فن التصوير بين القديم والحديث١
في المعرض الفرنسي الذي يقام الآن في القاهرة حجة للقائلين بأن تقدم الفن غير تقدم العلم، وأن سنة الارتقاء لا تسري على التصوير خاصة سريانها على الصناعة والاختراع، ففي الصور التي رسمها عباقرة التصوير قبل مائة سنة ما هو أجمل وأفخم، وأدل على القدرة والأستاذية من أحدث الصور التي ابتدعتها قرائح المعاصرين، ولو جاز لنا أن نوافق أو نخالف أحد الفريقين من الناقدين لقلنا: إن «الإمبرشنزم» الذي لهج به المصورون في هذا العصر، يهبط بالفن كلما تمادى إلى حيث يكثر فيه الادعاء، ويضعف المرجع المصطلح عليه، ويصبح الشذوذ هو القاعدة والقاعدة هي الشذوذ.
لم يكن الفن القديم غفلًا من دلائل الشخصية التي ينزع إليها أنصار «الإمبرشنزم» أو الإحساسيون؛ لأنك لا تخطئ أن ترى لكل مصور قديم علامة يعرف بها، وطابعًا ينم عليه وموضوعًا يكلف به، وأسلوبًا في الأداء والتلوين لا يشابه أساليب الأساتذة الآخرين، فالإحساسية الحقيقية التي تبرز فيها ملامح الشخصية لم تكن مفقودة ولا منسية في تلك العبقريات التي بقيت آثارها إلى اليوم تتحدى المنافسين بالتعجيز، وتعلو فوق هام المناقضة والمحاكاة، وإنما الفرق بين تلك الإحساسية وما يقابلها من نزعة المصورين في العصر الحاضر هو الفرق بين مزاج سليم متزن صادق مستوعب، وبين مزاج قلق متفاوت يعنى بجانب ويصدف عن جوانب، أو هو الفرق بين المساواة والبساطة، وبين الإغراب والبهرج.
و«نزوة الإعلان» هي الآفة في كل ما تناوله العصر بالتبديل من فنونه، وآدابه، وسياساته، وأطواره الفردية والاجتماعية، فإن الرغبة في لفت الأنظار والمغالاة بوسائل التأثير، والاعتداد المفرط بما يسمونه استقلال الشخصية هي الأعراض التي لا يفوت المراقب أن يلحظها في كل مطلب من مطالب هذا الزمان، وكل أثر تتمخض عنه عبقريات الأدباء ورجال الفنون، فليس هذا العصر بعصر الأضواء التي تنير وتهدي وتثبت على الإنارة والهداية، ولكنه عصر النيازك التي يتفجر كل نيزك منها عن الأحمر، والأخضر، والأصفر، ويعلو في الجو شهابًا ثم يهبط إلى الأرض بهرجًا من الألوان والأشكال، ولا نظن الفن الذي من هذا القبيل فنًّا إنسانيًّا يصدق في الإبانة عن طبائع الإنسان الخالدة، وحواسه الصحيحة، وميوله التي لا تختلف باختلاف الزمن والمكان، ولكنه هو فن النزوة الموقوتة، والغرابة التي يوشك أن تضمحل مع الألفة لا أن تزيدها الألفة من توطد واستقرار.
فالمصور الحديث الذي يجري على أسلوب الإحساسيين المزعوم يريد أن يتخذ له لونًا وسحنة بارزة في جميع مصنوعاته كل البروز، فيوشك أن تقارب حدود الكاريكاتور وتلح على الأذواق إلحاحًا يخالطها بالضجر والنفور، وقلما ترى فيهم من يحرف الأشكال أو الألوان ليكون التحريف أدل على المعنى، وأبعث على توجيه الفكر إلى ناحيته المقصودة، وإنما هم يحرفون الأشكال والألوان؛ لتدل عليهم وتؤخذ عند النظر إليها مأخذ العلامة الشخصية التي يتفردون بها، أو هي بمثابة توقيع شائع في الصور تعرف به أسماؤهم ولا يعرف به شيء سواها، فالتوقيع على الصورة بالحرف الصريح يغني عن هذه الخواص التي ينتحلونها لغير معنى ولا مسوغ من الفكرة أو الأداء، والإحساسية في هذه الحالة هي مجرد المخالفة للآخرين على نمط يستطيعه كل من يبغي الخلاف والشذوذ، ولقد رأينا في معرض الخيال المصري صورة نهج فيها صاحبها على منهج الإحساسية فأجاد ووفق أحسن التوفيق في مخالفته لألوان الشجر، واختياره اللون المغشي بالظلام بين الشحوب والسواد؛ لأنه هو اللون الذي يؤدي جو السكينة والظل المخيم على تلك الأدواح، فهذه المخالفة للون الأخضر الذي يبادر النظر من الشجر كله هي أقرب إلى إحقاق روح الصورة، وتمثيل جوها من الصدق الحرفي في محاكاة ألوان الطبيعة، ولكن المخالفة التي على هذا الأسلوب قليلة فيما نراه عندنا من صور الإحساسيين، وأكثر ما نراه في تحريفاتهم إن هو إلا أزياء لا نفهم لها حجة كزي السراويل الواسعة بعد زي السراويل الضيقة، أو كزي اللون البنفسجي بعد زي اللون الأزرق أو المرقط، وكلها ذاهبة مع الزمن كما يذهب كل جديد يؤتى به حبًّا للجديد ورغبة في التنويع الموقوت، ولا تبقى إلا الإحساسية المستمدة من الحس الصادق، والعلم الصحيح.
