الكمال (٢)١
«الأبيرمنش» كلمة كانت معروفة في اللغة الألمانية قبل فردريك نيتشه، الذي تنسب إليه وتلصق باسمه، ولكنه هو أول من أعطاها المعنى الذي عرفت به، بعد شيوع مذهبه وترجمة كتبه، و«السبرمان» هو ترجمة هذه الكلمة باللغة الإنجليزية، ومعناها الإنسان الأعلى أو الإنسان الذي فوق الإنسان.
لما اتخذ نيتشه هذه الكلمة وأطلقها على بطله الموعود، كان ولا ريب يؤمن بمذهب النشوء والارتقاء، ويتوهم أن السبرمان سيخرج من الإنسان كما خرج الإنسان من القرد، ويقول: إن هذا الإنسان جسر يعبره القرد إلى السبرمان، ووسيلة إلى المستقبل، وليس بغاية ينتهى إليها، ولعل المسافة بين إنسانه الموعود، وإنسان اليوم ستكون أكبر وأغرب من المسافة بين إنسان اليوم وجدوده القردة وذوات الأربع! فالسبرمان على هذا خيال، أو مثل أعلى وليس بصورة مرئية يحتذى على مثالها، أو مرتبة مستطاعة في عهدنا هذا يرتقي إلى منالها.
أما «الجنتلمان» فهو في وصف الواصفين له شيء موجود ومعهود، يعد بالعشرات والمئات ويكثر مثاله في الأندية والمجامع، ومحافل السروات وأبناء الطبقات الرفيعة، فليس الاختلاف في شأنه إلا اختلافًا في تعيين صفاته، وحصر شمائله، وتعديد الخصال التي تبدو منه في كل يوم من أيام حياته، فالفرق بين الجنتلمان والسبرمان في هذا الحساب كالفرق بين الخلائق الحية وخلائق الأساطير، أو كالفرق بين الحقائق والأحلام.
ولكن الأمر على غير ما يتخيله أنصار السبرمان وأنصار الجنتلمان في هذا الاعتبار، فنحن نعتقد أن السبرمان كما وصفه نيتشه موجود أو موجود من يقاربه في أصول الأخلاق والمشارب، وأما الجنتلمان كما يصفه الكاتبون عنه فهو الخيال أو هو المثل الأعلى الذي لا وجود له في الآمال والأحلام.
فليس يندر أن تعرف في الوقت الحاضر — بل في التاريخ الماضي — إنسانًا من المتجبرين يطغى بأنانيته الساطية على أبناء زمانه، ولا يؤمن بغير عظمته وجبروته: الخير عنده هو ما أرضاه والشر هو ما أسخطه وخالف هواه، والفضائل والمحاسن لا قيمة لها في عرفه، إلا بقدر ما تصلح له وتجري مع مطامعه، والرذائل والمثالب لا معنى لها إلا أن تعوق مبتغاه، أو يتسم بها من لا يرمون إلى مثل مرماه، وهو في كل ذلك نبيل النفس، عالي الهمة، عظيم الدهاء، يقضي بالحيلة ما ليس يقضيه بالشجاعة ويعرف الصدق والخديعة كأنهما لونان من ألوان القوة يظهر بكل منهما حيث يوافقه، أو حيث تملي عليه البداهة الملهمة بغير إرادة ولا إطالة تفكير، إلى آخر هذه الأوصاف التي حققها نيتشه فيمن سماهم أنصاف السبرمانات، ثم لم يستطع أن يسمو إلى ما فوقها من أوصاف السبرمانات الكاملين.
