هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟١
وجه إلي الأديب اللبدي في عدد الأسبوع الماضي هذا السؤال الذي تحاور فيه الأستاذان هيكل ومطران في إحدى مساجلات الجامعة المصرية وهو: «هل الأدب العربي قديمه وحديثه يكفي وحده لتكوين الأديب أو لا يكفي؟»
والذي أظنه أن السؤال على هذه الصيغة يحتاج إلى تتمة وتقييد؛ إذ ينبغي أن نعرف قبل الإجابة عنه: من هو الأديب الذي يراد تكوينه؟ أهو الشاعر أو القصصي أو المنشئ الناثر أو الناقد الباحث في مقابلات الآداب، أو المشارك في جميع هذه الفنون؟ فالأدب العربي قديمه وحديثه يكفي فيما أرى لتكوين الشاعر والقصصي والناثر المنشئ، ولا يكفي الناقد الباحث في مقابلات الآداب؛ لأن هذا البحث يستلزم الإحاطة بأكثر من أدب واحد، وحكم العربية في هذا كحكم اللغات الأخرى التي يقاس بعضها على بعض، ولا يتأتى تعميم الرأي في آدابها واستخلاص القواعد منها إلا بعد النظر في جميعها.
أما الشاعر والقصصي والمنشئ الناثر ففي الأدب العربي قديمه وحديثه كفاية لهم من زاد اللغة لو أسعفتهم السليقة، وأحسنوا الفهم والاستقراء؛ لأننا لا نظن اليونانية التي نظمها هوميروس، والإنجليزية التي صنف فيها شكسبير، والإيطالية التي اتخذها دانتي، كانت أوسع نطاقًا وأغزر لفظًا وأكثر علومًا من هذه العربية التي تلاقت فيها الروافد من لغات اليونان والفرس والهنود والإفرنج، وكل أمة خالطها العرب، وما استعان هوميروس أو شكسبير أو دانتي بعلم أوفر من العلم الذي يتاح لقارئ العربية في هذه الأيام، فإذا ظهر في الناطقين بالعربية من له سليقة هؤلاء الشعراء، وصدق بداهتهم، وجودة تعبيرهم فقد يعالج بعض الصعوبة في تذليل البحور لمعانيه، وتمهيد الأفكار لطريقته، ولكنه يقول ما عنده ولا يقل ما يقوله عن مرتبة الكلام في آثار أولئك الشعراء.
ولكن ما يستطيعه شكسبير لا يستطيعه كل أديب، فقد ينظم الشاعر الشعر الجيد في غرض من الأغراض فيستحق أن يسمى الأديب، وأن يكون علمًا من أعلام الأدب في طبقته وبابه، ولكنه لا يكون شكسبير إلا إذا ارتقى إلى مقام الأديب العظيم والمفرد العلم في جميع الطبقات، ولا يرتقى ذلك المرتقى حتى تزدحم نفسه بذخائر الحياة وتجيش قريحته بعباب الأفكار والبدائه، فإذا هي منصبة على اللغة وإذا اللغة في ذلك الأتون الملتهب أطوع له من الحديد المذاب في يد القين القدير، فالأديب العظيم لا غنى له عن عبقرية كعبقرية شكسبير، أو عن اطلاع واسع في جميع اللغات يقوم له مقام المنظار حين ينحسر النظر المطبوع عن الأمد البعيد، أما «الأديب» الذي يقنع بحصة في الأدب يستحق بها هذا اللقب فحسبه أية لغة يكتب فيها الكتاب وينظم الشعراء؛ ولا حاجة إلى العبقرية النادرة ولا الاطلاع الواسع ليبلغ ذلك النصيب.
نعم إن في اللغات الأوربية عبارات لا يسهل نقلها إلى العربية بقوتها وطلاوتها ونفاذ معناها وبلاغة إيجازها، فإذا نظرنا إلى هذه العبارات بدا لنا أن ملكة التعبير في الأديب لا تكمل ولا تستوفي صقلها وتدريبها، إلا إذا عالجت تلك العبارات وتطرقت إلى سرها واقتبست من سحرها وعرفت مخارجها من الأفكار، ومواقعها في الأسماع، ولكنك تستطيع أن تقول مثل ذلك في اللغة العربية وأن تهتدي فيها إلى شذرات وأبيات لا ينقلها أبلغ الناقلين إلى الأوربية إلا تعثر به الجهد دون شأوها من البلاغة والعذوبة، فهنا تتعادل الكفتان بين اللغة العربية واللغات الأخرى، أو تفترقان ولكنه في فرق المقدار لا في اللباب.
