الشعر العربي والشعر الإنجليزي١
… أدينا امتحان آداب اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وكان من مواضعيه التي سئلنا الإجابة عليها: أي فروق خطيرة لاحظتها فيما درست من شعر إنجليزي بين الشعرين العربي والإنجليزي؟ وفيم تراهما يلتقيان؟ وقد فكرت لأول وهلة فيكم لتوفركم على درس الأدبين، وإذا كنت لم أستطع سؤالكم أثناء الامتحان فها أنا أبادر بعد الفراغ منه إلى سؤالكم، وموضوعنا هذا فيما أرى موضوع قيم يستحق الكتابة بل يستوجبها وجوبًا ممن عرك الأدبين، ووقف على ما فيهما من حسن، وما التقينا عنده فأثبتا وحدة النفس الإنسانية والفنية، وما اختلفا فيه نزولًا عند حكم البيئة والظروف.
إني أرحب بسؤال الطالب الأديب؛ لأنه سؤال وجهته إلى نفسي كثيرًا، وأظنني قد أجبت عليه مفرقًا في بعض المقالات التي عرض فيها ذكر الأدبين العربي والإنجليزي، فخلاصة المشابهات والفروق التي دلتني عليها قراءتي لأشعارنا وأشعار الإنجليز يمكن أن تجتمع فيما يأتي: تتقارب المشابهة بين الشعر العربي والشعر الإنجليزي جدًّا في المعاني الحسية الفردية، ولبيان ما أريده ﺑ «الحسية الفردية» أقول إنني أعني بها تلك المعاني التي لا يحتاج الشاعر للشعور بها إلى أكثر من أن يكون إنسانًا له بنية جسدية، ومطالب نفسية، لا علاقة لها بالبيئة الاجتماعية، فالحزن، والغضب، وحب المرأة، ووصف المشاهد التي تقع عليها الحواس، والألم الذي يصيب الجسم، أو يمس النفس من ناحيته، كل هذه إحساسات يمارسها الإنسان الفرد؛ لأن له تركيبًا جسديًّا يرى ويسمع ويجوع ويعطش ويشتهي ما يشتهي، وتتصورها أنت فيه ولو لم تتصور له أمة ينتمي إليها وتاريخًا يرتبط به، فهي إحساسات مرجعها إلى وظائف الجسد وتركيب الفرد من حيث هو كائن حي لا صلة له بالأمة والتاريخ، وهذه هي الإحساسات التي يتشابه في وصفها الشعر العربي والشعر الإنجليزي، وتنعقد المقابلة فيها بين الشعرين، فترى للعرب فضلًا لا يقل عن فضل الإنجليز، وقد يرجع عليه أحيانًا لتفرغ العرب لهذه المعاني وانصباب خواطرهم في ناحيتها دون غيرها، فليس بالنادر أن ترى للشريف والبحتري والمتنبي وأبي نواس والعباس بن الأحنف وأبي العتاهية، وأضراب ابن مناذر والعتابي والحسين بن الضحاك وعلي بن الجهم، ومن قبلهم في الجاهلية، ومن بعدهم من المحدثين، أبياتًا وقطعًا في الرثاء والغزل والشكوى تضارع أبلغ ما نظم الإنجليز في هذه المعاني، وقد تفوقها على الجملة في النفاذ والتوقد الذي تمتاز به الصرخات الحسبة، والومضات المحصورة، وقد نرى أن رثاء العرب يفضل رثاء الإنجليز في هذه الخصلة، فيمعن في حس قارئه ويستبكيه، على حين أن الرثاء الإنجليزي يستجيش عنده الخواطر المحزنة، ويخاطبه بلسان البكاء الذي تفيض به أجفان العيون، وهنا تقف المشابهة العامة بين الشعرين العربي والإنجليزي؛ لتبدأ الفروق وتنفرج مظاهر الاختلاف.
