روسو١
عاش مظلومًا طول حياته، وبقي مظلومًا بعد مماته، وكانت رسالته في هذه الدنيا أن يرفع الظلم عن المظلومين!
لكل عظيم سخرية من سخريات القدر في تاريخه، وكل تاريخ «روسو» سخرية تتبعها سخرية، ومفارقة تتلوها مفارقة، فهو أستاذ التربية الذي ضاع أبناؤه في ملاجئ اللقطاء، وهو أستاذ الاستقلال الذي لم يعش في حياته مستقلًّا عن المعونة، وهو أكبر أبناء زمانه أثرًا في العالم كله وأقلهم نصيبًا من زمانه. عاش مظلومًا ولا يزال مظلومًا، ولبث طوال أيامه يرفع الظلم عن المظلومين!
أكبر أبناء القرن الثامن عشر أثرًا في العالم كله يأكل خبزه مضيفًا في بيوت المحسنين، والرجل الذي زعزع رواسي الأرض تحت أقدام النبلاء كان يصيب طعامه أحيانًا على موائد النبلاء، فإن ضاق به هذا الرزق فهو خادم في قصر، أو معلم دروس موسيقية، أو ناسخ ينسخ نوطة التوقيع بدراهم معدودة، أو مقتات بأعشاب البرية يجمعها بيديه، أو شريد بين البلاد ينفر من كل إنسان، وينفر منه كل إنسان، ولد منبوذًا مهملًا، ومات منبوذًا مهملًا، وبخلت عليه الدنيا بقوت رجل، وجاد هو على الدنيا بدساتير أمم، وغذاء عقول ما له من نفاد.
عاش مظلومًا وكانت الطبيعة التي أحبها وفتح محرابها أول ظالميه، وكان هو أكبر الظالمين لنفسه في حياته الفانية وسيرته الباقية، وإلا فما له ولهذه «الاعترافات» التي سجلها على نفسه وخلد بها وصماته، وأقام بها حجة الناس عليه وما هم بخير منه، ولا هو بأولى منهم بالندم والاعتراف؟ لكأنه تعود ازدراء الناس فأحب أن ينغمس فيه إلى قراره، أو كأنه زهد في احترامهم الباطل فقذف بذلك الاحترام في وجوههم وأبرز لهم أخفى خفياته ليقول لهم: ها أنا «روسو» حقير كما تشاءون، ولكني «روسو» بعد ذاك على كل ما ترونه في من عيوب!
ما أضعفه من قوي وما أقواه من ضعيف! شبهه كارليل بالمصروع الذي ينهض بالقابضين عليه حين تأخذه نوبة الصرع، ولكنه لا يتماسك من الضعف حين تفارقه النوبة، وربما أصاب كارليل في وصفه، ولكنه لا يقدح في شأنه ولا في شأن عمله؛ لأن ضعف هذا المصروع مصيبة عليه لا يشاركه أحد فيها، كما يشاركه جميع الناس في قوته، بل هو الضريبة التي يؤديها وحده ليغنم الناس ثمرتها دونه، فشكرًا له على ذلك الضعف الذي فرضته عليه الطبيعة فملكته القوة وسيرته حيث سار، ولو ملكها لعرف كيف يستفيد منها لنفسه فلم يظفر منها الناس بكل ما ظفروا به غير شاكرين.
والحق أن للجهاد في الحياة بواعث قاسرة لا سلطان للمجاهد عليها، ولا قدرة له على تبديلها، فهو مخلوق للجهاد أكان خيرًا ما يلقاه أم كان ما يلقاه الوبال والجحود، ولو كان الجزاء هو مبعث الجهاد في سبيل من سبل العقيدة لكان روسو أولى الناس أن يكف عنه بما جوزي به في أيامه، ولعله كان أولى بالكف عنه لو اطلع على جزائه بعد مماته، وعرف الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات في محكمة الذكر والإعجاب.
ربما كان القدح في روسو أكثر من الثناء، وربما كان الكلام فيه أكثر من الإعجاب، ولا تنس سوء النية في النقمة عليه، وتسفيه رأيه، وتصغير شأنه، فقد أسخط رجال الدين ورجال الملك، ولم يكن حقيقًا به أن ينتظر الشكر من غير الدهماء المظلومين، ورجال الدين — كما يقول هيني — طوال الألسنة، ورجال الملك طوال الأيدي، ورجال الدهماء طوال الآذان، أو هم لا يسمعون!
