؟ إن كنت قد سمعت!
إذن لم تسمع أن أمرًا خطيرًا نادرًا قد حدث! إن قيصر قد ثأر لنفسه من خصومه وقبض على المتآمرين، إن أولفرنو وأرسيني ينتظران الآن حكم الموت، وتراجع في كرسيه ينظر إلى ليوناردو ويغتبط بدهشة، ثم تكلف السكينة وقلة التأثر، وأخذ يصف الفخ الذي نصبه قيصر لخصومه في «سنيجاجليا» ويقص على زميله كيف استدرجهم قيصر إلى لقائه، ثم قابلهم وعانقهم، وناداهم باسم الأخوة والمحبة، ثم جاء بهم إلى القصر، فما هو إلا أن دخلوه حتى تكنفهم الجند من كل صوب، وشدوا وثاقهم، وأودعوهم في زاوية منه، ريثما يقضي عليهم في تلك الليلة.
وانطلق ماكيافيلي يقول: الحق يا سيد ليوناردو لقد وددت لو أنك رأيت كيف كان يعانقهم ويقبلهم. إن لمحة واحدة مريبة أو إيماءة واحدة متهمة كانت تكشف عن نيته وتفضح كمينه، ولكنك ما كنت تسمع من صوته ولا تلمح من وجهه إلا الإخلاص الصادق الذي لا تشوبه شائبة، حتى لقد لبثت إلى اللحظة الأخيرة لا يساورني شك ولا يخطر لي أنه إنما كان يتصنع ويتراءى، وأحسب هذه الحيلة أجمل الحيل التي عرفت منذ كانت السياسة إلى اليوم.
فتبسم ليوناردو وقال: لا ريب أن سموه قد أبدى عن تقحم ودهاء، ولكنني لا أدري ماذا في هذه الخيانة مما يستطير إعجابك؟
– خيانة! كلا يا سيدي، عندما تكون المسألة مسألة إنقاذ لوطنك لا موضع ثمة لخيانة أو أمانة، ولا لخير أو شر، ولا لرحمة أو قسوة، فكل الوسائل سواء إذا بلغت إلى الغاية.
– وهل هذه مسألة إنقاذ وطن؟ إني إخال قيصر لم يُعْنَ إلا بمصلحته!
– أهكذا أنت أيضًا لا تفهم؟ إن قيصر هو عامل المستقبل في إيطاليا المتحدة، وما كان زمن قط بأليق من هذا الزمن لظهور البطل، وإذا كان لا بد لإسرائيل أن ترسف في الأسر لينبغ فيها موسى، أو كان لا بد للفرس أن يذعنوا لنير الميديين تعظيمًا لجلال قورش، أو كان لا بد للأثينيين أن يهلكوا في صراعهم تمجيدًا لطسيوس، فاليوم لا بد لإيطاليا أن تحمل العار والذل وأن تعنو وتتمزق بغير رأس ولا زعيم ولا دليل، وأن تحرم وتوطأ بالأقدام وتصطلح عليها جميع الكوارث التي تُبتلى بها الأمم لكي ينبغ فيها البطل الجديد الذي ينقذ وطنه، وكأي من رجل خيل إليه أنه هو البطل الموعود ثم مات والعمل العظيم باقٍ لم يُعمل، وها هي الآن لقى بين الموت والحياة في انتظار منقذها الذي يأسو جراحها، ويقضي على الفوضى في لومباردي، والنهب في توسكاني، والقتل والبغي في نابولي، وهي تتضرع إلى ربها ليل نهار عسى أن يبعث إليها المنقذ المنظور.
