عود إلى الشر والجمال١
… قرأت مقالك الأخير «الجمال والشر في الفنون» ردًّا على الأستاذ طه حسين، وكنت من قبل أعرف نظرتك إلى الحياة تلك النظرة الفنية الصادقة، وكنت أيضًا أعرف تقديسك للحرية والجمال، وأعتقد معك بأن الجمال حرية، ولذلك تنبأت قبل أن ينتضح قلمك بالكتابة عن علاقة الشر بالجمال، وتنبأ معي تلاميذك الذين يهديهم أدبك في طريق الجمال والحرية والاستقلال بما يكون عليه رأيك، وقد صدقت النبوءة، وجاء رأيك صورة صادقة من صور نفسك التي تمثلها تلاميذك أحسن تمثيل.
وإذا كانت كتابة سيدي الأستاذ تنسي القارئ نفسه أثناء القراءة، فإنه لا ينشب أن يعود إلى نفسه فيطيل التفكير والتأمل والتخييل.
ذكرني مقالك الأخير بمقال آخر في كتاب «المراجعات»، وهو الاعتراف بالعيوب، فلم أستطع المواءمة والملاءمة بين المقالين، ذلك أنك وصلت في هذا المقال إلى النتيجة الآتية: «لنا أن نعرف الطبيعة الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أن الإنسان لم يصعد في سلم الخلق إنسانًا ليظل حيوانًا في كل شيء، ولنا أن نعترف بالشهوات والعيوب، ولكن علينا ألا نتخذ من هذا الاعتراف نشيدًا نتغنى به غناء الافتخار، ونحرق حوله بخور البشرى والانتصار» فكيف نوفق إذن بين إنحائك باللوم العنيف على كتاب الواقع والطبيعة، وهم يكتبون عن الشهوات الشيطانية ويخرجونها من قماقمها لينتزعوا منها صورًا فنية جميلة، وبين ردك على سؤال الأستاذ طه حسين في أن الكتابة عن الشر والقبح حسنة جميلة إذا كانت فيها مزية الأداء الجميل؟
أرى أن الطالب الأديب قد كان في غنى عن الرجوع إلى مقال «الاعتراف بالعيوب» في كتاب المراجعات؛ لأن ما ذكرته في ذلك المقال قد أعدت ذكره بمعناه عند الكلام على «الجمال والشر في الفنون»، ولم أستحدث في هذا الموضوع رأيًا غير الذي رأيته من قبل في «الاعتراف بالعيوب». فأنا لا أخرج شعر بودلير من الفن؛ لأنه يصف الجثث والمناظر المنكرة فيحسن الوصف ويصدق في التعبير، ويرعى الأمانة في الشعور، ولكني لا أبرئه «من تهمة المسخ والانحراف حين أنظر في شعره فلا أرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض»، فهو شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ولكنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة. بل لقد قلت إنني أقرؤه وأود لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق بذلك المزاج الذي أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط، لحذفت منه الكثير وأرسلت به إلى المستشفى أو السجن، ثم أوصيت به الطبيب أو السجان.
فكل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أقول في كلام بودلير وأمثاله إنه ليس بشعر؛ لأنه في الحقيقة شعر بليغ صادق الوصف، حسن الأداء، وأيًّا كان رأيي في المثل الأعلى والأخلاق فليس في قدرتي ولا هو من حقي، ولا هو مما يطابق نظرتي إلى المثل الأعلى والأخلاق أن أجيء إلى كلام فني فأخرجه من سلك الفنون، أو أن أخلط بين مقاييس البلاغة ومقاييس الأخلاق.
