الحقائق الشعرية١
كل شيء نسبي، ونحن لا نعرف شيئًا قط إلا بالنسبة إلى غيره، هذه حقيقة علمية، وليست بحقيقة شعرية أو خيالية، يقول فيها كل قائل حسبما يغريه به حسه وخياله.
فلو ولد اثنان فسار أحدهما على سرعة الأرض حول الشمس، وسار الآخر على سرعة الضوء في تلك الدارة لعبر المسافة بعينها، وعمر أحدهما سنون عدة وعمر الآخر بضع دقائق، وإنما يقاس عمرهما بنسبة السرعة التي يسيران عليها، ولا نهاية للتفاوت بين الأشياء المتحركة في درجات السرعة.
وقد يرى النائم في لمحة عين ما لا يراه المستيقظ في أيام، فبين اللحظة التي يسمع فيها النائم صوت المدفع، واللحظة التي يستيقظ فيها من نومه لا ينقضي أكثر من ثوان قليلة، ولكنه قد يرى في هذه الثواني معركة أو نكبة يطول شرحها، ولا يزال يخرج فيها من مأزق إلى مأزق ومن حادث إلى حادث، تضيق عنه الساعات الطوال، فيرى الجيوش ويرى الصفوف ويتمثل الميدان ويستجمع فيه من حركات الكر والفر، ويخترع أسباب الحرب بين الفريقين ويدخل فيها بهوى من أهوائه، ثم يباغته صوت المدفع، ويخامره الخوف فيستيقظ وهو لا يصدق أن هذه المناظر كلها وردت على مخيلته في أقل من دقيقة واحدة، فلو أنه وصف الثانية أو الثانيتين اللتين عبرتا به وهو في تلك الرؤيا بأنها فترة طويلة من الزمن لما كان مخطئًا في تقديره، ولكان المخطئ هو الذي يقول له: إن الثانية أو الثانيتين لن تكونا في الزمن إلا قصيرتين!
هذه حقائق العيان التي لا مراء فيها، فإذا انتقلنا من العيان إلى الخيال فليس بالمستغرب أن نصف اللحظة بأنها تكون طويلة، وتكون قصيرة على حسب الخواطر والذكريات التي تصاحب تلك اللحظة في النفس، ونحن على صواب في كلا الوصفين، فساعة اللقاء بين الحبيبين لمحة طائرة وأبد حافل بالصور والأخيلة والمعاني والخواطر، وأنت تصفها مرة بأنها عقيقة البرق في سرعة وميضها، وتصفها مرة أخرى بأنها الخلود في اتصاله ودوامه، بل أنت تصف الساعة الواحدة من تلك الساعات بالوصفين معًا، فلا تكون على خطأ في هذا ولا في ذاك، فإذا استحضرت لهفتك عن فواتها وشوقك إلى المزيد منها فهي قصيرة خاطفة، وإذا استحضرت أحاديثها، وإحساساتها، وانتقالك فيها من حلم إلى حلم، ومن متعة إلى متعة، ومن خيال إلى خيال وكبرت كل خيال وكل حلم وكل إحساس وكل كلمة في خلدك أضعافًا مضاعفة، لم تكن بك حاجة إلى اقتضاب تلك الصورة المتساوقة والخوالج المتوافقة، بل كانت حاجتك إلى التمادي فيها والاستطالة لها، والإغراق في تقليبها وتوسيعها، فإذا هي أمامك قصة لو أردت أن تكتبها لجاءت في مجلدات ضخام تقرؤها في ساعات بل في أيام، والساعة بعد هي هي لم تختلف ولم تطل ولم تقصر إذا وقفنا في قياسها عند تلك الآلة التي ترصد لتقسيم الزمان.
فليس من الخطأ إذن أن نقول في ليلة من ليالي اللقاء:
ثم نقول في تلك الليلة بعينها فضلًا عن ليلة أخرى:
لأن مقياس الوقت في الإحساس — وفي الشعر الذي هو صورة من الإحساس — ليس هو الساعة المركبة من حديد ونحاس، وإنما هو النفس المركبة من خيال وتصور وشعور، وهذه النفس قد تنظر إلى العام فإذا هو لمحة للهفتها على فواته، وقد تنظر إلى اللمحة فإذا هي دهر سرمد لازدحامها بالمنظر بعد المنظر، والخيال بعد الخيال، إلى غير نهاية يحدها الحس ويقف عندها الاستحضار.
