فولتير الساخر١
روسو وفولتير اسمان لا يفترقان. كتبت لهما الصحبة في الممات، وفي الأثر، وفي الخلود، وفي التربة، وكانا في الحياة مفترقين يتراشقان بالتهم، ويتلامزان بالألقاب.
ماتا في سنة واحدة وتعاد ذكراهما اليوم معًا بعد انقضاء مائة وخمسين سنة على وفاتهما في سنة ١٧٧٨، ولما نفي نابليون إلى جزيرة إلبا نُبش قبراهما ووُضعت عظامهما معًا في غرارة وألقي بها في الجير المتَّقد على قارعة الطريق، جزاء لهما على نقد رجال الدين، ونقد الملوك المستبدين! ولو شاءت تلك العظام أن تتكلم لما استطاعت أن تنال من رجال الدين وعصابة المستبدين بعض ما ناله هؤلاء من أنفسهم بتلك السخيمة البذيئة، ولو أعوز الحكيمين العظيمين برهان على صواب ما فعلاه في الحياة من تحطيم تلك الأصنام البالية، وتقويض تلك العروش الخاوية لتكفل رفاتهما المحترق بتكميل ذلك البرهان الناقص. إذ أي شيء أولى بالتحطيم والتقويض من آداب أناس لا تصان بينهم عظام الأموات في مقرها الأخير؟
ولد فرنسوا ماري أرويه في باريس سنة ١٦٩٤، ولم يكن اسم فولتير إلا توقيعًا مستعارًا عرف به في عالم الكتابة دون اسمه واسم أبيه، وقد تعلم بمدرسة اليسوعيين فحفظ لها أجمل الذكرى في نفسه إلى آخر أيام حياته، وإن كان فيها قد شحذ السلاح الذي شهره بعد ذاك على الكنيسة والقساوسة والنظم المرعية في زمانه.
وما كان أحد ممن رأوه في طفولته يقدر له التعمير، أو بلوغ سن الرجولة لضآلته وهزاله ورجفانه من فرط العصبية لأقل هياج يعتريه، ولكنه على ضعفه وتوفز أعصابه قد عمر حتى نيف على الثمانين، وكافح شدائد الحياة وهزال البنية بالصبر والوقاية، وحسن التدبير، ولم يستتم نضجه في الكتابة والتفكير إلا بعد أن جاوز الستين!
وقد أراده أبوه على أن يدرس القانون مثله، فتظاهر بإرضائه وهو عاكف على النظم ومطالعة الكتب الأدبية، وجره نظم الشعر إلى السجن وهو في مقتبل شبابه لولعه بالهجاء اللاذع والسخر المؤلم، فمكث فيه إلى أن أفرج عنه الوصي على الملك لويس الخامس عشر، وما بلغ الخامسة والعشرين حتى مثلت له «أوديب» في مسرح «الكوميدي فرانسيز» ثم وظفت له الحكومة ما يساوي مائة وعشرين جنيهًا في العام، وهو مرتب لم يكن بالقليل في تلك الأيام.
وحظي فولتير عند العظماء والنبلاء، وكبرت مكانته بينهم، فرضي عنه من رضي ونقم عليه من نقم، ولم يكن في وسعه أن يرضيهم جميعًا لتنافسهم، وتباغضهم، واستطالته هو بالتنكيت والسخرية على بعضهم في مجالس الآخرين؛ فبينما هو في قصر الدوق دي سلي ذات ليلة إذ استدعاه إلى الباب شرذمة من الطغام بعث بهم الدوق دي روان ليضربوه ويهينوه، فانهالوا عليه ضربًا حتى أشرف على الموت، وراح فولتير بعدها يقيم القيامة على الدوق دي رواه ويستدعيه إلى المبارزة، فقبضت عليه الحكومة، وزجت به في سجن الباستيل، ولم ينطلق منه إلا على شرط أن يختار لنفسه النفي، ويهاجر إلى بلاد الإنجليز.
