توماس هاردي (١)١
أتراهم إذ يسمعون أنني سكنت سكوني الأخير، ينظرون على الأبواب إلى السماء قد حفلت بالنجوم التي يشهدها الشتاء، ويهتف نجي من الذكر في إخلاد أولئك الذين نزل الحجاب بيني وبينهم فلن يروا لي بعد ذلك وجهًا، فيهمس لهم أن قد مضى، وكانت له عين موكلة بهذه الغوامض والأسرار.
كذلك قال توماس هاردس في قصيدته الختام، فكأنما أوحى إليه لسان الغيب أنه مفارق هذه الدنيا في ليلة من ليالي الشتاء، ترتفع العيون إلى سمائها فتذكر الشاعر الذي كلفت عينه بالنجوم، وشملتها قريحته بسواد من الحزن الذي شملت به كل موجود: ثم أغمض عينيه عنها فأطبقا على ظلام كظلام الليل الذي كان فيه، لولا أنه ليل لا تشرق في سمائه نجوم، ولا يستنزل فيه وحي القصيد.
ألا من منبئ الشاعر الذي سكن اليوم سكونه الأخير، أن له في النفوس لذكرًا تجدده كواكب الشتاء وكواكب الصيف، وتعيده ظلمات النفوس، وما يسطع في ثناياها من الشهب والشموس، وأنه لحبيب إلى كل قلب عرفه في حياته، وسيظل حبيبًا إلى كل قلب سيعرفه بعد مماته، فإذا شخص الناظر المفعم الفؤاد إلى طلعة الفجر يتراقص فيها الورق اليابس والأخضر، كما تطايرت الأطياف من عصا الساحر، أو شخص إلى الليل كأنما يزحف إلى الشرق محسوس الحركة ملموس الجلباب، أو شخص إلى الكواكب تخالجه الرهبة من التفرد معها في غيهب الظلام، أو شخص إلى الشمس يعجب لعبادها وما وفقوا له من الهدي القديم، فهو ذاكر لا محالة صاحبه هاردي صاحب «ساكني البرج» و«تس» و«في معزل عن هيجة الزحام» ومسائل الطبيعة ليلها ونهارها، وطيرها وأشجارها، عما لا علم لها به من غوامض وأسرار.
وإذا انقلب الناظر إلى فؤاده يتردد فيه بين ينابيع الرجاء، ومفاوز الخوف، ومروج الدعة ووعور المحنة، وصحراء اليأس، وسراب الآمال، فهو لا ريب ذاكر في ذلك العالم المستهول دليلًا كأرفق ما يكون الأدلاء الذين جاسوا خلال القلوب، وسبروا أغوار السرائر، ونشروا في ذلك الميدان المكظوظ بالأشلاء والمصروعين أخوات من الرحمة، طاويات الضلوع على أسى وإشفاق، باسمات الوجوه عن صبر وإيناس، يضمدن الجروح، ويجبرن الكسور، ولا يخدعن أحدًا بغير الحق، ولا يضحكن للملهوف ضحك الغواية والغرور، فإن عزاء لكل نفس أن تكون الحياة قد ضمت بين ضيوفها في يوم من أيامها رفيقًا كذلك الشاعر الذي كسا الحزن رحمة، وجعل للشك قرارًا كقرار الإيمان، وزان السواد بخير ما تجتمع فيه الزينة والحداد، وإن أنسا لسالك هذا الدرب الموحش أن يخاف فيه كما خاف ذلك الرفيق، وأن تفارقه الطمأنينة كما فارقت ذلك الصابر المطمئن إلى كل مستنفد للصبر، ملعج لسكينة الاطمئنان.
لقد كان هاردي من أحب القانطين إلى القراء وأخفهم محملًا على الموافقين له والمخالفين في الرأي والشعور، فقد كان الرجل بين الشك، بل كان في بعض قصائده بيِّن الإنكار، وها هو ذا بعد موته يدفن في مقبرة وستمنستر أي في مقبرة الدير الذي يشرف عليه القسوس، وكان أبعد الناس عن الملوك والأمراء فلم يبعده ذلك عن حبهم وإكبارهم، ولا قعد بولي العهد أن يقصد إليه منذ خمس سنوات ليزوره في بيته حيث يقيم في الريف، وكان منقبضًا عن الحياة فلم يحل ذلك بينه وبين المستبشرين بها، ولم يقطع ما بينه وبينهم من المودة والإعجاب.