أما هذه الفروق والمظاهر المختلفة فأشملها وأعمها أن شعر العرب شعر منبت مقصور على أمة واحدة، وأن شعر الإنجليز شعر متفتح الجوانب متصل بحياة الأمم الأخرى. فإذا أردت أن تعزل الشعر العربي عن أشعار العالم شرقيها، وغربيها، وقديمها، وحديثها، لم يكلفك ذلك أكثر من حذف كلمات تسربت إليه من اللغات الأخرى، وتبديل مصطلحات لا تتعدى ظواهر المعيشة، وقل أن تبلغ إلى بواطن الأفكار والسرائر. أما إذا أردت أن تضع الشعر الإنجليزي بمعزل عن آداب العالم، وأن تخرج ما تسرب إليه من الآداب اليونانية والرومانية والفرنسية والإيطالية وعقائد المسيحية، وما امتزج به من أساطير الشماليين والقلتيين، وخالطه من حياة الإنسانية العامة في مجموعها، فإنك تحاول المستحيل ولن تفلح فيما تحاول، وكذلك لن تفلح إذا حاولت أن تمسح عنه الصبغة الإنجليزية المستقلة، والخصائص التي استفادها من عناصر هذه الأمة، فأنت بين يدي شعر له صبغته القومية التي لا تختلط بصبغة أخرى، وله في الوقت نفسه وشائج إنسانية لا تمحو عنه تلك الصبغة القومية.
ومن الفروق الواضحة بين الشعرين العربي والإنجليزي أن أولهما يدور أكثره على الحس وثانيهما يدور أكثره على العطف والخيال؛ فالشاعر العربي يصف امرأة لها سمات جسدية من الفرع إلى القدم تقاس وتكال، وأما العاشق الإنجليزي فيصف المرأة التي يحبها كأنها روح عاطف له ثوب من الجسد جميل، فإن هو أشار إلى صفة من صفات هذا الثوب فليذكر به معنى من معاني العطف والتوسم يطهر أو يخبث على حسب النفوس والأذواق، كذلك يشبه الشاعر العربي ما يصفه فإذا هو يعني بالصورة المحسوسة دون الصورة الباطنية، ويريك الهلال منجلًا، والقمر درهمًا فضيًّا، والبستان طنافس ونمارق، ولا يحكي لك وقع هذه الأشياء في النفس كما يحكي لك صورتها في الأحداق. ولولا ابن الرومي لخلا الشعر العربي من ملكة التصوير العالية، وتشبيهاته الخيالية الرفيعة، فهو في هذا الباب فريد هذا الشعر إن لم نقل إنه فريد أشعار العالم كله، وهو نعم العوض عن تلك الخسارة التي لا يدركها نقادنا السابقون، ومن حذا حذوهم من نقادنا التابعين.
وقد يدخل في هذا الفرق أيضًا — أي في دوران الشعر العربي على الحس ودوران الشعر الإنجليزي على العطف والخيال — أنك ترى الارتباط قليلًا بين معاني القصيدة العربية، ولا ترى قصيدة إنجليزية تخلو من رابطة تجمع أبياتها على موضوع واحد، أو موضوعات متناسقة، ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت، وكانت وحدته عندهم القصيدة، فالأبيات العربية طفرة بعد طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض؛ وسبب ذلك كما قدمت هو أن الحس لا يربط بين المعاني، وإنما يربط بينها التصور والعاطفة والملكة الشاعرة، فإذا تعود الإنسان أن يتصور وأن يعطف وأن يشعر، تعود أن يدرك المعاني الواسعة والسوانح النفسية التي تتعدد فيها الظلال والجوانب والدرجات، فيأتي بالفكرة لا يستوعبها البيت، ولا يغني فيها الاقتضاب، وإذا هو لم يتعود إلا أن ينقل عن الحواس الظاهرة وقف إدراكه عند المتفرقات، فأغنته طفرة البيت عن تماسك الأبيات.
