الكمال (١)١
… فكرت في تطور الحياة وسعيها نحو الكمال ثم سألت نفسي: ولكن هل الإنسانية بالغة من الكمال حدًّا ليس بعده غاية؟ وإذا بلغت ذلك الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وما هي تلك الصورة التي يتجلى فيها ذلك الكمال؟ وإذا كانت لن تبلغ حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي، بعثت إليك بهذه الخواطر لتبسط الرأي على صفحات البلاغ الأسبوعي، وتكشف عن الحقيقة، ولك مني جزيل الشكر.
إن الأديب صاحب هذا الخطاب يحسب أنني أعرف من أمر المستقبل ما لا يعرفه هو أو يعرف أي إنسان، وهذا حسن ظنه منه لا حيلة لي في تحقيقه، ولو شئت لأحلته إلى ما بعد ألف سنة، ووصفت له ما عسى أن يكون عليه حال الإنسان في المستقبل القريب فلا يستطيع أن يناقضني فيما أقول. أو يستطيع هو أن يناقضني، وأستطيع أنا أن أرجئ الأمر إلى أن يحين الموعد، ونرى أينا أدنى إلى الحقيقة! ولكني لا أحب هذه النبوءات المعلقة، وأريد أن أخطو معه خطوات في عالم المجهول، ونحن على مأمن من الرجعة إلى مكاننا في القرن العشرين.
ولا يحسبن الأديب أنني قليل الادعاء في علم المستقبل إلى الحد الذي تخيله له هذه المقدمة الوجيزة، فإنني مدع له الآن شيئًا أنا على أتم اليقين منه، وأوكد التوكيد من صدقه، فأقول له: إن الإنسانية لن تبلغ أبدًا حدًّا من الكمال ليس بعده غاية؛ لأن هذا ينتهي بنا إلى الكمال المطلق في مخلوقات لها بداية ونهاية ونشأة تندرج عليها من نقص إلى كمال، فضلًا عن أن الكمال المطلق شيء غير مفهوم، ولا يمكن أن يفهم؛ لأنه غير محدود، وكل ما كان غير محدود فليس في الإمكان حصره، ولا الإحاطة به من طريق المعرفة الإنسانية، وهو فضلًا عن هذا أيضًا غير مرغوب فيه لو أمكن وقوعه؛ لأن الحياة كلها قائمة على الحاجة والحاجة قائمة على النقص، فإذا كملنا كمالًا لا حاجة بعده فقدنا لذة الحياة من حب وطعام، وسعي وتحقيق للأمل، ونصر على المخاوف، إذ كان لا معنى للحب في مخلوق كامل المطالب؛ لأن الحب هو الحاجة إلى شريك أو الحاجة إلى خلف، ولا معنى للطعام من باب أولى ولا للسعي ولا للأمل والخوف، فالكمال المطلق إذن شيء لن نبلغه ولن نتصوره ولن نستريح إليه، والأديب صاحب الخطاب على هذا الرأي كما أرى لأنه يسأل: إذا بلغنا ذلك الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وهو على حق في سؤاله؛ لأن الحياة الإنسانية لا قيمة لها إذا بطلت فيها الحاجة، والسعي إلى سدادها، وإنما نترقى في الاحتياج كلما ارتقينا فيكون أرفعنا نفسًا ذلك الذي يحتاج إلى أمر لا يحتاج إليه من هو دونه. وحاجة الكمال نفسها مطلب لا يشعر به كثيرون، ولا يقلقون بالهم بما كان منه وما هو صائر إليه، فهذه ضريبة على بني الإنسان لا فكاك منها، ولا هم يستوفونها إلى أن يدركهم الزوال، وصدق من قال:
في قصيدتي «ترجمة شيطان» أمثل الشيطان الذي تاب عن الإغواء وأدخل الجنة، قائمًا يسأل الله جل وعلا: هل نستقر وبيننا وبين الكمال غاية؟ وهل نسعد ونحن غير مستقرين؟ وما نعيم الجنة إذا كنت أرى الكمال ولا أبلغه، أو أراه ولا أطلبه؟ هل يسلب مني الشوق إلى الكمال، فأنا إذن موكوس ممسوخ؟ أو يبقى فيَّ هذا الشوق فأنا إذن مجاهد محروم؟ كلاهما لا ينتهي إلى سعادة، ونحن ها هنا في النعيم وهل نطلب النعيم إلا لنعيش فيه سعداء؟!
