الحب والغزل١
كتب طالب أديب في العدد الماضي من البلاغ الأسبوعي يعقب على كلامي عن توماس هاردي حين أقول: «إنه أجاد في نظم الغزل بعد السبعين، وإن ذلك لم يكن عجيبًا منه لأن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في هذه المعاني، بعد أن تهدأ ثورة النفس التي تبلبل القرائح وتغشي عليها بدخان الأشجان والشهوات.»
والطالب الأديب يقول: «إن قشور الحب ولبابه سيان، وأدق من هذا أن تلك القشور هي لباب الحب الذي لا لباب غيره، وإن غشاوته لا تسر وراءها إلا ما هو من نوع هذه الغشاوة، أو ما هو دونها، ونرى لذلك أن الشبان أحجى من الشيوخ بالتعبير عن الحب والتغني بآثاره، إذ هم الذين يفهمونه حقيقة الفهم بغرائزهم الطبيعية من غير كد ذهن وعميق تفكير.»
ثم يقول: «وماذا عساه في الحب مما يكبره الشيخ ويعجب به؟ وأي شيء فيه غير قابل للتحليل والوزن بتلك الموازين الدقيقة الميكانيكية! اللذة! إنه لا يجد في الحب لذة، وإذا وجدها فقد تواردت عليه اللذات في أيامه الماضية، الألم؟ لقد سقته الصروف منه كاسات مرة، وقد جرت لها نفسه ومرنت عليها فلم يعد يحفل من الألم بجديد، الغيرة؟ لقد علمته الأيام أنها ضرب من ضروب العبث، وهكذا كلما عرضت الشيخوخة لأي معنى من معاني الحب التي يفتن بها الشباب لم تر فيه شيئًا طريفًا ولم تعن بالتعبير عنه، وإذا عنيت جاء تعبيرها بسيطًا هادئًا فيه كثير من قناعة الشيخوخة وعدم اكتراثها.»
والموضوع الذي طرقه الطالب الأديب جدير بأن يعاد إليه لإبداء رأي في الحب والغزل يدخل في باب الأدب، كما يدخل في باب التحليل النفسي الذي هو محك الآراء في الأدب الحديث.
والمسألة بعدُ ليست مسألة نظريات يُرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها، إذ كل ما يجب علينا — لكي نقول إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانًا ونكون على ثقة وبيِّنة مما نقول — هو أن نعلم أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدًا مقبولًا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية وحدها في عنفوان الشباب، فهل نظم توماس هاردي غزلًا جيدًا بعد السبعين؟ نعم! وإذ كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة.
فالشيء الذي لا نكران له ولا خفاء به هو أن شيخًا جاوز السبعين قد نظم في المعاني الغزلية وأجاد فيها — على أسلوبه — أحسن إجادة، وهذا حسبنا لنقول إن الغزل قد يوجد حيث لا شباب كما أن الشباب قد يوجد حيث لا غزل.
على أننا لو فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا هذا المثل القريب ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني الغزلية وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها، فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول لا؛ لأن الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور عليه.
فالحب عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبًّا ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة، ولكنا نعني الصلة «النفسية» التي تجمع الفردين معًا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة، وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوربا وأفريقيا ثم يعودان من تلك الرحلة إلى حيث كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه، فالحب على هذا لا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا إن لكل حي غزله الذي ينطلق بما في نفسه فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل متغزل نصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء.
إن الذين يقتلون أنفسهم حبًّا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدًّا من الذين يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء، فلا ريب أن الشاعر لا يحسن الغزل بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يعلو حين يهبط الحب على درجات لا تناسب بينها في العلو والهبوط، وسر ذلك أن شاعر الغزل يقسم نفسه بين محبوبين هما الحبيب والفن، فيكون نصيب الحب أجزل عنده من نصيب الفن، كما يكون نصيب الفن أجزل عنده من نصيب الحب، ثم لا يلزم أن يكون أحدهما على قدر الآخر، ولا أن يكون الغزل الجيد دليلًا على العاطفة الجيدة في جميع الأحوال.
والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي الفتى أوائل شبابه ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق إليها بغير هداية ولا تمييز، وقد يطلب الشريك في الحب وهو لا يعلم ما الذي يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه والذي يعطيه إياه؛ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية أو نفسية يشبعها أي شريك يصادفه ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق؛ وقد يكون احتدام شوقه ناقصًا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل طعام، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف عن سواه.
والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين وامتزاج بين قلبين وجسدين، وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه؟ وقبل أن ينكشف له قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب؟ وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل فيه رغائب الأجسام؟ وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة؟ فليس الاحتدام هو الحب نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن يكون يعانيه، ولكن الحب هو التفاهم على إشباع حاجات النفوس والأجسام، ولا يكون تفاهم على هذا إلا حيث يكون فهم صحيح ناضج لما تحتاج إليه نفس المحب ونفس الحبيب.
فللشباب حبه وللرجولة حبها وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين، وقد تعتري كل عاطفة من هذه العواطف زيادة في الشعور، ونقص في التفاهم، أو زيادة في التفاهم، ونقص في الشعور، أو تكافؤ بين الاثنين فلا يمنعهما شيء من ذلك أن تقول، وأن تزود الشاعر بمؤنة الغزل والتشبيب.
وإذا تقضى الشباب، وتقضت بعده الرجولة، وتقضت بعدهما الكهولة فهل تنفد مؤنة الغزل وهل تبطل دواعيه؟ كلا! هناك الحنين والتذكار وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد وداعية حاضرة في كل حين، ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس شيوخًا وشبانًا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن أو ألم أو خالجة ثائرة أيًّا كان فحواها إنما كان كله من قبل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارمة، فيسلس لهم المعنى ويصفون الشعور من كدر الدخان والضرام، وهم حين يتضرمون حزنًا أو شوقًا تستغرقهم العاطفة، فلا يلتفتون إلى النظم ولا يشتغلون بغير ما هم فيه ولا يحلو لهم أن يسجلوا شيئًا لم يزل في مجراه، ولم يأن له موعد التسجيل، فإن ساورهم لجاج النظم في تلك الحالة فقلما يوفقون لآية من آياته التي يتم فيها صفاء المعنى وصفاء الأسلوب، ولا ننسَ بعد ما أسلفناه كله مرانة الزمن الطويل على معالجة الصياغة، ومداورة المعاني، وسياسة الأفكار والعواطف، فإن لها لقدرة تعوض الشاعر العبقري ما تتحيفه الشيخوخة، وتعصف به السنون.
ولا عجب أن يجيد هاردي الغزل، أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس والقرائح، وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة هادية عليها سمة الرجل وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة، وقد نبهنا إلى ذلك حين قلنا في مقالنا الأول عنه: إن الغرابة في إبداع الشيخ هاردي أقل وأقرب تفسيرًا من إبداع الشيوخ الذين يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة هاردي أبدًا ساخرة، وزفراته أبدًا مكبوحة صابرة، وأناشيده تليق بالشيوخ كما تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق بالإجادة في هذا المجال من سواه، وهو هو توماس هاردي سواء نظم في الحب، أو في الحكمة، وفي تجارب الهرم، أو عواطف الشباب.
ولا نختم هذا المقال قبل أن ننبه إلى ملاحظة أخرى تحتاج هنا إلى تنبيه، وتلك هي أن شعر الغناء عند الإفرنج أعم من شعر الغزل، وما إليه في اصطلاح العرب، فقد تنتظم فيه كل مناجاة غزلًا كانت، أو وصفًا، أو حكمة تتزيا بزي العاطفة الشخصية، وهكذا كان شعر هاردي الذي عنيناه بشعر الغناء.