– … من يعش يرَ يا صديقي نقولا؟ ولكن دعني أسألك سؤالًا، ما الذي ألقى في روعك اليوم أن قيصر هو المنقذ المختار من قبل الله؟ أتراها حادثة سينجاجليا هي التي أقامت لك الدليل على بطولته؟
– نعم؟
قالها ماكيافيلي وهو يستعيد سكينته ومضى يقول: «إن السطوة في عمله هذا قد دلت على أنه صاحب المزية النادرة التي تمزج بين المواهب العظيمة ونقائضها. أنا لا ألوم، أنا لا أمدح، وإنما أنا دارس يختبر، وإليك رأيي في هذه القضية. إن من طلب شيئًا فإنما يناله بإحدى وسيلتين: بالوسيلة المشروعة أو وسيلة القوة، والأولى صفة الناس والثانية صفة الدواب، ومن شاء أن يحكم فلا مناص له من الاثنتين ولا محيص له من أن يعرف كيف يكون إنسانًا تارة ودابة تارة أخرى، وذلك هو مغزى الأساطير القديمة وما ترويه لنا عن «أخيل» والأبطال الآخرين الذين رباهم شيرون ذلك الكائن الذي نصفه دابة ونصفه إله، أما سواد الناس فلا طاقة لهم بالحرية، وإنهم ليخشونها أشد من خشية الموت. إنهم إذا اجترحوا إثمًا سحقتهم وطأة الندم. ولكنه هو البطل، رجل القدرة، ذلك الذي يطبق الحرية ويحطم الشرائع بغير خشية ولا توبة، والذي يظل بريئًا في الأذى، كما هو شأن الدواب أو شأن الأرباب. فاليوم قد رأيت في المرة الأولى من قيصر علامة على أنه هو المختار من قبل الله.»
ذلك هو رأي ماكيافيلي في قيصر بورجيا كما حكاه مرجكفسكي في رواية «الرائد» أما رأي قيصر في مكيافيلي سفير فلورنسة في بلاطه فهاكه كما جاء على لسان هذا الراوية الألمعي. قال: واغتنم ليوناردو الفرصة فطلب من الأمير إذنًا بلقاء السيد نيقولا، فهز الأمير كتفيه وهو يبتسم في دعابة: إنه لغريب صاحبك نيقولا هذا؛ إنه يسأل الإذن بالمقابلة ثم لا يقول شيئًا، ما بالهم يرسلون إليَّ مثل هذا الإنسان الغامض العجيب! ثم سأل ليوناردو رأيه فيه فقال ليوناردو: لقد وجدته يا صاحب السمو رجلًا من أصدق ما رأيت في حياتي فراسة وأسدهم نظرًا.
قال الأمير: لا ريب في ذكائه، ولا يخامرني الشك في قدرته على فهم الأمور، ولكنه مع هذا غير جدير بالاعتماد عليه، إلا أنني أوده ويزيدني مودة له حسن رأيك فيه، وإنه لسليم الطوية وإن كان ليخال نفسه أدهى بني الإنسان! وربما خاتلني أنا؛ لأنه يراني عدوًا لجمهوريتكم! ولكني أغفر له خداعه لعلمي أنه يحب وطنه أشد من حبه لنفسه، إنني سأستقبله، أبلغه ذلك، وعلى ذكر الرجل أذكر كأنني سمعت أنه يجمع كتابًا في فنون السياسة وحيل الحرب، أليس كذلك؟
هل أتاك نبأ الكتيبة المقدونية؟ لا! إذن فاسمع: جاء السيد نيقولا مرة إلى قائدي بارتولميو كابرانيكا وبعض زملائه من الضباط وطفق يشرح لهم من كتابه في الحرب كيف تصطف الجيوش على نظام تلك الكتيبة، وكان في شرحه فصيحًا مبينًا حتى اشتاقوا جميعًا إلى رؤية الكتيبة في الميدان، فذهبنا إلى ساحة ملائمة للتجربة، وتركنا نيقولا يصدر الأوامر إلى الجنود، فماذا صنع؟ حسن، إنه لبث زهاء ثلاث ساعات يجاهد مع ألفين من الجنود يعرضهم للبرد وللمطر وللريح عسى أن تنتظم الكتيبة المقدونية والكتيبة لا تنتظم، وبعد لأْيٍ وعلاج طويل ضاق بارتولميو ذرعًا وتقدم — وهو لم يقرأ كتابًا حربيًّا قط — فجمع الصفوف على النظام المطلوب في لمح البصر، ومن هذا يتبين لك الفرق بين العمل والنظر، ولكن ألق بالك جيدًا إن أشرت إلى هذه الحكاية. إن السيد نقولا لا يحب بعدها أن يُذَكَّر بشيء مقدوني على الإطلاق!
