تمثال النهضة١
الضروريات قبل الكماليات، كلمة تسمعها كلما تحدث متحدث عن أثر يقام لعظيم، أو زينة فنية تتجمل بها مناظر المدينة، أو دراسة أدبية لا يصنع منها الخبز، ولا يحمل عليها الماء، والذين يصيحون بتلك الكلمة يظنون أن الدراسات الفنية والأدبية مما يمكن أن يؤجل ويؤجل ويؤجل إلى أن ننظر حولنا فنرى أننا مستوفون لكل صناعة مربحة، ولكل علم منتج، ولكل عمل يدوي وأننا لا نشتري الإبر ولا الخيط والمخيط من الأسواق الأجنبية! فيومئذ نقول لأنفسنا: ها نحن اليوم قد استوفينا الضروريات، فلنبدأ بالكماليات، وها قد وفر عندنا الزاد فلنلتفت للنوافل والفضول، ونقول للمصورين، والموسيقيين، والكتاب، والشعراء. الآن فاظهروا من حيث كنتم مختفين ثم اخلقوا لأنفسكم المواهب والعبقريات التي لم تكن مخلوقة قبل اليوم، فقد فرغنا من مائدة الطعام والشراب، ولم يبقَ لنا إلا أن نلهو بالمنادمة والسماع!
وذلك خطأ جسيم هو فيما يلوح لنا وليد الخطأ في وضع كلمة لغير معناها، أو وصف شيء بغير صفته، فالفنون والآداب ليست من «الكماليات» التي تجيء في ترتيب الظهور بعد الطعام والشراب والكساء والبناء؛ لأن الأغاني والصور والحلي وجدت مع الناس قبل أن يبرحوا الكهوف إلى العمار وقبل أن يتهيأ لهم من وسائل الرفاهية ما يتهيأ اليوم لأفقر الناس، وإذا كان الإنسان يعيش بغير الصور والأناشيد ولكنه لا يعيش بغير الخبز والماء ولوازم الجسد، فليس مقياس الحياة هو أقل ما نحتاج إليه ولا نعيش بغيره، بل هو أرفع ما نحتاج إليه وقد نعيش بغيره.
فنحن والحيوانات سواء في مادة العيش التي يقوم بها الجسد، ولا يقدر على الاستغناء عنها بحال، ولكن ضرورة الحيوان ليست هي ضرورة الإنسان، وكون الإنسان إنسانًا وليس بحيوان هو الذي يستلزم أن تكون له ضرورات غير الضرورات الحيوانية التي لا تعيش بغيرها عامة الأحياء، ومن تحريف الحقائق أن يظن أن الفنون والآداب كماليات، وأن الكماليات إنما تأتي بعد الضروريات في ترتيب الظهور، فإن الفنون والآداب علامات ظاهرة لمطالب نفسية باطنة إذا وجدت هذه المطالب وجب أن توجد معها تلك العلامات، ولم ينتفع فيها الإرجاء ومحاولة الترتيب، فلا معنى إذن لتسميتنا الفنون والآداب بالكماليات، وانتظارها في دورها بعد استيفاء جميع الضروريات، فإن الكماليات إذا كانت تجيء في الحاجة إليها بعد ترتيب الضروريات فليس باللازم أن تجيء ملكاتها بعد الملكات التي تستنبط الضروريات، ومن المضحك أن نتصور ملكات الذهن والنفس مصطفة في «طابور» مرتب على حسب الفوائد المحسوسة التي تعود علينا منها، فلا تتقدم الحيلة التي تخترع في الحدادة مثلًا على الحيلة التي تخترع في الزراعة، ولا تبرز الفلسفة والشعر والتصوير في ذلك الطابور، إلا بعد أن يتقدمها كل ما يلزم من الملكات لاختراع المحاريث والمواقد والمباني والبخار والكهرباء! وهكذا حتى ينتهي «الضروري» إلى آخر صغيرة في أصوله وفروعه، ثم يؤذن «للكمالي» بموقفه في «طابور» الملكات! إذ الواقع أن الهبات الشعرية والفنية طالما ظهرت في الأمم قبل الهبات المخترعة في حاجات