أما الجنتلمان أو «رجل الشرف» كما جاء في تعريف السير شارل والدشتين «الذي يعني في جميع أعماله بأن يعيش وفاقًا لأعلى مبادئه على الرغم من وحي المصلحة والراحة، والذي قد تعهد نفسه بشجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز والشهوات، وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور» وكذلك جنتلمان الكاردينال نيومان «الذي لا يوقع ألمًا كائنًا ما كان، والذي عنده من البساطة مثل ما عنده من القوة، ومن الوضوح مثل ما عنده من الحزم، ويجب ألا يزاد على ما عنده من الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه ويلتمس الأعذار لما لهم من الأخطاء.» نقول أما الجنتلمان على هذه الصورة أو على تلك فهو أقرب إلى المثل الأعلى منه إلى الواقع المشهود، وأدنى إلى عالم الأحلام منه إلى عالم العيان، وربما بحثت في كل عشرة آلاف من أصحاب هذا العنوان فلم تجد واحدًا يعالج أن يكون على تلك الصفة من علو النفس وجمال الشمائل، وكل ما هنالك — أو أكثر ما هنالك — من الجنتلمانية صنعة يحذقها الطالب في بضعة أشهر، يتلقن فيها حركات وإشارات لا يصعب تلقينها، ويجري على أساليب في المعيشة لا يتعذر الجري عليها، ويحترس من إظهار عيوبه المحرمة في حكم هذه الصنعة، فإذا هو مقبول في مسلك أهلها، محسوب بين أصحاب عنوانها، ولا سيما إذا كان على شيء من التعليم، والإلمام بأوائل الفنون، وخبرة كافية بمزجيات الفراغ، وأحسن من ترى من أصحاب هذا العنوان أناس لهم ذوق في الاستمتاع بالترف الجميل يأخذونه مأخذ العادة، ويدرجون فيه على المحاكاة، أو يرجعون فيه إلى إحساس لطيف، يدرك هذا الترف الجميل ويعجز عن خلق الجمال وابتكار، فلا تلبث أن يتبين لك نقص ذلك الإحساس كلما خرج من نطاق العادة والمحاكاة إلى فسحة التمييز والاستقلال بالفهم والشعور، وقد ترى في خدم الفنادق الذين طالت ممارستهم لآداب التحية وعادات المجتمع في الطعام والشراب والملابس والزيارات، وأدمنوا الالتفات إلى الصور وألوان الجدران وأصناف الأثاث والتحف وأطوار «السادة» ومراتب الاجتماع أناسًا ينغمسون في البيئة الجنتلمانية إذا شاءوا، ولا ينكشف أمرهم بين أفرادها لندرة الجنتلمانية الحقيقية أو المحاولة الصحيحة التي تطمح إلى هذه الجنتلمانية.
فليس الجنتلمان الشائع في العرف هو الإنسان الذي لا يوقع بأحد ألمًا كائنًا ما كان، بل هو ذلك الذي يتحرى في الإيلام أسلوبًا غير أساليب السواد والسوقة، وليس هو الذي يعيش على أرفع مثال للمروءة والشيم، بل هو ذلك الذي يستبيح كل مأثمة ويستحل الكذب والخيانة والظلم في صيغة مصقولة غير نابية، وليس هو الذي يطالب في بيئته بالكمال والشمم وطهارة الأخلاق والمأرب، بل هو ذلك الذي لا تعني بيئته بشأن من شئونه ما دام حاظيًا أمامها بشروطها المرسومة في مظاهر الحركة والتصرف والكلام، وليس هو الذي يقال عنه أحسن ما يقال في المجالس والندوات، بل هو ذلك الذي يقال عنه كل شيء وتبقى له بعد ذلك شرائط اللباقة والهندام، حتى لقد أصبحت تكاليف «البيئة الجنتلمانية» على أصحابه عنوانها أخف التكاليف على أهل بيئة من البيئات، وسهل الأمر على طلابه فلو أنشأت مدرسة مستعجلة لتخريج الجنتلمانية كما يخرجون الضباط في إبان الأزمات الحربية لتستطيع تخريج الألوف المؤلفة في كل ستة أشهر على أكمل ما يروم المجتمع، وتشترط الطبقات الرفيعة، فقد أفلح قانون الجنتلمانية الشائع في شيء واحد وهو تهوين الكمال على من يبتغيه، وتقريب التهذيب لمن يريد الاختصار، فما على هذا إلا أن يتقن الأساليب والظواهر، ثم لا يسأله أحد عن علم، أو خلق، أو ذوق، أو شعور، وليكن أضيق الناس عقلًا، وألأمهم خلقًا، وأسخفهم ذوقًا، وأضلهم شعورًا، فإذا ظهر عليه شيء من ذلك فتلك إذن غرابات شخصية، وأطوار خصوصية! ومن آداب «البيئة الجنتلمانية» ألا تحجر على هذه الغرابات والأطوار، بل تستملحها وتنجذب إليها؛ لأنها أقمن بالتنويع وتبديل الطعوم.
فإذا كان نيتشه قد ظن أن السبرمان أمل نتطلع إليه في المستقبل البعيد، فيجب أن نعلم نحن أن الجنتلمان — كما هو في صورة المثل الأعلى — أبعد تحقيقًا، وأوغل في الحلم والتأميل، ولكننا سألنا أي المثالين أولى بالاتباع: السبرمان أو الجنتلمان؟ فالرأي عندي أن الفردية في السبرمان أكثر مما ينبغي، وأن ملاحظة البيئة في الجنتلمان أكثر مما ينبغي كذلك؛ لأن الإنسان ليس بالفرد المقطوع عن بيئته، ولا هو بالمستغرق في تلك البيئة، وإنما هو فرد وابن بيئة تعيش معه وابن نوع قد عاش قبله وسيعيش بعده، فإذا انحصرت آدابه في التفرد فذلك نقص وخلل، وإذا انحصرت آدابه في البيئة فذلك نقص وخلل، وإنما يستتم حق الفردية، وحق البيئة، وحق النوع، فهذا هو الكمال المقدور له، وهذه هي القبلة التي تهديه إلى مواقع الرشد والضلالة في مسيره.