فمن جرى على فلسفة هذا الشيطان فسبيله أن يسأل عن هذا المنوال، ولا يظفر ببيان وخير لنا هنا — على هذه الأرض — أن نستقر على شيء فيه بعض من سعادة الاستقرار، ذلك الشيء هو أن السعادة إنما هي في السعي والطلب، أو في الأمل الذي ينتقل بنا من حال إلى حال، فأما الاستقرار التام فلا نبلغه ولا هو بمحمود إذا نحن بلغناه. وقد أنصف شوبنهور حين شبه الإنسان في الحياة بالحمار الذي يصعدون به جبال الألب، ويضعون على رأسه حديدة يعلقون فيها العلف بحيث لا يناله ولا يغيب عن نظره! فهو أبدًا صاعد وهو أبدًا بعيد من ذلك العلف المأمول! ولكنه يصعد ويصعد وينسى مشقة الصعود، ويتلهى عن الجوع، ويقوم بأداء ما هو مسخر فيه، وكذلك الإنسان يفتأ ينظر إلى الأمل الذي بين عينيه فيخطئه أو يصيبه، ولكنه يستعين به على الصعود في مرتقى الحياة، ويؤدي ما هو مفروض عليه وهو يحسب أنه ساع إلى طعامه، فلنستقر على هذا إذا كان لا بد من استقرار، ولنعلم إن رضينا أو غضبنا أننا ما لنا غيره من قرار.
ندع الكمال المطلق غير مأسوف عليه، فما هو إلا الفناء أو شبيه بالفناء إذا قيس إلى الإنسان، ونسأل كما يسأل الأديب صاحب الخطاب: إذا كانت الإنسانية لن تبلغ حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي؟ ويبدو لي أنك لن تكون على يقين من هذا كيقينك من ذاك. أو قد تكون على يقين من مستقبل بني الإنسان، ولكنك لا تحب أن تفتح عينيك على ما تراه؛ لأنك لا ترى في النهاية الخاتمة إلا الزوال المحتوم، وإلا فإلى أي حال ينتهي الإنسان على هذه الأرض إلا أن يبيد كما تبيد الخلائق أجمعون؟ ليست أسباب الحياة مؤاتية أبدًا في هذه الدنيا، وليس الكوكب الذي نعيش عليه بمعصوم من الدمار، وستمضي القرون بالألوف أو بالملايين، كما نمضي غمضة العين في آباد الزمان، ثم يحين الحين، ويفنى كل من في الأرض قبل أن تفنى الأرض بقرون.
نبوءة لا تعجبنا ولا ريب، ولكن كم في الحياة التي نحياها الآن من أمور لا تعجبنا، وهي مع هذا كائنة لا يختلف فيها حيان! فنحن نحيا ونعلم أننا سنموت، ولا نكف من أجل هذا عن الحياة، وقد تسأل في سخط وريبة: ما فائدة الحياة إذن إن كان قصارى الإنسان على الأرض أن يبيد وتعفو ريحه من هذا الكوكب أبد الآبدين؟ فقل لي حماك الله كم من هذه الأمم التي عاشت وماتت وتعيش الآن وتموت يعلم فائدة ما من الحياة؟ فإن قلت إنهم يفرضون لها فائدة يعيشون لها، ويحتملونها من أجلها فاعلم علمًا ليس بالظن أنهم سيفرضون لها هذه الفائدة وما يشبهها ولو تحققوا فناء الإنسان، بعد كذا أو أكثر من الزمان! وأنهم قادرون على أن ينخدعوا ما داموا قادرين على أن يحيوا، فما ينخدع الشاب إلا لأنه أحيا حياة من الشيخ المتهدم، وما يخلو الشيخ من الخديعة شيئًا فشيئًا إلا؛ لأنه يخلو من الحياة، فستوجد لنا الحياة فائدتها المزعومة وستقنع بها أبناءها المؤمنين بها ما داموا في قيدها، ولو تحققوا الموت بعد حين. بيد أنهم لا يتحققون الموت ما دام فيهم رمق منها، ولا يزالون يتبعون الأمل ما داموا يحسون ويعقلون.
هذا ما أقدر لبني الإنسان في المستقبل البعيد، ولا يحزنني أن يكون هو المستقبل القريب، فإن كل أحد من رواد المستقبل أعظم تفاؤلًا مني، وأرفق ببني الإنسان رجاء، فعزائي أن تفاؤله ليس خيرًا من تشاؤمي، وأن تشاؤمي ليس شرًّا من تفاؤله، فيما يرجع إلى مصير بني الإنسان.
بقي أن نشغل أنفسنا بما يتاح لنا من الكمال المحدود في هذا العمر القصير، ولا عجب أن نشغل أنفسنا بهذا فقد سمعنا بالكثيرين ممن قضي عليهم بالموت يذهبون إلى الجلاد في أجمل بزة، وأحسن هيئة، ويأبون أن يذهبوا إليه شعثًا غبرًا على غير ما يليق بهم من السمت والجمال، فإذا كانت «الإنسانية» مقضيًا عليها بالموت بعد الدهر الدهير، فليس ذلك بمانع أحدًا أن يتزيا بما يتاح له من أزياء الكمال في البقية الباقية لها من العمر الطويل؛ لأن الكمال خير من النقص على كل حال، أو لعله أسهل من النقص في عرف من ينشدونه ولا يعيشون بغيره.
لكل عصر مثال أو أكثر للرجل الكامل في الحاضر والمستقبل، ولهذا العصر أمثلته الكثيرة للكمال، ولكنها تلتقي كلها في مثالين متناقضين: أحدهما هو «السبرمان» والآخر هو «الجنتلمان».