أكتب هذا وبين يدي ملاحظات لبعض الأدباء على ديوان شعري، وفي ذاكرتي ملاحظات شتى قرأتها فيما مضى، وعندي رغبة في الكلام عن الحقائق الشعرية لهذه المناسبة التي لا يطلب فيها البيان من غيري كما يطلب مني، فهي فرصة حسنة للإدلاء برأيي في الحقائق الشعرية، وكيف يكون فهمها ومقياس صحتها، ثم فرصة حسنة لتوضيح رأي في شعري لم أكن أحفل بتوضيحه لمن لا يخلصون النقل ولا يتأدبون في المقال.
من تلك الملاحظات ما كتبه الأستاذ الأديب عبد الله أفندي حبيب في زميلتنا «السياسة» الأسبوعية، وأجراه مجرى الحوار بينه وبين صديق له يناقشه في بعض القصائد والمعاني، وقد أشرنا فيما تقدم إلى إحدى تلك الملاحظات، ونحن مشيرون فيما يلي إلى ملاحظات أخرى وردت على لسان الصديق في ذلك المقال.
يقول الصديق: قل لي بحقك هل من الشباب من يقول في ذم كتبه؟ ثم ينقل قصيدة «يا كتبي» وفيها هذه الأبيات:
فماذا في هذه الأبيات مما لا يقوله الشاب الدارس؟ بل ماذا في هذه الأبيات مما يقوله الشيوخ: هذه أبيات لا يمكن أن نتخيلها منسوبة إلى شيخ في الستين، أو كهل في الخمسين؛ لأن هذا أو ذاك يعلم أن زمان الغرق في الكرى والغرق في الكأس وموافاة العاشق للمعشوق، والسدارة في الأحلام قد مضى وانقضى، فليست الكتب هي الحائلة بينه وبين ذلك العهد، ولا معنى للنقمة عليها؛ لأنها خير ما يسليه في ستينه أو خمسينه، وإنما يحق ذلك للشاب في إبان عهده، وفي بعض ثوراته على الكتب؛ لأنها تحرمه صبوة الشباب ولا تغنيه عن تلك الصبوة؛ وقد نظمت هذه القصيدة قبل بضع عشر سنة فجاءت في إبانها، ولكنني لا أستطيع أن أنظمها بعد بضع عشرة سنة؛ لأنها تكون يومئذ كلامًا في غير أوان: ويقول الصديق إن الشاعر الذي ينادي حبيبه:
يخرج من شاعريته وعشقه إلى الفلسفة والزهادة، ويسأل: أليس أقرب إلى الفطرة قول العقاد نفسه:
ونقول: لا، ليس هذا بأقرب إلى الفطرة، ولكنه هو وما سبقه بمكان من الفطرة واحد. وكان يجب على «الصديق» أن يقرأ قبل ذلك في القصيدة الهمزية:
ويقرأ فيها أيضًا:
ليعلم موقع تلك اللهفة التي لا تصبر ساعتها، ولا ترجئ يومها إلى غدها، ثم كان يجب عليه أن يقرأ في الفائية قبل ذلك:
ليعلم معنى تلك «الكفاية الروحية» التي لا تفرق من الغد، ولا تنظر في الماضي والمستقبل إلا إلى أمد بعيد. بل كان يجب أن يقرأ فيها قبل ذلك:
ليستقر في روعه معنى تلك الكفاية الروحية التي لا تريد أن تنظر إلى شبح الفراق حتى حين بدا لها الشبح في أطوار اللقاء، ولا تدع له إلا مكانًا قصيًّا في الوهم ليس ينزعج منه الحاضر السعيد، وكان يجب عليه أن يؤلف بين الأبيات كلها ليعلم معنى ذلك الامتداد البعيد، الذي تناول آلاف السنين ونظر إلى الدنيا نظرة الخالدين، فإنه إذا استحضر هذه الحالة علم أنها حالة لا تناسب تلك العجلة التي نراها في القصيدة الهمزية، وعدها أقرب إلى الفطرة وهي ليست أقرب منها قيد أُنْمُلة، بل كان يجب عليه أن يقرأ في ليلة أخرى على النيل:
ليعلم أن الشاعر قد يحس الإحساس الواحد في الموقف المتشابه على عدة وجوه، وأنه ما دام يعبر عن الحالة ونقيضها فليس به عجز عن الشعور بإحداهما، ولكن العجز بمن لا يستطيع أن يحس الحالتين، فإذا هو عبر عن الشعور في موضع، ولم يعبر عنه في موضع آخر؛ فذلك لأنه يضع كليهما في موضعه من التعبير، أو لأنه لا ينبغي أن يحس الشيء على نمط واحد لا يتغير، وإلا لأمكن أن نتصور آلة عدادة تقوم بوظيفة الإحساس في كل موقف بالعدد المعلوم.
