العقل والعاطفة١
قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردًّا للأستاذ الزهاوي على مقال كتبته عنه مجيبًا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ الزهاوي من الملكة العلمية، أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي، فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول: إنه فيلسوف، وإنه شاعر، لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدًا أو أكثر، فإنني لم أتكفل بهم، ولا تحسب علي أخطاؤهم، أو يختلس مني صوابهم، ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح، فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام، وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ الزهاوي من الفلسفة والشعر ولا لمطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.
- (١)
يقول الأستاذ الزهاوي: «من طار بجناح العقل أخيرًا لندبرغ؛ وصل إلى باريس من نيويورك في ٣٤ ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»
وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في ٣٤ ساعة، ولعلهم يصلون غدًا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب، ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله إلا كانت العاطفة هي محركه وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلمًا من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة، واتجهت إليه الرغبات. وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.
ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول: إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير، فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع نحن الشرقيين أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداءة؛ لأنها وليدة البواعث وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث أي في الخلق والإحساس، وليس تفاوتًا في العقل والتفكير، وطريقنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح، وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل.
- (٢)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابًا للمعرفة مستثنيًا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجا باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»
أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها، وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، هي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن نفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وأن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء. فالدنيا لا تتغير ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الخلق والتنويع، وليس من المنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئًا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يغرب عنا أبدًا أن وراء هذه الحواس ينبوعًا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكًا لا حد له من الصيغ والتعريفات.
- (٣)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعهما فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان البدائي بل الحيوان أكبر فلاسفة الأرض لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب، أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة، ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق، وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان، وكم خالفه أهلها وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم، ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»
هذا الذي يقوله الأستاذ الزهاوي! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون، و«أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها، فالحب عاطفة ولكنه يجرح نفوسًا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيمًا لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها، فإن أصحاب العقول لربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنيين و«أولاد البلد» المتظرفين.
وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ: إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبًا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين. وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة والخيال، ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.
ولقد ذكر الأستاذ اسم دارون صاحب النشوء والارتقاء، فهل له أن يذكر أيضًا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفًا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع، وتلاقح الإنسان والحيوان! نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنًا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل من تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضًا أن دارون ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب النشوء والارتقاء؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.
ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق» وهذا الذي أقوله أنا وأقول معه: إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يقول عن عمل من أعمال الناس ينبغي أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم فما هي السعادة! إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنساني «عاطف» فلا حاجة به لإنسان.
•••
- (١)
ألا يمكن أن يقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟
- (٢)
لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسًا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلًا يستند إلى دليل مشكوك فيه. أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا دعواهم: اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسًا يتماثلون وأجرامًا تتماثل فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، إن وجدتم فعودوا إلينا إذن بالنبأ اليقين؟!
إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة، مضت عليها أزمنة مختلفة، وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الوضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل إن كان له اقتضاء؛ فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين فيجب — لهذا السبب عينه — ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟
نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم حفظه الله أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف، فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة، فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!