وسبب هذا الفرق مستسر في النفوس والأفكار لا في الألسنة والكلمات فالأوربيون قد دربوا على فنون من الإحساس والتفكير لم يألفها المتكلمون بالعربية، فكثرت في لغاتهم دلالتها واحتالوا فنجحت حيلتهم في التعبير عنها، فلو أنهم نشئوا على الكلام باللغة العربية لصقلوا فيها تلك المعاني، وطبعوا فيها تلك الصيغ والأساليب، ولو أن العرب نشئوا على الكلام باللغات الأوربية وهم مقتصرون على إحساسهم وتفكيرهم لوقفوا بها عند موقفهم من اللغة العربية، وماذا تصنع اللغة إذا كانت العلة في الإحساس والتفكير؟ دع الشاعر العربي يحس ويفكر كما يحس الشاعر الأوربي ويفكر، وأنت تراه يكتب بالعربية كما يكتب صاحبه بلغته الأوربية، ودعه على منهجه من إحساس وفكر وأنت لا تراه يكتب حرفًا من ذاك ولو جمعت بين شفتيه لغات الأولين والآخرين، فالاطلاع على اللغات الأخرى لا يفيد الأديب كثيرًا إذا نبا به الذهن والشعور، والاكتفاء باللغة العربية لا يضيره كثيرًا إذا اتسق به ذهنه واستقام شعوره، ولا خلاف في أن الاطلاع وسيلة من وسائل التثقيف والتقويم، وأن الأديب العربي الذي يعرف الفرنسية يقرأ ويفهم ما ليس يقرؤه ويفهمه الذي يجهل تلك اللغة، كما أن الأديب العربي الذي يعرف الإنجليزية يطلع على أشياء غير التي يطلع عليها عارف الفرنسية، وكما أن الأديب الإنجليزي الذي يعرف العربية تتسع له منادح للقول لا تتسع لمن يجهلها؛ فإذا كان المراد أن زيادة الاطلاع على اللغات الأوربية تزيد الأديب في الدرجة ووسائل المعرفة، فهذا كما قلنا لا خلاف فيه، أما إن كان المراد «التكوين» في أي درجة تتفق له فلا مانع من أن يكون أديبًا ولا زاد له غير محصوله من الأدب العربي قديمه وحديثه. وربما أعاننا على حصر البحث وتقييد الجواب أن نسأل السؤال على هذه الصيغة: هل يبلغ الأديب أقصى شأو الأدب وهو لم يطلع على غير اللغة العربية؟ والجواب أنه يبلغه إذا أسعفه طبعه، ولا يبلغه إذا خذله الطبع ولو اطلع عل جميع اللغات، وأنه إذا كان فيه مستصلح ومستزاد فأحرى بسعة الاطلاع أن تهيئه للصلاح والزيادة.
•••
وبعد، فهل هذا الذي عناه السائلون والمستمعون بمناظرة الجامعة المصرية؟ يخيل إلينا من كلام الأستاذين المتناظرين، ومن مذاهب المتشيعين لكل فريق أن الذين اطلعوا على محور المناظرة إنما انتظروا أن يكون الخلاف في شيء آخر غير ظاهر السؤال وهو: هل اللغة العربية لغة قائمة على نفسها، مكتفية بذاتها، لا تحتاج إلى مزيد من اللغات الأجنبية عنها؟ وهنا لا محل للخلاف ولو على سبيل الجدل؛ لأن اللغة العربية في هذه الصفة كسائر اللغات الكبيرة ما خلت قط ولن تخلو يومًا من إضافة أجنبية في المفردات والمعاني والتراكيب، وقد أعجبتنا كلمة للدكتور يعقوب صروف نشرها المقتطف في عدده الأخير يقول فيها ذلك العالم الخبير بمصاعب الترجمة والتعريب: «إن مميزات اللغات ليست قائمة بما فيها من الأسماء والأفعال بل بما فيها من حروف المعاني، وأساليب التصريف والاشتقاق وتركيب الجمل. أي بصرفها ونحوها وبيانها، ففي اللغة التركية ألوف من الكلمات العربية، وقد تقرأ سطرين فيها مؤلفين من عشرين كلمة فتجد فيها عشر كلمات عربية، ومع ذلك يبقى الكلام أمامك تركيًّا مغلقًا لا تفهمه ما لم تتعلم اللغة التركية؛ لأن تصاريفها وتراكيبها وحروف المعاني فيها غير ما هي في العربية، وكل ما دخل التركية من لغة العرب لم يصرفها عن كونها تركية، ولا حط من منزلتها بل زادها غنى وزاد أهلها مقدرة على التعبير عن المعاني، ومثل ذلك اللغتان الإنجليزية والفرنسية، فإن فيهما عشرات الألوف من الكلمات التي تشتركان فيها ومع ذلك فكل لغة منهما مستقلة عن الأخرى تمام الاستقلال.