وانتقد الصديق هذه الأبيات:
لأن «الخيال الذي يحلق بصاحبه في أجواز الفضاء في ظلمة الليل وسكونه، لا يليق به بعد ذلك أن يراها كالهاوية المقلوبة؛ ثم لا يقنع بهذا وصفًا فيراها كالجمجمة المنخوبة، وليست الجمجمة المنخوبة إلا عظمة مظلمة ضئيلة.»
ولو تذكر الصديق أننا نقول: إن السماء تروعنا وتهولنا، ولا نقول إنها تسرنا وتبهجنا لتذكر أيضًا أن أشبه شيء بالروعة والهول هو وقفة الإنسان حين ينظر متهيبًا على حافة الهاوية، وإن فراغ السماء المظلم الرهيب — وفيه النجوم — كفراغ الجمجمة التي تخيفنا وتهمس في نفوسنا بالذكر المحبوبة، أو تخيفنا لأنها تهمس في نفوسنا بتلك الذكر، وهي على تلك الحالة الموحشة، وليست الجمجمة عظيمة أو ضئيلة، ولكنها أهول خواء في الدنيا؛ لأنه خواء الرأس الإنساني وما فيه من فكر ورجاء ومشاهد وعوالم، وهي أهول من السماء والنجوم؛ لأن السماء والنجوم بعض ما تهمس به من ذكر الحياة.
وروى الأديب عن صديقه أنه ذكر هذين البيتين:
ثم قال: «هل تذكر هذا ويسيغه عقلك؟ وماذا تقول في ذلك وأعيننا تشهد وتشريح الأجسام يشهد أن في الجسم أعضاء كثيرة لا قرين لها مثل القلب، ففي الجسم كبد واحد، وطحال واحد، إلخ.»
وقد أجاب الأديب صديقه بما بدا له، ولكنه لو شاء الاختصار لقال له: إن الجوارح هي الأعضاء العوامل، وليست هي كل أعضاء الجسم الظاهرة والباطنة، وأن المقصود بالقلوب هنا ما يتمثل فيه الجانب المعنوي من الإنسان، أي الجانب المقابل للجسوم، وليس في الإنسان عضو يشارك القلب في هذا المعنى.
•••
وقد قرأت في «المقتطف» كلمة لقارئ فاضل يقول عني مما قال: «ويريك البداوة ممثلة في «وقفة في الصحراء» وهو يقول: هضابك أم هذي أو أذى عيلم، ويصف الوحش فيقول:
فتتسامح معه في عصيانه أهل القوافي حين يزج «آدم» في بيت من هذه القصيدة.»
وأنا أشكر القارئ الفاضل على الروح الطيب الذي كتب به كلمته، وأقول له: إنني لا أبالي بعصيان أهل القوافي كل المبالاة، ولكنني لم أعصهم هنا؛ لأن آدم على وزن أفعل من الأدمة، ولا خلاف بين أهل القوافي في جواز «أفعل» في هذه القافية؛ لأن المدة هنا همزتان متواليتان، وليست بألف التأسيس التي تلتزم في كل قافية من القصيدة.
ويقول القارئ الفاضل: «والديوان مليء بنظم الخواطر في الفلسفة، والحكمة، والاجتماع، تكسوها شاعريته حلة نقية، إذا هي لم يهتز لها الشعور فإنها مما يطول فيه التأمل، فكثير من شعره قد لا يشعل العاطفة، وإنما يطيل شغل العقل.»
وأنا أريد أن أكون موجزًا ورجلًا من رجال الأعمال لا من رجال النظريات في مناقشة هذه الملاحظة، فأنا أسأل القارئ الفاضل أن يذكر لنا إذا شاء شاعرًا واحدًا ينظم فيما يهتز له الشعور، ولا يطول فيه التأمل، ثم يختار من شعره الذي هو رضاه في هذا الباب عشرين قطعة أو ثلاثين أو أربعين، وأنا كفيل له أن أختار من شعر الديوان إحدى وعشرين أو إحدى وثلاثين أو إحدى وأربعين قطعة على مثالها، ومن معدنها وأزيده إذا زاد، وحسبه، إن شاء الله، أن يخلو هو بنفسه ويتناول ديوان شاعر واحد أيًّا كان، ويحصي ما فيه من تلك القطع التي تهزه ليقابله بعد ذلك بصاحب الديوان، فهذه هي الطريقة «العملية» التي يجوز بعدها الحكم وتعصم الناقد من الزلل.
ولست أشترط على الناقد شططًا حين آخذه بالبحث في ديوان شاعر واحد لا أكثر؛ إذ إن المرء إنما يطالب بأن يكون شاعرًا واحدًا لا عشرة شعراء في ديوان! فمع هذا الشرط — الوحيد — أنا مستعد لسماع نتيجة البحث في ديوان أي شاعر شرقي أو غربي، وليكن الباحث مخلصًا في بحثه وأنا بالانتظار!