شكسبير (١)١
سيان أن نكتب عن شكسبير، أو عن الطبيعة البشرية، وحقيقة الشاعرية، فشكسبير عنوان كلا عنوان، وموضوع كلا موضوع؛ لأنه هو موضوع يمس حياة الإنسان وكل شيء يعنينا من خلائق النفوس، إذ أي شيء «إنساني» ليس شكسبير؟ وأي شيء يعنينا في هذه الدنيا ليس بالإنساني في بعض نواحيه؟
في روايات شكسبير وأشعاره رجال كثيرون، يعملون ويتكلمون ويتفكرون بما تعرب عنه الكلمات، وبما تنطق به المواقف ولا يلفظه اللسان. هم على اختلاف في المراتب فمنهم الملوك والوزراء والقادة والتجار والصناع والمتسولون ومن لا مرتبة لهم ولا عمل، وهم على اختلاف في الطبائع والأخلاق، فمنهم الكريم واللئيم، وذو النجدة والأريحية، وصاحب الدسيسة والخديعة، والحكيم الأريب والأبله المغرور، والعليم والجهول، والقوي المستضعف وأولو الكفاية في كل فن من فنون الحياة، ومن لا كفاية لهم في شيء من الأشياء، وهم على اختلاف في الحالات والأطوار فمنهم الظافر والمخفق، والراضي والغاضب، والمستبشر والقانط، والمحب والسالي، والطامع والزاهد، ومن هو مزيج من هذه الحالات ومن ليس له في حالة منها نصيب معدود، وهم على اختلاف في الأسنان فمنهم الشيوخ الفانون، والفتيان في مقتبل الحياة، والكهول والصبيان، وكل هؤلاء يعرضهم شكسبير عليك فإذا هم يعملون كما ينبغي أن يعمل، ويقولون كما ينبغي أن يقال، ويفكرون كما ينبغي أن يعهد فيهم التفكير، ويسيرون في حياتهم وبين أصحابهم وعشرائهم كما ينبغي أن تكون السيرة لكل سن، ولكل حالة ولكل خليقة ولكل مقام، وإذا بهذا الشاعر في علمه الذي لم يأخذه عن الأساتذة، وفي مرتبته التي لم تعد يسار الفقراء، وفي وظيفته التي تقلب فيها بين الفلاحة والتمثيل، يصور لك الملك في حالاته وكلماته فلا يخطئ التصوير، ويمثل لك كل إنسان فلا يخالف الحقيقة ويجيء لك بروايات كأنما هي خريطة الدنيا وضعت لتنشأ الدنيا على خطوطها من جديد إن أدركها البوار.
أعجب من هذا في العجب نساء رواياته وهن متباينات في السن، والمزاج، والفكر، والخليقة، والبيئة، والمقام. محبات على اختلاف في اللهو، وطيبات على اختلاف في الطيبة، وداهيات على اختلاف في الدهاء. كلهن صنعة كاملة لا أمت فيهن ولا عوج، ولا مبالغة ولا تفريط، فلو قيل: إن شكسبير رجل ولا يخفى عليه ما في طبيعة الرجال عظموا أو صغروا، وطابوا أو خبثوا، فماذا يقال في تصويره للنساء إلا أنه إلهام نافذ وبصيرة صادقة، تنطبع عليها مشاهد الحياة فإذا هي كلها على حد سواء في الجلاء والإتقان؟
بل أعجب من هذا في العجب أن يدخل شكسبير في رواياته أناسًا مرضى العقول أو مصابين بضروب الهوس، فيقول عنهم أو يجعلهم يقولون ما لم يعرفه أطباء عصره، وما لم يعرفه الطب الحديث إلا منذ عهد قريب، ثم يأتي الأطباء المتفرغون لهذه الأمراض، فيأخذون أعراضها من رواياته كما يأخذونها من كل تجارب المستشفيات، ويستعرضون دلائلها في أبطاله كما يستعرضونها في بدوات المرض وفي كتب «التشخيص». وتلك آية لا مثال لها على استقامة القريحة في الملاحظة والاستيعاب، فكأنما هي خلايا الجسم الصحيح يأخذ كل منها حظه من الغذاء، ويقوم بقسطه من العمل بلا إملاء ولا تدبر ولا اكتراث.
