الفنان أو معاني الكلمات١
… تستعملون في كتاباتكم كلمة الفنان بمعنى الرجل الفني أو المتفنن وهي في اللغة بمعنى حمار الوحش، وقد نبه إلى ذلك بعض الباحثين في اللغة، وقرأنا هذا التنبيه مكررًا في إحدى صحفنا اليومية، فما هو الوجه الذي تعولون عليه في استعمال هذه الكلمة؟ وهل لكم أن تخصصوا مقالًا من مقالاتكم في البلاغ الأسبوعي لبيان رأيكم في الكلمات التي ينكرها أناس من أنصار القديم وهي دارجة في كتابات بعض الأدباء؟
كلمة الفنان من الكلمات المشتقة، وليست من الكلمات الجامدة التي وضعت في أصل اللغة لاسم لا تنصرف عنه، والشأن في جميع المشتقات أنها صفات يوصف بها كل من يشترك فيها بمعنى من معاني تلك الصفات، كالفراس تقال للأسد، وتقال لكل من يفترس مثله، ولو كان الفرس بالكيد والغلبة، لا بالأظفار والنيوب، فمن أين جاء وصف حمار الوحش بالفنان؟ وما الذي دعا إلى تعريفه بهذا الاسم في بعض ما سمع من أسمائه؟
إن الفن في أصل اللغة هو الخط واللون، ومنه التفنين بمعنى التزيين والتزويق، والأفانين بمعنى الفروع أو الضروب، وهكذا كل ما تعدد فيه الأشكال والأوصاف، مما ينظر بالأعين أو يدرك بالأفكار، وقد سمى حمار الوحش ﺑ «الفنان»؛ لأنه كثير الخطوط أو كثير الفنون، وكذلك سمي بالزرد؛ لأن جلده كالزرد في نسجه المتداخل أو المتقارب، فإذا جاز لنا أن ننكر الفنان بمعنى كثير الفنون جاز لنا أن ننكر إطلاق الصفات على غير موصوف واحد، وهو في اللغة وفي غير اللغة لا يجوز، بل جاز لنا أن ننكر على العرب أنفسهم وصف الخطوط بالزرد؛ لأن الزرد في الأصل هو الخنق والتضييق، ومنها سمي الزرد؛ لأنه حلق ضيق يدخل بعضه في بعض وتنسج منه الدروع.
ومن هذا القبيل تسمية الظبي بالأعصم والظبية بالعصماء، ثم وصف القصيدة والمعاني بهذه الصفة؛ لأنها تشارك الظباء وغيرها من العصم في المنعة، والصعوبة وبعد المتناول، بل من هذا القبيل نقل العزة من الصعوبة إلى رفعة الشأن، والذلة من السهولة إلى الهوان، وأصلهما موضوعان لغير هذا المعنى، فالعزيز هو الصعب، والذليل هو السهل، وليست كل صعوبة شرفًا ولا كل سهولة عيبًا، ولكن هكذا يشاء انتقال المعاني في كل كلمة وكل لغة يعينها الاستعمال ولا يعينها شيء غير الاستعمال.
فالذي لا ريب فيه إذن هو أن الفنان كلمة عربية، وقياس عربي، وأنها بمعنى الكثير الفنون أو الكثير التزيين؛ لأن العرب تقول فن الشيء أي زينه فهو فانٌّ وفنان، ولا خلاف في صحة هذا الحرف ولا في صحة هذا القياس، فلو لم يرد في السماع اسم «الفنان» علمًا على شيء كثير الخطوط والفنون لما كان لنا محيص من الإتيان بصيغة المبالغة على «فنان» من الفعل «فن» بمعنى زين، كما تقول خطاط من خط، وعداد من عد، وحلال من حل، وهكذا في جميع صيغ المبالغة على هذا القياس.
ولقد كانت العرب تعرف «كتب» بمعنى ربط أو قيد، والناقة «المكتوبة» عندهم هي الناقة المربوطة أو المقيدة، فلما عرفوا الخط والتدوين سموا هذه الصناعة كتابة؛ لأنها تقيد الكلام فلا يشرد عن الذهن، ولا يضل في تيه النسيان كالناقة المقيدة التي تصان بالرباط عن الشرود والضلال، فليس الكاتب الآن هو الرابط كما كانوا يدعونه عند وضع الكلمة في البداية، ولكنه هو صاحب صناعة القلم قد غلبت عليه التسمية، حتى نسخت أصل الكلمة وخصت بالمعنى المجازي، فلا تنصرف إلى المعنى الأصيل، فلو قلت إن «الكتابة» ليست بعربية لكنت أصوب قولًا ممن يرى أن الفنان ليس بعربية؛ لأنك تستطيع أن تخالف في أن «الفنان» هي صيغة المبالغة القياسية من «فن» وأن «فن» فعل عربي بمعنى زين أو خط أو لون، وأن هذا الحرف إما أن يقبل عربيًّا في أساسه على هذا المعنى أو لا يقبل على الإطلاق.