ومن الفروق بين الشعرين أن الفردية غالبة على شعر العرب، والاجتماعية غالبة على شعر الإنجليز، فالعواطف التي في الشعر العربي هي العواطف البسيطة الساذجة في غير تركيب ولا تنويع، ويندر أن تجد فيه أثرًا للعواطف المنوعة المتشابكة التي تتولد من قدم الحضارة، وألفة التعاون، وتكاليف الاجتماع، وكثرة اختبار النفوس للنفوس في مختلف الأحوال والأطوار، فالشاعر الإنجليزي إذا وصف الحياة الإنسانية وصف حياة ضافية تتسع لمقامات المجتمع، وأشتات دواعيه، وتكاليفه، وآداب طبقاته وأفراده، ودخائل عقائده وثقافاته، مما لا تتسع له حياة القبيلة أو الحياة الحضرية التي ما تزال على أوضاع القبيلة، أما الشاعر العربي فعلاقة الإنسان عنده بالإنسان محدودة وأسرار النفوس عنه محجوبة مسدودة، وسذاجة العواطف خصلة ملازمة له مذ كان التركيب في هذه العواطف لا يأتي إلا من تركيب العلاقات بين الناس في بيئات الحضارة؛ وربما جاء من هنا — ومن بعض الأسباب المتقدمة — ظهور الروايات التمثيلية والقصصية في الأدب الإنجليزي، وامتناعها في الأدب العربي، وربما جاءت منه أيضًا سذاجة المدح العربي التي لا تشبهها سذاجة مروية في الآداب الأوربية؛ فقد لجأ الشعراء في كل أمة إلى الأمراء والسروات، وأخذوا من جاههم ونوالهم، ولكنك لا ترى مدحًا كهذا المدح الفردي المفتوح إلا في الشعر العربي، حيث لا يرضي المادح أميره إلا إذا وصف شخصه وأطنب في وصفه بأحب الصفات إليه، كما يفعل الطفل حين يمدحك، ويمد يده إلى السكرة التي في يدك وهو لا يكتم عنك أنه يقول الكلمة الطيبة؛ ليأخذ على أثرها السكرة الحلوة، فلا لباقة ولا تفنن في الإرضاء والثناء، وإنما هو المديح على أسذج ما تراه في طفولة الفطرة، وقد تتصور هذا حيث تكون العلاقات الفردية هي الغالبة، والمدائح الفردية هي المطلوبة، ولكننا لا نتصوره حين تنشأ للتكاليف المدنية علاقات، ولباقات، وآداب، تترقى بصناعة التنويه والمدح من هذه السذاجة إلى شيء من التفنن والتنويع، فإذا وقفت أنا المادح وأنت الممدوح فردًا أمام فرد فليس لي سبيل إلى غير الثناء على شخصك وتمليق سمعك، وإعلان شكرك، ولكني إذا وقفت أنا شاعر الأمة أمام أمير الأمة، فقد يجزئني في إرضائه وإرضاء الناس عنه أن أعلن فخار الأمة وأجعله هو مناط ذلك الإعلان وعنوان ذلك الفخار، وقد وجد من شعراء القبائل من نحا هذا النحو وطاف على الأمراء والفقراء يستأديهم ثمن ثنائه، وتمجيد آبائه، ولكنها فلتات لا يقاس عليها في جميع الأحوال.
هذه هي الخطوط الكبيرة في رسم الفوارق التي بين روح الشعر العربي وروح الشعر الإنجليزي، وهناك خطوط صغيرة قد تظهر في شاعر شاعر أو عصر عصر، فلا يتيسر تقييدها وحصر أسبابها إلا إذا تيسر تقييد جميع الفوارق الدقيقة بين الأشعار، وهو غير متيسر في هذه الموجزات؛ لأن هذه الفوارق مما يصح أن يلحظ بين شعراء اللغة الواحدة، بل بين قصائد الشعر الواحد في عهدين من عهود العمر، أو حالين من حالات القريحة والشعور.