كان بعض الدعاة الدينيين — ولا أريد أن أذكر اسمه هنا — دميمًا قميئًا، رث المنظر، مشوه الوجه بالدمامل والثآليل، سليط المقال، لا يكف عن اللعن والوعيد، فلو حكمت على ذلك الداعية بمقياس الجمال لاستقذرته وأعرضت عنه، ولو حكمت عليه بمقياس الشريعة في بداية ظهوره لقضيت عليه بجريمة العبث بالعقائد المرعية، والثورة على النظام، ولو حكمت عليه بمقياس التاريخ والخير لعرفت له فضائله، ورفعت قدره، وأغضيت عن حكم الجمال وحكم النظام، فماذا تقول في الناقد الذي ينكر على ذلك الداعية رسالته في الدين، ومواعظه في الأخلاق لقبح منظره وسلاطة لسانه؟ وماذا تقول في الناقد الذي ينكر عليه تلك الرسالة؛ لأن قانون زمانه كان يدينه بالثورة والعصيان، إن الذي تقوله في هذا الناقد هو الذي يجب أن تقوله في ناقد يزعم عن بودلير أنه ليس بشاعر ولا صادق في الوصف، ولا بليغ في الأداء؛ لأنه لم يكن على سجية نرضاها في قوانين الأخلاق، وإذا كان حبك للخلق الكريم لا يبيح لك أن تصف الداعية الديني بجمال الجسم، وملاحة التقاسيم، فحري بكراهتك للخلق الدميم ألا تبيح لك نكران البلاغة على شاعر بليغ؛ لأنه لم يكن على خلق كريم، ولا سيما إذا كان ذلك الشاعر لا يكذب ولا يزيف، وليس يصف للناس إلا ما هو صادق في إحساسه موفق في أدائه.
محكمة النقد محكمة كثيرة القضاة كثيرة القوانين، لا يجلس فيها قاض واحد ولا تدين بقانون واحد، وكأنها محكمة الخلود عند قدماء المصريين قضاتها أربعون، وميزانها لا يفرط في كبير ولا صغير، ولو أنك نقدت وحشًا كالنمر لتعددت النظرات إليه، وتباينت الأحكام عليه، فاحكم عليه بقانون الزارع الضنين بخرافه وأبقاره تقضِ عليه برصاصة قاتلة، واحكم عليه بقانون عالم الحيوان تَرَهُ جديرًا بقفص الصيانة وطيب الطعام، واحكم عليه بقانون المصور تنفقْ وقتك في رقابته وتمثيل حركاته وألوانه، واحكم عليه بقانون الشاعر يَرُعْكَ بأسه وضراوته ويعجبْك زئيره وانفتاله، واحكم عليه بقانون التاجر تقدِّرْه بقيمة جلده في سوق الصناعة والزينة، واحكم عليه بقانونه هو تجده على حق حين يلتهم الفرائس، ويهجم على الناس، ولا يعف عن شيخ ولا رضيع، واحكم عليه بقانون الخالق الذي خلقه تعلم أنه جزء من هذه الحياة له فيها مكانه وأصله وجملة خيره وشره، ولست تستطيع أن تجد القانون الذي يبيده مرة واحدة، أو يصونه مرة واحدة؛ لأن حقيقته أوسع من أن يحدها قانون واحد؛ وهو هو النمر وليس هو بالإنسان ولا بالإنسان الشاعر الذي يذهب بك الحكم عليه مذاهب في تقدير الفن والجمال والأخلاق والعلم — لا انتهاء لها ولا ضابط لحدودها الواسعة — فإذا أثنيت على بودلير في ناحية، وذممته في ناحية، فأي عجب في ذاك والرجل في شعره وحياته أوسع من حقيقة النمر، ومن حقيقة بعض الناس.
وما بالنا نختلف في الشر والفن ولا نختلف في الفن والعلم؟ فالعلم يبحث الأمراض والرذائل، ويعالج الطيب والخبيث ولا يحصر بحثه في الخير والكمال، وعذر العلم في هذا — إن كانت به حاجة إلى العذر — هو عذر الفن حين يعرض الحسنات والسيئات، ويحيط بالحميد والذميم، ثم نحن نعرف أن المرض شر وإن درسه العالم، وأن الرذيلة شر وإن نظم فيها الشاعر، ونقول إنه شاعر شرير إذا كان ولعه بالشر يعميه عن الخير، ويحجب عنه الكمال، ونقول: إنه شاعر عظيم إذا كان يمثل لنا الشر كما مثل لنا ملتون خبث إبليس، أو كما مثل لنا ابن الرومي دمامة الأحدب والأصلع والشحيح، فهو شاعر هنا وهناك، ولا دخل في اختيار موضوعه لقدرته الشعرية إلا حين ننعت قدرته بنعت من الصحة أو من الأخلاق.