إن نيتشه قد أخطأ فهم النشوء والارتقاء حين بنى ظهور السبرمان على أصول هذا المذهب، وأخطأ التشبيه حين قابل بين العضو في الجسد والإنسان في أمته أو نوعه؛ لأن «الفزيولوجيا» التي اعتمد عليها لا تؤيد قوله عن العضو إنه يستهلك كل غذائه لنفسه، بل هي ترينا العضو شيئًا لا معنى له بغير خدمة الجسد كله، فالقلب ما الغذاء الذي يأخذه في جانب الغذاء الذي يعطيه؟ والمعدة والكبد والدماغ وسائر الجوارح والأعضاء، ما هي وما وظائفها وما سر وجودها إن لم تكن منفعتها لجسدها مقدمة على منفعتها لنفسها؟ وقل مثل ذلك في الإنسان العظيم أو الحقير، ما سر عظمته أو حقارته إن لم يكن منظورًا في ذلك كله إلى غيره؟ وفي أي مظهر تتجلى هذه الغيرية إن لم يكن مظهرها صفات المفاداة، والبر، والرحمة، والاتصال بعروق من العطف، ووشائج من الأخلاق؟
أما العرف الشائع فقد أخطأ أشد من هذا الخطأ في فهم «الجنتلمانية»، فجعل المجتمع الحاضر — بل جعل البيئة الخاصة من المجتمع الحاضر — هي الحياة كلها، وهي محور الآداب والكفاءات، فلا أدب ولا كفاءة إلا ما يرضيها، ولا شيء في الدنيا جل أو صغر يبيح الإنسان أن يطرح أحكام هذه البيئة، ويجسر على إغضابها. فضاعت في هذا التقدير الفضائل النوعية التي إنما جبل عليها الإنسان لتقويم نوعه وتحسينه لا للاستغراق في بيئة زمانه والتفرغ لإرضائها عنه، وأصبحت هذه الفضائل التي تتفاوت بها الأقدار والمواهب كالنوافل المهملة في جانب الظواهر التي يقتضيها المجتمع من عباده. مع أن هذه الظواهر لا فائدة لها إلا كفائدة الزيت في تسهيل الحركة على العدد، وتليين العلاقات بين أجزاء الأداة الكبيرة المسماة بالأمة أو البيئة، ولكنها ليست هي العدد وليست هي الوظيفة التي أريدت بتركيبها وهندسة أجزائها وتقويم بنائها. إنما هي الزيت الذي يسهل حركاتها ويلين علاقاتها، ولا فائدة له إذا استغنت عن تسهيل الحركة وتليين العلاقات.
وإذا شئت أن تسبر مدى هذا الخطأ فتصور عظماء الإنسانية الذين هذبوا عقولها، وثقفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها، وأسرار علومها محرومين من حق العمل والتقدير، إلا أن يكونوا على وفاق البيئة الجنتلمانية، وأحكام الأندية ومحافل الظرفاء! ثم تصور كم تخسر الإنسانية من فقد أولئك العظماء وتعويضها بجنتلمان عصري عن كل عظيم مفقود، فإنك لا تملك نفسك أن تبتسم حين تتصور موسى وبوذا والمسيح ومحمدًّا أو بولس الرسول وهومر وأفلاطون والغزالي وأشباههم وأندادهم محاسبين في معاملات الحياة بحساب الأندية وقسطاس الظرفاء! ومتى ذكرت ذلك فإنك تذكر لا محالة أن الرجل قد يسخط أبناء جيله، ويزري بما تواضعوا عليه، وينبذ كل ما تفرضه عليه البيئة، ثم يظل بعد هذا كله إنسانًا عظيمًا خليقًا بالحب والإكبار.
فلا سبرمان نيتشه إذن، ولا جنتلمان العرف الشائع، ولكنما الإنسان الذي تمتزج فيه حقوق الفرد والبيئة والإنسانية جميعًا هو مثال الكمال المطلوب، فإن سألت أي هذه الحقوق ينساها إذا اشتجرت في نفسه، واستحال عليه التوفق بينها، فاجزم بأنه ينسى فضائل الفردية والبيئة في سبيل فضائل الإنسان الباقية؛ لأنه طالب كمال والكمال معلق بالدوام ولا بحاجات نفسه الزائلة، ولا بالزمان المحدود الذي يعيش فيه.