يتناقض هذان المثالان: فالسبرمان في رأي نيتشه — صاحب هذا المثال — إنسان فرد منظور في خلقه إلى نفسه لا إلى غيره، أما «الجنتلمان» فمنظور فيه إلى البيئة لا إلى نفسه، ومطلوب منه صفات اجتماعية لا توافق الصفات الفردية التي يطلبها صاحب ذلك المثال.
فالسبرمان طالب قوة لا يعدل بها شيئًا، أو طالب جمال؛ لأن القوة هي الجمال، وهو قهار متجبر لا يرحم نده، ولا يعطف على من دونه ولا يحسب للناس حسابًا إلا أن يكون ذلك لسفك دماء، أو مخالفة على عداء، وهو عضو في مجتمع، ولكنه كالعضو «الفزيولوجي» الذي يأخذ نصيبه من الغذاء كله، ولا يترك بقية منه للأعضاء الأخرى، إلا ما زاد على حاجته، وكذلك يجب أن تكون بنية المجتمع في رأي نيتشه، وإلا كان الجسم الذي ينزل فيه عن غذائه رعاية لعضو غيره مشفيًا على السقم والموت، وغير أهل لأن يجمع بين هاتيك الأعضاء، فآفة الحياة الإنسانية السليمة أن يأخذ فيها كل إنسان حقه، ولا يبالي بمن يعجز عن أخذ حقه لنفسه؛ لأن الجسم الصحيح يصنع هكذا في توزيع الغذاء على جميع الأعضاء.
أما الجنتلمان فيخالف هذا المثال من وجهين: يخالفه أولًا في أنه اختراع لم تخترعه عبقرية واحدة كالسبرمان، ولكنما اخترعته أمم وعصور لا تحصى، وإن كانت كلمته التي اشتهر بها من لغة الإنجليز، ويخالفه ثانيًا في صفاته الفردية والاجتماعية؛ لأنه يدين بالعطف الذي لا يدين به السبرمان.
والذين عرفوا «الجنتلمان» كثيرون، ولكننا نجتزئ منهم بتعريفي اثنين قد أحاطا بأحسن ما يقال في صفات هذا المثال، فالسير شارل والدشتين يقول في كتابه الأرستو، ديمقراطية «إن المثل الأعلى للجنتلمان يشمل فيما يشمله أن يكون رجل شرف، أي رجلًا يعنى في جميع أعماله بأن يعيش وفاقًا لأعلى مبادئه، على الرغم من وحي المصلحة والراحة الذي قد يجنح له إلى وجهة أخرى، وهو رجل قد أدخل في قانونه — غير ناظر إلى المنفعة أو المآرب الخاصة — أسمى مبادئ الأخلاق الاجتماعية التي تعرف في زمانه، فالشرف والنزاهة في جميع معاملاته، والصدق في صفقات العمل، أو في العلاقات الدقيقة بينه وبين الناس تمتزج عنده بالكرم والإقدام على اتخاذ تلك المبادئ التي لا تبالي أحكام الظروف، ورجل الشرف هو ذلك الذي لا يقدر على عمل وضيع ولا على فكر وضيع ولا على إحساس وضيع، والذي لا يستطيع عوضَ أن يكون جبان النفس أو جبان الجنان، وهو مثال الرجولة والشجاعة الأدبية، قد تعهد في نفسه شجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز والشهوات، وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور الذي يسيطر على ما حوله.»
ويقول الكردينال نيومان فيما نقله عنه المطران الفيلسوف «أنج» في كتابه «إنجلترا»: «ألزم تعريفات الجنتلمان يقال: إنه ذلك الذي لا يوقع ألمًا بأحد كائنًا ما كان، وإنه يجتنب جهده كل ما يخدش أذهان صحبه، أو يكدرها، وإنه يجتنب الصدمة والاحتجاز والكآبة والتذمر، وإنه يجعل همه الأكبر أن يدع كل إنسان على هينة وطمأنينة، ولا يتحدث عن نفسه إلا مضطرًا ولا يدفع عن نفسه لمجرد رد الإساءة، ولا يصغي إلى وشاية أو لغو، أو يتعجل بإسناد الغرض إلى من يتعرضون له، بل يفسر كل شيء على أحسن وجهه، والجنتلمان لا يكون وضيعًا ولا صغيرًا في منافساته، ولا يخلط بين الشخصيات والكلمات العوراء وبين الحجج والبراهين، أو يلمح بالسوء الذي لا يجهر به، وهو إنسان له فهم يعصمه أن يضطرب من العدوان وشغل يلهيه عن تذكر الإساءة، وحلم يأبى عليه الضغينة، وقد يكون على خطأ أو صواب في آرائه، ولكنه أصح فكرًا من أن يكون ظالمًا، وعنده من البساطة مثل ما عنده من الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه، ويلتمس الأعذار لما لهم من الأخطاء.»
فالصورة الأولى أقرب إلى الأدب، والصورة الأخيرة أقرب إلى الدين، وكلتاهما مثل أعلى يعسر وجوده في حقائق الحياة.
أي المثالين إذن أولى بالاتباع؟ الجنتلمان أو السبرمان؟
موعدنا بذلك المقال القادم إن شاء الله.