تقول: أليس الشاعر لا ينبغي له «أن يتخذ من الاعتراف بالشهوات والعيوب نشيدًا يتغنى به غناء الافتخار، ويحرق حوله بخور البشرى والانتصار؟»
نقول: نعم لا ينبغي له ذلك، ولكن ترى لو أنه فعل ما نهيناه عنه ماذا يكون؟ ألا يكون شاعرًا؟ كلا! بل يكونه ويكون أنه فعل ما لا ينبغي، وليس فعل ما لا ينبغي بالممتنع على الشعراء خاصة ولا على الناس كافة، فإذا شئت أن تسأل: أو لا نحتقره إذا هو أجاد في الشعر وفعل ما لا ينبغي له؟ قلنا: بل لك أن ترسله إلى السجن، وللدنيا بعد ذلك أن تحكم عليك أنت أو عليه هو بجملة ما عندها من قوانين الشرائع والعواطف.
إن الشعر غير الجمال. هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا يلزم منه أن الشرير غير الجميل، فقد يكون الشر في جميل، وقد يكون الجمال في شرير، ومن هنا ينطوي وصف الشر في وصف الجمال، ويجمع الشاعر بين الوصفين، ولا مطعن عليه في الذوق أو الفن أو الإحساس.
وإن التعبير عن الشر غير الشر في ذاته، وهذا حق آخر لا ريب فيه، فقد يكون الشيء شرًّا محضًا، ويكون التعبير عنه جميلًا يروق الناظر المتأمل، ومن هنا نعبر عن اللؤم وهو قبيح بالكلام البليغ وهو جميل، ولا مطعن على من يعبر ذلك التعبير من جانب الفن، ولا من جانب الأخلاق.
وإن تصور الشر في ذاته غير عمله وتسويغه، وكذلك لا ريب فيه، فلا حرج على أحد أن يتصور الشر ويعرفه، ولكن الحرج أن يعمله، ويستحسنه، والحرج عليه في هذا إنما يكون من ناحية الأخلاق لا من ناحية البلاغة والتصوير، فإذا كانت العقرب تلدغ الناس وتميتهم فلا لوم على على المصور أن يرسم العقرب ويمثل فريستها، ولكن اللوم عليه أن يجعلها تلدغ وتميت وأن يستحب منها اللدغ والإماتة، وهو حين يفعل ذلك لا يكون مصورًا ولا ينصرف النقد منه إلى ملكة التصوير.
على أننا نقول ما هو أبعد من ذلك مدى في هذا الباب، نقول إن القانون الذي يقضي على الحياة بأن تبرز نفسها، وتمثلها في خيرها وشرها هو أعرق وأكبر وأقوى من جميع قوانين الأخلاق السارية ما ظهر منها وما سوف يظهر وما بطل وما لا يزال؛ لأن الناس إذ يضعون قوانين الأخلاق السارية إنما يضعونها من حيث هم أعضاء في مجتمع وأصحاب مصالح ومعاملات، ولكنهم إذ يندفعون إلى تمثيل أنفسهم إنما يندفعون إلى ذلك من حيث هم أناس بل من حيث هم أحياء سابقة للاجتماع والمصالح والمعاملات، بل نكاد نقول من حيث هم موجودات يجري عليها ما يجري على كل موجود؛ لأن تمثيل ما أنت عليه هو طبيعة التكوين لا محيد عنها لكائن يعقل أو لا يعقل ويريد أو لا يريد، فقد تغيرت قوانين الأخلاق ولم يتغير الشعر والفن ولن يتغيرا أبد الزمان، وقد أمرت الأخلاق أمرها، ونهت نهيها، ونظم الشعراء فيما أمرت به ونهت عنه فطرب الناس للنظم وحنقوا على الناظمين، ولو لم يكن قانون الحياة ذاك أقدم من قوانين العرف ودواعي الاجتماع لما بقي هذا البقاء في كل أمة، ولا كانت له من قوة تشد أزره إلى جانب القوانين التي يشد أزرها الجنود والجلادون، فحسب الأخلاق إذن أنها تحكم على زمانها وتصول برهبتها، وكفى صيانة لها وضمانًا أنها مخشية البطش والازدراء، وأنها تثأر لنفسها من طغيان ذلك القانون القديم، فذلك كاف جد الكفاية لبلوغ غايتها، وإنجاز وظيفتها وحماية حوزتها، أما الزيادة على ذلك فربما كانت أخطر من طغيان دوافع حياة.