وهكذا بينما كان ماكيافيلي يقدس قيصر بورجيا، ويجعله رسولًا من قبل الله، وبطلًا مدخرًا لإنقاذ الوطن، كان قيصر بورجيا يتفكه بدهاء ماكيافيلي وفنونه السياسية وتنظيماته العسكرية، ويتخذه لهوًا وسخرية لفراغه، ويأبى أن يضيع الوقت في الإصغاء إليه، ولا تظنن هنا أنك تقرأ قصة من القصص التي يخلقها الخيال، ويبالغ فيها التمويه والتكميل، كلا! فإن الحقائق التاريخية كلها تصدق ما رواه الكاتب، وتحكي مثل ما حكاه من خلائق الرجلين العظيمين اللذين اقتسما السياسة بينهما في عصرهما، فباء أحدهما بالنظر والخيبة وباء صاحبه بالعمل والغنيمة، ولم يكن حظ ماكيافيلي عند حكومته بأسعد من حظه عند قيصر، أو عند القواد الذين ألف لهم كتابه وود لو يدربهم على تنظيم الصفوف وتعبئة الجيوش! فقد كان رجال حكومته يبخلون عليه بمرتبه ويؤخرونه عمن هم دونه في العلم والعبقرية، وكان الرجل يحب وطنه، ولكنه يستصغر حكامه لما يراهم عليه من الجهل والضعة، والبعد عن مثال الحاكم المختار في رأيه، وكان طيب القلب، ولكنه يخجل من طيبته كأنما يخجل من جريمة؛ لأنه اعتقد أنه مهيأ في الدنيا لعمل جليل، وأن جلائل الأعمال لا تليق بها الطيبة والسلامة، وكان صادق الفراسة في الناس، ولكنه كان لا يعلم كيف يروضهم على ما يريد، وكيف يتوسل إليهم بوسائل الإقناع والقبول، فلم يبقَ له إلا أن يؤلف في السياسة بعد أن أعياه أن يعمل في السياسة! وإلا قنينة الخمر! وزيارة الحانات البعيدة في أطراف المدينة! وإلا مصاحبة إخوان السرور وأخدانه يفسر لهم ولهن على مائدة الشراب أبيات بترارك وألغاز الأدب، ويكشف لهم ولهن عما فيها من المضامين والتوريات، وهذا الداهية الغرير هو مؤلف كتاب الأمير الذي يتخذه بعض الناس إنجيلًا للطغاة المستبدين، ويتخيلون صاحبه مثلًا في الشر والغيلة، وإيثار المنفعة والتزلف إلى الأمراء، وما كان للرجل نصيب من تأليفه إلا سوء القالة، ولعنة الجاهلين بتلك الحقيقة المظلومة.
وأما كتاب الأمير، فهل تراه أفاد أحدًا من الأمراء والحكام! لا نظنه أفاد أحدًا من هؤلاء، وإنما فائدته للقارئين الذين يعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون من خلائق الطغاة ورياضة الشعوب، وسيكون الحكام أبدًا كما كانوا في كل زمان بين «عمليين» لا حاجة بهم إلى الهداية في هذا المجال أو «نظريين» لا قدرة لهم على تطبيق النظريات، ولسنا نقول: إن السائس المفطور مبرأ من الخطأ غني عن الإرشاد، ولكنا نقول: إنه إذا أخطأ فخطؤه عملي قلما يفيد منه البحث والتفكير، وإذا صحح زلاته فتصحيحه لها عملي لا شأن له بالنظريات، وهو يخطئ ويصيب في دائرة العمل فلا تدخل الكتابة في نظام حياته إلا من باب الإيجاز والتنفيذ لا من باب التحليل والتعليل.
نسأل: هل أفاد كتاب «الأمير» ولا نسأل هل أضر؛ لأننا لا نحسب أميرًا عدل عن الخير إلى الشر بتعليمه، وظالمًا كان ميله إلى الظلم من أثره، وقد قيل: إن عبد الحميد كان يقرؤه ويدمن مراجعته، ولكنا نظن أن عبد الحميد كان هو هو ولو لم يخلق في الدنيا السيد نيقولا، ولم يكتب فيها حرف من كتابه، وما كان عدد الغرقى في البسفور أو القتلى في المكامن لينقص واحدًا لو أن عبد الحميد لم يطلع في حياته على كتاب الأمير، ولم يسمع باسم ذلك الأديب الظالم المظلوم.