الطعام والكساء والبناء، وأن دلائل الحياة لا تعرف ترتيبًا ولا طابورًا، فهي إما موجودة أو معدومة وهي إن كانت موجودة فلا بد أن تظهر بعلاماتها وتعبيراتها، ولا تتأخر عن ذاك بمشيئة من يريد تأخيرها، فالذي يقول لنا انتظروا حتى تصنعوا كل إبركم وأثوابكم في مصر، ثم احفلوا بالتماثيل والمعارف والخطب والأشعار، كالذي يقول للإنسان انتظر حتى تشعر بالجوع قبل أن تعلم عينيك الشعور بالضياء، وأذنيك الشعور بالغناء، ولسانك الكلام والترنيم؛ لأنك بغير المعدة لا تعيش، ولكنك بغير النظر والسمع والكلام تعيش وتحسب من الأحياء، فالشعور إذا انبث في الفرد أو الأمة لا يتبع في مسيره ذلك الخط العجيب من الترتيب المضحك المستحيل، ولكنه ينبث هنا وهناك ويدل على نفسه بمختلف الدلالات، وقد يأتي بالمغنين المطربين قبل أن يأتي بالحدادين والنجارين، مذ كان الغناء أدل على الحياة من عمل الحديد والخشب، فإننا بغير الحديد والخشب قد نحيا ونمتلئ بالحياة، ولكننا بغير البواعث التي تستجيش النفس إلى الغناء لا نعد من الأحياء.
•••
هذا كلام يقال لأولئك الذين لا يريدون أن يروا في جوانب مصر تمثالًا واحدًا، أو يسمعوا فيها نشيدًا واحدًا، حتى تمتلئ بالمصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم، وحتى تستغني عن كل علم يستزاد من علوم الطعام والأموال، فإذا تمت لها طلبتها من هذه «الضروريات» فهناك تشرع في نحت التماثيل، وصوغ الأناشيد، ولكن لماذا ليت شعري أو ليت شعر أولئك الضروريين؟ لماذا ننحت التماثيل ونصوغ الأناشيد بعد بناء المصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم والمدارس التي تزودنا بعلوم الضرورة والاحتياج؟ أننحتها ونصوغها لمجرد أننا قد بنينا هاتيك المباني وختمنا هاتيك العلوم؟ أننحتها ونصوغها احتفالًا وابتهاجًا بالفراغ من الضروريات، وتضييعًا للوقت حبًّا للبطالة لا حبًّا لشيء آخر وراء ذلك التضييع؟ إن التماثيل تنحت والأناشيد تصاغ لبواعث في النفس تدعو إلى نحتها وصوغها، وليس لمجرد الفراغ من بناء المصارف والمستشفيات وما إليها من لوازم المعاش، وإذا وجدت تلك البواعث فهي لا تنتظرنا ولا تستمهلنا، وليس لها محيص عن الظهور ولو لم يكن في البلد مصرف واحد ولا مصنع واحد، وما دام التمثال كالمصرف مرتهنًا بدواعيه وموحياته فلماذا يتوقف أحدهما على الآخر ولا يظهر كل منهما حين ينبغي له الظهور؟ إنه ليظهر في حينه وإن التمثال لا يتوقف على المصرف ولا المصرف يتوقف على التمثال إلا بمقدار ما يتوقفان معًا على نهوض الأمة وحظها من الشعور والإدراك.
•••
في وقت واحد بزغت فكرة المصرف بمصر وفكرة التمثال؛ لأننا في وقت واحد نهضنا للحرية والكرامة، وأحسسنا بالفاقة في عالم المال، وفي عالم الفن الجميل، وليس التمثال الذي تجسمت فكرته وتم تكوينها هذا الأسبوع إلا لونًا محسوسًا لتلك الحياة التي برزت بألوان شتى في المصرف، وفي السياسة، وفي الآداب، وفي العلوم، ولكنه ليس بالفكرة الأولى في فنوننا الجميلة، وإن كان هو الفكرة الأولى التي اتصلت مظاهرها بحياة الطرقات والجماهير.