ونحن نقول الآن أنصار القديم وأنصار الجديد، فمن من العرب الأولين كان يفهم الجديد على معناه الذي فهمه العرب المتأخرون! إن الجديد في أصل وضعه هو المقطوع، والثوب الجديد عندهم هو الثوب المقطوع؛ لأنهم يجدونه أي يقطعونه حين يشترونه، فهو مجدود وهو «جديد». ثم أصبح الجديد وصفًا لكل حديث طريف، ولو لم يقطع ولو لم يكن ثوبًا أو شيئًا من أشياء اللباس، ولا تزال جد وجذ وجز ترد في المعاجم وفي الكتابة بمعنى قطع، أي بمعناها الأول الذي عرفه العرب الأولون، فإذا قلنا لأحد «هذه فكرة جديدة!» فقال لنا إن كلامكم هذا غير عربي لأن الفكرة لا تقطع، فهل يكون صوابه إلا كصواب الذي يقول إن «الفنان» غير عربية؛ لأن العرب وصفت بها حمار الوحش فلا يجوز بعد ذلك أن يكون شيء له خطوط وله فنون غير جلد ذلك الحمار!
•••
وبعد فلماذا نفصل الفني على الفنان في الدلالة على المصور والشاعر والمنشد ومن إليهم من رجال الفنون؟ هل أطلق العرب كلمة «الفني» على المصورين والشعراء والمنشدين؟ كلا! ولم ترد قط كلمة «الفني» بهذا المعنى في كلام عربي قبل العصر الحديث، فإذا كانت الفني لم تسمع عن العرب فلماذا ندع الكلمة التي لا التباس فيها لنستعمل كلمة تلتبس بالمنسوب فلا ندري حين نقول «الفني» هل نحن ننسب إلى الفن أو نحن نعني الرجل الفنان؟ أليست الفنان أقرب إلى صحة الاستعمال؛ لأنها صيغة مبالغة صحيحة من فعل عربي صحيح، ولأنها من جهة أخرى أدل على الخلق والإنشاد من مجرد النسبة إلى الفن كما تنسب المصنوعات، ولأنها من جهة ثالثة هي القياس في أوصاف أصحاب الصناعات، كالعطار، والنجار، والحداد، والفراء، والوراق، والسراج، إلى آخر المقيس والمنقول عن العرب في هذا الباب؟
فلا خطأ ولا تجوز في استعمال «الفنان» لمعناها الحديث، ولا وجه لأن يقال: إن «الفنان» غير عربية إلا إذا جاز أن يقال: إن «الكاتب» كذلك غير عربية؛ لأن الكتابة عمل غير الذي اصطلحنا عليه الآن.
•••
إن التصرف في أوضاع الكلمات طبيعة اللغة التي لا طاقة بمنعها لمتشدد ولا مترخص. وقد يكون للتشدد أثره الصالح في صيانة اللغة من غلواء المترخصين الذين يستحدثون الكلام المخالف للسماع والقياس بغير ضرورة موجبة، أو يهيمون على رءوسهم في الترجمة والتعريب بغير علم ولا عناية.
ولكن هذا التشدد لن يحيي كلمة ميتة، ولن يميت كلمة حية، ولن يكون هو القسطاس المستقيم فيما يؤخذ وفيما يترك من المفردات، فإذا أورد متشدد اعتراضًا على كلمة يستغربها، فمآل الحكم في ذلك الاعتراض إلى الاستعمال، وما رزقته اللغة من قوة البنية التي تعصمها من الخلل والفوضى، ومصير كل كلمة صالحة إلى الدخول في بنية اللغة، والتمشي مع قواعدها وأصولها حتى يعود الحكم فيها كالحكم في كل كلمة عريقة أو مستحدثة، ولسنا نأبى على المتشددين حذرهم وصلابتهم؛ لأنهما خير من الفوضى والإباحة التي لا ضابط لها، بل هما خير من تعسف المعربين الذين يعيبون الترجمة في بعض الأحيان؛ لأنها لا تؤدي معاني المترجمات كل الأداء لأول وهلة، فالذين يقولون مثلًا إن «الدراجة» لا تصلح لترجمة «البسكليت» لأن كل ماشية تدرج فهي دراجة، وليس الدرجان مقصورًا على البسكليت وحدها — هم أقل تصرفًا وسماحة من الذين يحرمون كلمة الفنان وما شاكها، وأشد تحريجًا على اللغة من أنصار القديم — إذ إن معنى «البسكليت» في أصل وصفها هو «ذات الدائرتين الصغيرتين» وهو معنى لا يدل عليها كما قد تدل عليها الدراجة، فالغلو في مذهب التعريب على هذا النمط، واتخاذ هذه الحجة الواهية سببًا لتفضيل كلمة البسكليت على كلمة الدراجة خطأ لا يقل عن خطأ المتحرجين من كل تصرف في أوضاع الكلمات، ومن كل تبديل لما سبق به المتقدمون.
والعيب عند هؤلاء وهؤلاء أنهم لا يذكرون أن إطلاق اللفظ على المعنى هو مناط التعيين لذلك المعنى، وهو هو الفارق بين اللفظ وسواه، وأن كل استعمال يجوز إدماجه في قاعدة من قواعد اللغة هو استعمال صحيح لا غبار عليه.