قيل: إن بسمارك ندم على سياسته القاسية التي جنى بها على الأمم القتل والأسر، وغامر فيها بهناءة الجموع والآحاد، وقد كتب في سنة ١٨٥٦ يقول: لتكن مشيئة الله. كل شيء هنا في هذه الأرض إنما هو مسألة وقت وأوان، فالأمم والأخلاق، والحماقة والحكمة، والسلم والحرب، تذهب وتجيء كالأمواج والبحر باق حيث كان، ولا شيء على الأرض إلا الرياء والتدجيل وسواء ذهب عنا هذا الحجاب من اللحم والدم بإصابة من الحمى، أو بقذيفة من الرصاص، فإنه لذاهب في القريب العاجل أو بعد حين، ويومئذ يتشابه البروسي والنمسوي، فيعود من أصعب الصعب تمييز هذا من ذاك.
وبعد عشرين سنة كان بسمارك يصطلي في قصره بفارزين وأمامه تمثال النصر يفرق التيجان، فأطال السكوت وهو ينظر أمامه، ويلقي في النار بعيدان الحطب من حين إلى حين ثم أخذ فجأة يذكر جهوده السياسية، ويشكو من أنها تركته بغير عزاء ولم تمتعه بالرضا عن نفسه ولا بالصداقة من الآخرين، ولم يجلب بها السعادة لأحد قط … «فلا هو سعد بها ولا سعد بها أهله، ولا سعد بها أي إنسان» قال بعض الحاضرين: ولكنك جلبت بها سعادة أمة عظيمة. قال بسمارك: «نعم! ولكن شقاوة كم من الأمم؟ فلولاي لما وقعت حروب ثلاث من أهول الحرب، ولولاي لما هلك ثمانون ألف إنسان، واشتمل الحزن الأليم على الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأيامى. لقد سويت حساب ذلك كله مع خالقي، ولكنني لم أنل سرورًا قط، من جميع تلك الجهود.»
هذه فلسفة قطب من أقطاب السياسة العملية، الذين يريدهم ماكيافيلي لإنقاذ الشعوب، ولكن في أي ساعة؟ في ساعة الخلو والعزلة والإخلاد إلى الدعة والتأمل، ولو عاود الرجل مكانه وانغمس في لجة العمل مرة أخرى، وأسلم أذنيه وعينيه لضوضائه ولألائه لنسي هذه الفلسفة أو لما منعه ادكارها من تكرير تلك الحروب، وإلقاء الألوف من الناس في غمرة الأحزان والآلام، فإن كان لكلام بسمارك في عزلته دلالة فتلك الدلالة المحزنة التي لا مفر منها لباحث في شئون الناس، وتلك هي أن السعادة في الدنيا حرام على القادرين والعاجزين، وألا رضا عن النفس لناجح ولا لمخفق في هذه الحياة.
مضت أربعمائة سنة على وفاة ماكيافيلي فاحتفى بذكراه الإيطاليون وتحدث الناس بفلسفة ذلك الماكر السليم، ولقد طوت هذه المئات الأربع كثيرًا من أضراب قيصر بورجيا وبسمارك في القسوة والخديعة، وأخذ الشعوب بالحيلة والنفاق، أو بالقمع والإرهاب، ولكننا على يقين أن ليس الأستاذ نيقولا مسئولًا عن فاجعة من فواجعهم المشئومة، وأن كتاب «الأمير» لم تسفك فيه قطرة ولا مزق من جرائه شلو غير قطرات المداد وأشلاء الأوراق! وقد احتفل العالم بذكرى «رجل طيب» حين احتفل بذكرى نبي القسوة والدهاء، ومعلم القادة والسواس فنون البطش والطغيان — فهل ترانا نحسن إلى رفات الرجل في قبره أم نسيء إليه بهذا الثناء الذي كان يخجل منه في حياته، لا ندري ولكننا ندري أنه حقيق بذلك الثناء، وأنه كان «رجلًا طيبًا» على كل حال.