فلو كان روسو شرًّا مما كان عقلًا وقلبًا لما عز عليه أن يظفر بأكبر من قسمته في الذكر والثناء، ولما كان بعيدًا أن يقل القادحون فيه ويكثر المادحون له، وأن يزداد الإعجاب به وينقص الحقد عليه، فإن مقياس التقدير الذي تدخل فيه إرادة الناس كثير الاضطراب والتناقض والشذوذ، أو إن شئت فقل: إنه مطرد القياس، ولكن على غير وتيرة نضبطها وندخلها في حساب معلوم، وكيف يزن الناس أعماء العظماء إلا على الجملة أو على وجه التقريب؟ وكيف يزنونهم ولا حاجة بهم إلى وزنهم، وإنما حاجتهم أن يأخذوا ما يعطونه، كما يأخذون ضوء الشمس وأنفاس الهواء؟ فلا الناس مضطرون إلى وزن أعمال العظماء، ولا هم قادرون على تمحيص وزنها إذا اضطروا إليه، وآفة العظمة أنها شيء لا يوزن بالموازين العامة، وأن الناس لا يملكون الموازين العامة، وإن كان القباني أحيانًا من الخواص.
وزد على ذلك الرغبة في الحذلقة وهي أشيع جدًّا من الرغبة في الصدق والإنصاف.
فلا يندر أن ترى بين الناقدين اليوم من يصرف فلسفة روسو كلها بكلمة واحدة، يأخذها على طرف كتاب، فمن هو روسو؟ هو حالم يقول بالرجعة إلى الطبيعة، ويزعم أن كل حكومة في الأرض إنما قامت بعقد بين الحاكمين والمحكومين، وهذه أحلام وتخمينات لا تليق بأبناء الزمن الحديث، فهل روسو الصحيح هو هذا «الروسو» الذي يتخيلون أم أن الحذلقة هي التي خلقته في الأوهام وهي التي قضت عليه ذلك القضاء؟ لا! إن روسو الصحيح يحلم، ولكن بتقويم المجتمع لا بتقويضه، ويقول بفكرة «العقد الاجتماعي» التي قال بها من قبله، ولكنه يهذبها أحسن تهذيب وصلت إليه هذه الفكرة في كل زمان، وهو أعظم في عمله الأدبي وعمله التشريعي من جميع معاصريه واللاحقين به، أعظم من منتسكيو؛ لأنه يستمد الشريعة من حياة الإنسان ومنتسكيو يستمدها من نصوص القوانين، وأعظم من فولتير؛ لأنه مبتكر مخلص وفولتير قليل الابتكار قليل الإخلاص، وأعظم من ديدرو؛ لأنه تجاوز عصره وديدرو لم يبرح مستغرقًا فيه، ولعله لا يضارع بعض هؤلاء في سعة التفكير وملكة السخر، ولكنهم بلا مراء لا يضارعونه في نفاذ البصيرة، وصدق الإلهام، وقد أجمل تقديره الأستاذ كول مقدم مؤلفاته في اللغة الإنجليزية فقال: «لم يكن لكاتب آخر في زمانه مثل ما كان له من الأثر البعيد، فيصح أن يقال: إنه هو أبو الحركة الرومانية في الفن والأدب والحياة، وإنه كان عميق الأثر في المدرسة الألمانية الرومانية وجيتي في مقدمتها، وهو واضع التحليل النفسي الذي فشا بعد ذلك في آداب القرن التاسع عشر، وهو البادئ بنظريات التربية الحديثة، وهو فوق هذا جميعه يمثل الانتقال في عالم السياسة من المذهب العتيق المتأصل في القرون الوسطى إلى فلسفة الحكومة العصرية، وقد كان سلطانه على فلسفة «كانت» الخلقية، وعلى فلسفة الحق في مذهب هيجل جانبين من جوانب مشاركته الأساسية في الفكر الحديث، وهو في الواقع هو الرائد العظيم للمثاليين عند الألمان وعند الإنجليز.»
ولقد يضاف إلى ذلك أنه هو رائد المدرسة الروسية الحديثة في الرواية، وفي الغوص على دخائل النفس الإنسانية، وأنه هو سابق الطبيعيين المصارحين من الشعراء والأدباء الفرنسيين والألمان والإنجليز، فهو سابق شاتوبريان وجين بول ريختر وبيرون، وهو إلى اليوم ظاهر الملامح في الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وفي كل أدب تناولته رسالته في عالم الكتابة وعالم التشريع، وقد تناولت رسالته في هذين العالمين جميع الأقوام.