وإن من غرائب هذه الحياة أن يطول فيها مقام الذين يجتوونها، ويتبرمون بأكاذيبها وآلامها، وأنها تمسك لديها من لا يودونها ولا يحتفون بخيراتها، فهذا توماس هاردي الذي تتلخص فلسفته في إن هذه الدنيا كلها شيء عدمه خير من وجوده، والإضراب عنه خير من المضي فيه، قد عاش حتى بلغ السابعة والثمانين وطالت صحبته لها إلى السن التي يكره فيها الحياة من جبلوا على التفاؤل والاستبشار، وقديمًا كان المعري يذم العيش، ويرثي لكل مخلوق في قيد «أم دفر» وقد جاوز الثمانين بسنوات، ونيَّف شوبنهور على السبعين وهو إمام المتشائمين في الزمن الأخير، ومات كارليل عن ست وثمانين ولم تكن نظرته إلى الحياة نظرة الواثق المستريح، فكأن ما طبع عليه هؤلاء المتشائمون من فرط الإحساس بالألم، يجنح بهم إلى اتقائه واجتناب أسبابه، وكأن سكوت بواعث الحياة في نفوسهم يزهدهم في مطالبها، ويعفيهم من مجاشمها وأطماعها التي تعاجل الآجل بالسقم والعناء، فلا ندري أهذا من ذنوب الحياة التي تسوغ نقمتهم عليها أم هو من حسناتها التي تتهمهم بالزيغ والنكران.
•••
ولد توماس هاردي سنة ١٨٤٠ من أسرة معروفة في دور ستشير، وخرج إلى الدنيا مشكوكًا في حياته، ونشأ في طفولته ضعيفًا ميئوسًا من بقائه مثل كثير من المعمرين بين رجال الأدب، وقد تعلم في صباه هندسة البناء ثم تتلمذ في هذه الصناعة لأستاذ من أهل بلده مختص ببناء الكنائس والصوامع، فبرع في صناعته وأفلح بعد قليل، ورحل إلى العاصمة فنال جائزة المعهد الملكي على رسالة في موضوعها، ثم نال في السنة نفسها ١٨٦٣ جائزة الرسم وتخطيط المنازل من «جماعة العمارة». ولكن نجاحه هذا لم يطمس في قريحته نزعة الأدب والشعر، فكان ينظم المقاطيع من حين إلى حين، ويكتب القصص الصغيرة التي أصابت حظًّا من الشهرة نشط به إلى مواصلة الكتابة والإقدام على التأليف فيما هو أكبر وأضفى، وربما كان الفضل في توجيهه هذه الوجهة للروائي المشهور «جورج مردث»، الذي أعجب بإحدى أقاصيصه وفطن إلى مقدرة كاتبها في فن الرواية، بل ربما كان لهذا التنشيط دخل في الأسلوب الذي جرى عليه هاردي، واشتد فيه الشبه بينه وبين مردث في متانة اللغة، ورصانة الموضوع، والتنزه عن الدنايا، والحرص على الآداب الرفيعة، وإن كان هاردي ليمتاز على أستاذه بالشاعرية والشغف بالمناظر الريفية، ولا يتكلف ما تخال أن مردث كان يتكلفه من التزمت والوقار.
وفي سنة ١٨٧٤ أصدر روايته «في معزل عن هيجة الزحام»، بعد روايتين كبيرتين أو ثلاث فأذاعت شهرته في عالم الأدب، ووطدت مكانه بين أساتذة فن الرواية، وتعاقبت له روايات شتى كانت تستقبل بالإعجاب، وتشهد له بالعبقرية وصدق البيان، ولكنه ما كان قط من قصاص الجماهير، ولم يزد المطبوع من أروج رواياته على بضعة آلاف قلما يعاد طبعها، كما تعاد الروايات الشعبية التي تباع منها عشرات الألوف في كل مرة، ويعاد طبعها مرات في العام.