ولقد دخل العربية قبل جمع معجماتها كثير من الكلمات اليونانية والقبطية والفارسية والسريانية، فلم يغض ذلك من كرامتها واستمر الدخيل يضاف إليها حتى الآن، ويستحيل أن ينقطع ما دامت اللغة حية، والمتكلمون بها يخالطون غيرهم من أهل اللغات الأخرى.»
فزيادة اللغة ونماؤها علامة الحياة، واكتفاؤها وركودها علامة النواء والفناء، والعجيب أن يستدل أحد بالقرآن لينقض هذه البداهة وهي لا تؤيد بدليل كما يؤيدها القرآن، ففي الكتاب كلمات دخلت إلى العربية من الفارسية واليونانية وغيرها كالإبريق، والإستبرق، والفردوس، والدرهم، والقنطار، وكلمات وضعت لغير معناها عند العرب كالصلاة، والزكاة، والإسلام، والحنيف، وقصص لم يروها العرب إلا عن الشعوب الآخرين، وألفاظ لم تلتزم فيها قواعد الصرفيين والنحاة، وفي ذلك دليل على حاجة اللغة العربية إلى غيرها، وعلى أن الحياة الجديدة حيثما نجمت نجم معها تعبير جديد، فمن هو العربي الجاهلي الذي كان يفهم الزكاة كما نفهمها الآن؟ وكيف كان الإسلام يعبر عن معانيه إذا ظل العرب لا يفهمون من كلماتهم إلا ما كان يفهمه الجاهليون؟ وإذا كان جديد الإسلام لم يستغن عن جديد الكلام، فما أحوج كل جديد إذن إلى تجديد المفردات والتراكيب؟
كل هذا لم يكن به من غرابة عند العرب الجاهليين ولا عند المسلمين في إبان الدولة الإسلامية، ولم نسمع اعتراضًا عليه ولا توجسًا منه في أشد نوبات العصبية القومية والغيرة الدينية، وإنما اشتد هذا التوجس في عهد الضعف والجمود قبيل هذا الجيل كما قلنا في مجلة الجديد: «ترى لو كانت الدولة الآن في العالم للأمم العربية أكان يفزع الجامدون من الجديد فزعهم هذا الأخرق العقيم، ويبالغون في خطره على اللغة مبالغتهم التي ملكت عليهم أسباب التفكير الصحيح؟ أكانوا يحسبون أن كل كلمة جديدة أو عبارة مودية باللغة وقاضية على فصاحتها وبلاغتها وآتية لها ببدعة لم يسبق السابقون إليها! لا نظن ذلك، فقد أدخل العرب في لغتهم أيام قوتهم وغلبتهم مئات من أسماء الثياب، والأثاث، والعلوم، والمخترعات، غير خائفين على اللغة ولا وجلين من عواقب هذه التوسعة؛ لأنهم كانوا يأخذون تلك المفردات من أمم أضعف منهم بأسًا وأقل منهم شأنًا، بل من أمم تدين لهم بالطاعة وتدخل في حوزة سلطانهم الكبير، ولم يكن في ورود تلك الزيادة معنى الإغارة المخيفة والسطوة الخارجية، وإنما كانت كالجزية يأخذه السيد المعتز بنفسه الواثق بيومه وغده من عبده الذي يخدمه بلغته كما يخدمه بكل شيء عنده، ولولا ذلك لكان عرب الأمس من جامدي اليوم بالغيرة على لغتهم من الطوارق الأجنبية، ومدافعة المفردات والأساليب الغريبة التي تسربت إليها.»