وربما كان أعجب من كل هذا علمه بعادات الجماهير، والتفاته إلى أطوار الجماعات، وأساليب الدعاة في تقليب شعورها من السكون إلى الهياج، ومن المودة إلى العداء، ومن الشكر والإعجاب إلى الذم والانتقام، فمذ كم من السنين بدأ العلماء يكتبون في «نفسية الجماعات» ويدرسون طبائع الجماهير، ويدونون الحقائق والآراء عن هذا الباب الجديد من أبواب النفسيات؟ منذ سنين لا تتجاوز الخمسين، ولم تكن في عصر شكسبير حكومات شعبية كالتي نعرفها اليوم، فكنا نقول: إنه نقل عما سمع ورسم على ما رأى، ولم يصل إليه من أنباء الرومان واليونان إلا ما وصل إلى كل قارئ بين عامة القراء في زمانه، فما استخرج منه أحد «علمًا» لأهواء الجماعات، ولا وصفًا لأساليب الدعاة، ومع هذا أي أستاذ في النفسيات يفطن إلى دقائق هذه المعاني كما فطن إليها صاحب رواية «يوليوس قيصر»، وواضع الموقف الذي انقلب فيه «الجمهور» من موالاة قاتليه إلى ملاحقتهم بالمسبة والتعزير، واشتداد الطلب في أثرهم بالقتل والتدمير؟ أي خطيب يعرف من أسلوب الدعوة ما عرفه ملقن «مارك أنطوني»، ذلك الخطاب الذي بدأ بالبكاء وانتهى بالفتنة العمياء.
هذه قدرة لم يضارع شكسبير فيها أحد من شعراء الأرض قاطبة، ولم ينسغ في الغرب شاعر يسوغ للشهرة والعبقرية أن تسولا له التطاول إلى مقامه، إلا شهد له بهذه المنزلة التي لا تطاول، واعترف بها اعتراف من يقر بعظمة الله فلا غضاضة فيها ولا عار، إذ هي قدرة شذت وانفردت حتى علت على الأنانية والعصبية، وأصبحت من عجائب الطبيعة التي لا يضير المرء أن يشهد بها لهذه الأمة أو لتلك، ولا يخطر له أن ينكرها على أهلها وصاحبها، إلا إذا خطر له أن ينكر الشلال على نياجرا أو الدر على البحار، فليس شكسبير بإنسان من الناس في هذا الاعتبار ولكنه خارقة إلهية لا يدخلها الناس فيما بينهم من المنافسات والموازنات، بل لقد اتخذ بعض النقاد هذه الخارقة فيه سبيلًا إلى انتقاصه فقالوا إنه قطعة من الطبيعة العمياء، وإنه يبني شخوصه كما يبني النحل خلاياه بلا قصد ولا علم، ولا احتمال للغلط ولا فضل في الإتقان.