فقد كانت شهرته أكبر من رواجه، وكان الإعجاب به أكبر من الإقبال عليه؛ لأن قراءه هم قراء الأسلوب البليغ، والنظرة الفنية الخالصة، ومن يدركون جمال الريف ويفقهون معنى العطف على مناظره وسكانه وسذاجة العيشة التي شغف الشاعر بالحكاية عن أوصافها بين أبناء وطنه، وما زال هذا الطراز من القراء قليلًا في أكثر الأمم قراءة، وعند أعظم الأدباء مكانة.
وقضى، قبل التفرغ للروايات، بضع سنوات في نظم الشعر، ثم أقل من نظمه وهو يعاوده على فترات، ولكنه لم يهجره قط، ولم يزل يتحول إليه لينظم فصلًا منثورًا أعجبه أو يصور حالة نفسية، أو يصف منظرًا من مناظر الخلاء، وأطول أشعاره «ملحمة» أتمها سنة ١٩٠٨ وسماها «العواهل»، وأدار وقائعها على سيرة نابليون بونابرت، فجعله هو محرر الملحمة ومعرض ما في الحياة من عبر وأطوار.
ثم ترك الرواية وأقبل على القصيد في أواخر أيامه، وكان من عجائبه أنه قصر نظمه على الشعر الغنائي أو الغزلي، بعد أن نيَّف على السبعين، وفرغت من نفسه دواعي هذا الشعر الذي يظن أنه ألصق بالشباب، وأعصى على الكهول والشيوخ، ولكنه نقض هذا الظن ولم يكن عجيبًا منه أن ينقضه في الحقيقة؛ لأن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في هذه المعاني بعد أن تهدأ ثورة العواطف التي تبلبل القرائح، وتغشي عليها بدخان الأشجان والشهوات، فإذا بدت على شعر الشباب دفعة الفتوة وجماح العاطفة المستعرة، فالشيخ أحجى أن ينظر إلى اللباب من وراء تلك الغشاوة، وأن يصفي تلك البلابل والأوشاب، وأن ينشدها في سكينته ومعرفته إنشاد العازف المالك لريشته ويده، البصير بما يدور في نفسه، فيجيء إيقاعه أقرب إلى الصفاء والاتزان ويستعيض من البراعة والسلاسة بعض ما فاته من التوهج والحرارة، ولا يغب عن بالنا أن الغرابة في إبداع الشيخ هاردي أقل وأقرب تفسيرًا من إبداع الشيوخ الذين يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة هاردي أبدًا ساخرة وزفراته أبدًا مكبوحة صابرة، وأناشيده تليق بالشيوخ كما تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق بالإجادة في هذا المجال من سواه وهو هو توماس هاردي، سواء نظم في الحب أو في الحكمة، وفي تجارب الهرم أو عواطف الشباب.
إن مكان هاردي من أساتذة الرواية في الذروة العالية، فما مكانه يا ترى بين شعراء العالم المعدودين؟ أهو في مثل منزلته الروائية، أم له مكان هنالك دون ذلك المكان؟ أما كاتب هذه السطور، فإنه لم يقرأ لشاعر حي شعرًا يفضل شعره على الجملة، أو يدانيه فيما ارتقى إليه من فتوته التي بلغ فيها إلى قمته الخاصة، ولكني لا أحسبه بين الرعيل الأول من شعراء العالم الذين أفردتهم العصور، وميزهم تاريخ بني الإنسان في جميع الأقوام والأزمان، فهو أجل وأعظم شعراء عصره، ولكنه ليس بين الأجل والأعظم من شعراء كل العصور.
وقد تساءل بعض المعجبين به لِمَ لَم يمنح جائزة نوبل كما منحها الذين لا يتطلعون إلى مكانه ولا يرتقون مرتقاه في الشعر والرواية؟ فقيل لهم: إنه لم يكن «مثاليًّا» في قصائده ورواياته، ولا متفائلًا مبشرًا في نزعته ومذهبه، ومن شروط نوبل أن تقصر جوائزه الأدبية على أصحاب العبقرية المثالية، والمطامح الراجية المستبشرة، وقد يكون هذا هو السبب ولكن هل عرض هاردي شعره أو رواياته على المحكمين في هذه الجوائز ليسوغ لنا البحث في سبب رفضه وتقديم غيره عليه؟ لا أعلم، ولا يلوح لي أنه قد عني بذاك.