ولا فائدة من نقل الصور الفنية للتمثيل بها على ما نقول، فإن الصورة كلما بلغت حد الإتقان، وتميزت فيها براعة العبقرية عز على الآلات أن تنقلها، أو تنقل لها شبهًا يشير إلى سحرها وروعتها ولو بعض الإشارة، ولكننا نحيل القارئ إلى المعرض ليرى فيه مثلًا صورة كوربيه مع الكلب الأسود، ويتأمل ما فيها من الدلائل الشخصية الناطقة، وما يحف بها من جو هو في باب المدركات النفسية أدخل منه في باب المشاهدة التي تدركها الحواس، وليرى الفرق بين الوجه الذي يرسمه ألف مصور، فإذا الرسوم كلها نسخة واحدة تتفاوت في درجات الإتقان، ولا تتفاوت في معنى الأداء، وبين الوجه الذي لا يمكن أن يحكيه إلا مصوره الذي يفرغ عليه من نفسه وجوه ودخيلة روحه ما ليس يشترك فيه جميع المصورين؛ فكوربيه في هذه الآية المعجزة إحساسي قادر يبده الناظر بالملامح الشخصية في الجلسة، والتلوين، والحركة، والجو الذي يحيط بفكره وسريرته، ولكنه إحساسي لأنه هكذا كان، لا لأنه أراد أن يقول للناس: «هاكم معشر الناظرين أنموذج رجل من الإحساسيين.»
ولينظر القارئ أيضًا إلى صورة «السيدة في الثوب الأسود» لريكاردو فإنه يرى بين يديه صورة كاملة مستوفاة، لم تدع خفية من خفايا النفس إلا أبرزتها على الملامح، والوقفة، ونظرة العينين، وإيماءة الشفتين، فتجاوبت كلها بملامحها وألوانها لتمثيل تلك السيدة على وجه يريك حقيقة مزاجها وعصارة حياتها، حتى ليكاد يسرد لك من تاريخها ونياتها ما تخفيه هي على نفسها، فلا تدري أي بقية في هذه السيدة أبقاها ريكاردو للمصور الإحساسي؟ وأي جانب خاص من جوانبها أو معنى مستقل من معانيها ينفرد المصور الإحساسي بالالتفات إليه، ثم يقدر على أن يبرز فيه ما لم يبرزه ذلك العبقري القدير على أتم وضوح وأبلغ تأثير؛ فإن الذي يقتطع جانبًا من جوانب هذه الآية ليخصه بالالتفات، إنما يشوه الآية كلها أو ينقصها، وما هو بقادر بعد ذاك أن يضع في جانبه الذي اقتطعه من القوة والوضوح فوق ما وضعته ريشة ريكاردو على جميع الجوانب، وتلك فضيلة الفن القديم أو الفن الذي لم تصبغه النزعة الإحساسية بكل صبغتها، فهو متساو في الالتفات إلى الظواهر، والبواطن، والألوان، والجو، والمائية، والبدوات الخاصة، والطبائع المشاعة، يجمعها ولا يجزئها، ويسبكها في قالب واحد يسع كل شيء ولا ينسى أي شيء، ولو شئنا أن نعد الصور على هذا المنوال لما فرغنا ولا قلنا في آخر الأمر إلا بعض ما نريد أن نقول، فالحق أن هذا المعروض ثروة فاخرة تشده الناظر، فإذا هو كالبخيل الجشع فتحت له أبواب الكنز على حين غرة، وأرسلته بين أكوام الذهب والجواهر، تتخطف عينيه بالبريق والاستهواء.
إن في أسلوب النظر، واختيار الموضوع، وتنوع الأداء، وانتشار المعاني متسعًا لإظهار «الإحساسية» و«الشخصية» يغنينا عن هذا التعمد في التلوين، أو التعسف في تخصيص الملامح، أو المبالغة في الاتكاء على ناحية من النواحي، فإننا إذا تمادينا في اختراع الألوان والمواقف على هذه النماذج الحديثة خارجون لا مناص إلى البهرج أو «الفانتزية» مضيعون جمال الاتساق بتلك التجزئة التي تذكر الناظر بموائد التشريح، فليكن الفن كاملًا حتى حين ينحصر في أداء لمحة خاصة، أو دلالة مقصودة، أما أن نأخذ لنا جانبًا تتعلق عليه بقية الجوانب كما يتعلق الجسم المشلول على أعضائه الساعية، فذلك اقتضاب لا يشبع حاسة الكمال والإتقان التي هي جماع روح الفنون، وأما أن نوكل الحواس بالغرائب والتهاويل فذلك مضيع لنزاهة البساطة التي هي لب لباب الجمال.
وأحسب أن «المعرض الفرنسي» سينفعنا في مقتبل نهضتنا الفنية؛ لأنه يفسح آفاق الفن ويعلو بها إلى حيث لا ينالها الغرور القصير والطموح الكليل، ثم هو يرينا مثالي القديم والحديث فلا يغوينا الحديث بزخرفه، كما قد أوشك أن يغوي بعض الناشئين في غيبة القديم الفاخر المهيب، فهم أحرياء حين يبصرون هذه الفتن الطاغية، ويقلبوا النظر في آثار هؤلاء الجبابرة أن يكفوا من غلواء «الإحساسية» ويقصروها على ما فيه فضيلة وإحسان، والحق أننا ننظر إلى آثار الجيلين الماضيين ثم ننظر إلى آثار الجيل الحاضر فنرى المسافة تتسع جدًّا بين المفضول المرجوح من الناحيتين، ولا نراها تتقارب كثيرًا بين الفاضل الراجح من هذه وتلك، وقد تقدم علمنا بالنور والتشريح، وظهر أثر ذلك في بعض آيات المحدثين، ولكنه، بعد، تقدم لا ينسينا سمو الفن على متناول «سنة الارتقاء» وأن الإنسان الفنان قد بلغ قمته قديمًا، وما برح الإنسان العالم يتوقل بين القمم والوهاد.