تمثال نهضة مصر أول عنوان يقرؤه العابر في ميادين القاهرة من كتاب نهضتنا الفنية، أو إن شئت فقل من كتاب نهضتنا القومية في شتى فروع الحياة، وقد كان العابر في هذه العاصمة لا يقع على رمز واحد لروح مصر الحديثة، ولا يلمح في طية من طياتها ملامح منف الذاهبة، وآثار الجبابرة الخالدين من بناة الأهرام والأوتاد، فاليوم يتصل ما بين مصر الحديثة ومنف القديمة، ويتقارب ما بين أبي الهول الرابض وأبي الهول الناهض، وتنطق صخور مصر مرة أخرى بما أفاضته عليها روح مصر؛ ماضيها العريق وحاضرها المأمول.
هذه هي القيمة الكبرى لتمثال النهضة الذي أنجره الأستاذ محمود مختار، فهو عنوان مشهود لشيء في مصر غير المعدة والمحراث، وهو نبوءة للمستقبل وشعاع ينعكس من حاضرنا على غابرنا، بعد إذ كان النور كله منبعثًا من الماضي على خواء في الحاضر لا يسر الناظرين، ولقد نقدت التمثال عند الشروع في بنائه ليزول عنه نقصه، وتصح له قيمه، فهل أذكر ذلك النقد الآن! نعم أذكره لأقول لمن أنكروه يومئذ: إنه أفاد كل ما يرجى له من فائدة، وإن ثناءهم على التمثال لم يخدمه كما خدمه الناقدون. قلت يومئذ: «وفي التمثال ما عدا هذا عيب آخر من عيوب النظر الفني والنظر التاريخي معًا. ذلك أن أبا الهول المصور فيه لا يشبه في شيء من ملامحه أبا الهول القديم الذي بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما في معابد البطالسة من هذه النصب، وإنه لمن الخطأ في قصة الفن والتاريخ أن نختار لتصوير نهضة مصرية نصبًا بنته في مصر أسرة أجنبية وعندنا تمثالنا ذاك العريق المهيب» فمن ينظر الآن إلى وجه أبي الهول الذي أميط عنه الستار في هذا الأسبوع يحمد للأستاذ أنه أخرجه في صورة مصرية فرعونية تدل عليها الشفتان والأنف والذقن والخدان والعينان، ولم يجعله بطليموس كما مثله في صوره الأولى منذ ثماني سنوات، ويخيل إلينا كما لاحظ صديق لنا أن الأستاذ مختار غلا في ذلك حتى ألبس وجه أبي الهول مسحة الإنسانية التي لا تناسب ما يحف به من رهبة الغموض والأسرار، وقد يقال: إنه ألبسه هذه المسحة؛ لأن أبا الهول المجاهد في النهوض يناسبه ضعف الإنسانية وعناؤها في مغالبة العقبات والآلات، وهذا عذر له وجهه إذا قيل، ولكننا نفقد أبا الهول كله إذا فقدنا اللغز فيه، فليكن له نصيب الإنسانية بمقدار ما يوحيه الجهاد والكفاح، ولكن لا يخل من نصيب الغموض والأسرار الذي هو معناه الأصيل، وموضوع العجب في التحرك والنهوض.
إن تمثال «نهضة مصر» باكورة الرموز الفنية في ميادين العاصمة، فلا يكون له معنى إلا إذا تبعته شواهد هذه النهضة في غير تمثال واحد لمعاني الحياة القومية، ولا نغتبط به جد الاغتباط إلا إذا كان ترحيبًا بما يخلفه من روائع التماثيل في كل ميدان.