إن كثيرًا من قراء الأدب عندنا لا يفهمون وجه المعجزة في جعل أناس كثيرين يتكلمون كما ينبغي لهم أن يتكلموا، ويعملون كما ينبغي لهم أن يعملوا، ويعرضون لها في المعرض الذي يلائمهم من الفكر والخليقة والسن والحالة النفسية والمقام، فهؤلاء عليهم أن يذكروا المشقة التي يعالجونها حين يعن لهم أن يصفوا إنسانًا يعرفونه ويعاشرونه ويسمعون كلامه في كل موقف، ويشهدون عمله في كل مجال. إنهم يعالجون مشقة عظيمة في استجماع تلك الأقوال والأعمال ثم في تحليلها وتقسيمها ثم في استخراج ما وراءها من المشارب والطباع، ثم في نقل تلك المشارب والطباع إلى أوصاف في اللغة تطابق الحقيقة، وتدل على صاحبها أصدق دلالة، فإذا كان هذا مبلغ المشقة في وصف من نشاهد ونعاشر، فأشق منه جدًّا أن نصف من نتخيله أو نقرأ عنه أو نخلقه على غير مثال نراه، وأصعب من هذا وذاك أن نترقى من الوصف إلى تركيب «الشخص»، وإرساله مرسل الأحياء حين يشعرون ويتكلمون ويعملون، نعم. ذلك أصعب جدًّا من مجرد تسمية الصفات وسرد عناوين الأخلاق والكفايات، فإنك قد تنظر إلى الرجل فتعرف مكره واحتياله، ولكن المسافة لا تزال بعيدة بين هذه المعرفة وبين أن تبين لنا كيف يعمل الماكر المحتال في كل حادث يتفق له وكل موقف يجمعه بسواه، والمسافة لا تزال بعيدة أيضًا بين تبيين عمله في الحوادث والمواقف وبين خلق تلك الحوادث والمواقف خلقًا يناسب مجمل أحواله ومجمل أحوال المشتركين معه في الرواية الواحدة، وقد تعرف المئات من الناس كلهم يوصفون بالصدق والعلم والمروءة والدماثة، ولكنك تنظر إليهم إذا تأملتهم فتعلم أنهم «شخصيات» متعددة متفرقة على اتفاقهم في أسماء الصفات والطباع، بل نجد أن أحدهم قد يعمل في حالة من الحالات ما يأبى أن يعمله غيره، ويقول في شيء من الأشياء ما لا يقوله الآخرون، فالوصف إذن مشقة عظيمة ولكنه قدرة لا تذكر إلى جانب القدرة على تركيب الشخصيات والمواقف، والفرق بينهما كالفرق بين من يتفرج ويفهم ما يتفرج به وبين من يخلق الشيء الذي يفهمه الناظرون.
فإذا قيل لأدبائنا هؤلاء الذين لا يفهمون معجزة شكسبير: إن هذا الشاعر قد أبدع في قريحته مئات من تلك «الشخصيات» التي ينم وصفها فضلًا عن خلقها على قدرة نادرة وعبقرية رفيعة، فحري بهم إذن أن يلموا بطرف من تلك العبقرية، ويقفوا على حذر عند ذلك الغور، وأن يذكروا أن هذا كله فضل يضاف إليه فضل مثله في الإعجاز والإغراب، وهو فضل الجمال الذي كسيت به تلك الصور، والبلاغة التي نطقت بها تلك الشفاه، والشاعرية التي تبهر السامع بنظيمها كما تبهر المتأمل بنفاذها وإلهامها، والسحر الذي هو حسب القائل من فخر إن لم يكن لها لهو فخر تلك الفطنة وذلك الإلهام.
كبر على بعض النقاد أن يسلموا بتلك القدرة المعجزة، أو تلك القدر المعجزات لرجل نشأ كما نشأ شكسبير وتعلم كما تعلم، فراحوا يذكرون أفرادًا من العلماء والوجهاء ينحلونهم رواياته، ويرجعون إليهم بفضل تأليفه ونظمه! وهي حماقة يولع بها طلاب التسلية واللغو، ولا يعيرها التفاتة من يفقه ما التأليف وما المألفون، ولو لم يكن في روايات شكسبير من الأغلاط التاريخية والجغرافية والهفوات النحوية والصرفية، ما ليس يصدر عن أولئك العلماء والدارسين لجارت تلك الحماقة على كثيرين، فما أشبه هؤلاء اللاغين المتبطلين بمن يسمعون أن رجلًا حمل الجبل فيسألون: هل كان الرجل مصارعًا مضبور الخلق، أو كان رجلًا لا علم له بالجلاد ورفع الأحمال؟ إنا ها هنا حيال «معجزة» لا شك فيها ولا خلاف في وجودها، ولن تكون المعجزة أقل إعجازًا حين تحمل اسم مؤلف مستور، أو تحمل اسم «شكسبيرها» المشهور!