لم يكن روسو قريب الصلة بالجمهور؛ لأنه كان يكتب في النظريات السياسية من وجهتها الفلسفية التي يعنى بها المفكرون والعلماء، ولا يعنى بتوجيه الخطاب إلى سواد القراء، ولعل هذا الذي أغفل عنه أصحاب السلطان فأمنوا جانبه، ووادعوه وخولوه بعض الحرية في شرح نظرياته مع مداراة قليلة كان يلجأ إليها لإخفاء مقاصده التي يفزع منها المستبدون، ولكن المداراة لم تخف تلك المقاصد عن قرائه، ولم تحل بينه وبين إطلاق نفس الفرد فيما يحسه من علاقته بالحياة وعلاقته بالحكومة، فأطلقت اعترافاته وقصصه حرية الفرد في عالم الفكر والشعور، كما أطلقت مباحثه حرية الفرد في طلب الحقوق ودفع المظالم، وكان له فضل لا يدانيه فضل كاتب ولا خطيب في إنشاء الديمقراطية الحديثة ونقض أساس الحكم القديم.
واليوم يذكره الفرنسيون بانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، والكتاب والمفكرون والساسة يعيدون النظر في الديمقراطية الحديثة ليسألوا: هل تصلح الديمقراطية لحكم الشعوب أم تراها فشلت بعد التجربة، وآذنت بإخلاء المكان لنظام جديد؟ والناقدون قد يجدون للديمقراطية عيوبًا تحتاج إلى إصلاح، فهذا غير غريب ولا منكور في عمل يأتي به الآدميون ولا سيما أعمال السياسة وتدبير الحكومات، ولكنهم يخطئون جد الخطأ إذا هم نقدوا الديمقراطية؛ لأنها لم تحقق للأم مرتبة الكمال المطلق في سياسة الشعوب، فإن الكمال المطلق لا يتاح لنظام ولا يدعيه أحد لما جربناه أو ما سنجربه من الأساليب المنظورة في المستقبل، وحسب الديمقراطية أن تقابَل بالنظم الأخرى فترجحها في طول الزمن، ويثبت للناس أن جيدها خير من جيد الحكومات، وهذا ثابت إلى اليوم؛ أن القائلين بثبوته أضعاف أضعاف القائلين بثبوت سواه.
وما من قلق ينسب إلى الديمقراطية في هذا العصر إلا وهو مردود إلى بقايا الحكومة المطلقة وآثار الاستبداد القديم، فالقلق في إسبانيا علته الحكم المطلق لا الحكومة الديمقراطية؛ لأنها لم تكن قط ديمقراطية في تاريخها القديم والحديث، والقلق في إيطاليا علته كذلك حكم القرون الماضية، وحكم الفاتحين المستبدين لا الحكومة الدستورية التي لا عراقة لها في تلك البلاد، والأمتان العريقتان في حكم الدستور في القارة الأوربية هما الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية، وهما مثلان بارزان على فضل الحكم الدستوري ورجحانه على حكم الاستبداد، ولا خلاف في أمر إنجلترا، ولكنهم قد يختلفون في أمر فرنسا، وهي فيما نرى غير قابلة للخلاف، فقد كانت فرنسا كثيرة الثورات فبطلت فيها الثورات، وكانت عرضة للقحط والمجاعة فها هي الآن غنية تقابل ثورات الحرب وزلزال الأسواق بصدر رحيب، وكانت حروبها لا تنقطع وخصوماتها على حقوق العرش لا تنقضي، فها هي الآن لا حروب على العرش ولا خصوم، وكانت تفقد أملاكها في عهد الحكم المطلق، فها هي في عهد الدستور تضيف أملاكًا إلى أملاك، فحاضرها خير من ماضيها، وحكمها على عهد الدستور خير من حكمهما على عهد أقدر الملوك المطلقين.
وليس من صحة النقد أن نحسب على الديمقراطية بعض القلق في إسبانيا وإيطاليا، ولا نحسب على الحكم المطلق ثورة الشيوعية الجائحة في البلاد الروسية، فلا مراء في أن الحكم المطلق مسئول عن ثورة الشيوعية وعن العيوب التي أثارتها، ولكن ما أكثر المراء في رد أسباب القلق في البلاد الأخرى إلى الحكومة الشعبية! وما أولاها أن تكون من نقص تلك الحكومة وحاجتها إلى التمكين والتكميل.
لم تفشل الديمقراطية في تجاربها، ولم تأت ذكرى روسو بعد موته بمائة وخمسين سنة في أوان لا يناسب مجد ذكراه، ولكن لعل هذه الغاشية العابرة ظلم جديد تعود هذا المظلوم الذي راح يرفع الظلم عن الناس!