وقد أجدت عليه هذه الهجرة فتعلم فيها كثيرًا، وظهر أثرها في كتاباته عن النظم الدستورية وحملاته على الحكومة المطلقة، ثم قفل إلى فرنسا فكسب ثروة عظيمة بالمضاربة في أوراق الحكومة المالية، واستفاد من حصافته وذكائه في هذه الشئون، ومن مقدرة فيه على اصطياد الكسب، لم تفارقه طوال حياته، وشغف في هذه الفترة بالمركيزة دي شاتليه، فأخلص لها الحب وكانت هي المرأة الوحيدة التي شغلت باله، وعلقت ذكراها بقلبه، فلما ماتت لم يطق البقاء في فرنسا ولم يكن فيها آمنًا على حريته، فقبل دعوة فردريك الكبير ملك بروسيا، ولبث في ضيافته سنتين حتى سئم أطوار هذا الملك الغريب، وسئم الملك أطواره، وهي مثلها في الغرابة إن لم تكن أغرب، فترك برلين ولاذ بمنزل معتزل على بحيرة جنيف عاش فيه إلى قبيل وفاته.
وعاد إلى باريس قبيل موته بثلاثة أشهر وأيام، فجن جنون المدينة احتفاء به، وتخفى النبلاء في ثياب الخدم ليظفروا بنظرة إليه، وجعل لا يظهر في مسرح إلا تعالى الهتاف بحياته، وغمرته آكام الورود والرياحين، ولا يسير في الطريق إلا ووراء مركبته رتل من مركبات الأصحاب والمعجبين، حتى احتاج إلى الراحة والسكينة، فأوى إلى صومعته على البحيرة، وأدركته الوفاة فضنت عليه الكنيسة بقبر؛ لأنه لم يكن يدين بالشعائر الكاثوليكية، وقديمًا ضنت عليه الأكاديمي بكرسي فيها؛ لأنه لم يكن يدين بتلك الشعائر!
قال كارليل: «أصبحت ملكة الاستهزاء في فولتير أقوى مزاجه، فلم يكن سؤاله الأول في أمر من الأمور عما هو حق فيها بل عما هو باطل، ولم يكن يعنى بما يحب منه، ويوقر ويناط بالقلب، بل بما ينكر ويزدري ويضرب به عرض الحائط في لهو ومجانة، وفي هذا قد أصاب حقًّا أكبر الظفر والغلب، ولكنه لم يدخر من الثروة الصحيحة إلا القليل، أما الإكبار، وهو أعلى ما يتاح لطبيعة الإنسان من الشعور، والتاج الذي تزدان به مروءته، والذهب الثمين في نقده فما كان يلوح عليه أنه عرف منه حتى الساذج في التبر رغامه، أو سمع بخبره في مأثور الأخبار، وكان مجد المعرفة والإيمان غريبًا عنه ولا عهد له بغير التنفيذ والتفسير؛ ومن ثم لم ينفذ ببصره في أعماق الطبيعة، ولم يتجلَ له قط في بعض لمحاته ذلك «الكل» القادر في جماله وغموضه السرمدي، وجلاله الشامل الذي تغيب في أطوائه الأنانية الصغيرة، وكل ما تجلى إنما هو هذا الجزء أو ذاك بين أجزاء «الكل» الشامل، وما قد يكون بين الجزئين من الفروق أو يكون فيهما من العيوب، فنظرته إلى الدنيا نظرة محصورة، وصورة الإنسان في ذهنه صورة صغيرة، فإذا أنت محصتها لم تسفر لك إلا عن هيئة سوقية، ولم تجد فيها إلا مرآة أو مرايا تنعكس فيها «الذات» ومصالح «الذات» الضئيلة، وما كانت الفكرة الإلهية الكامنة في قرار جميع الظواهر أخفى على أحد من خفائها عليه، فإذا قرأ التاريخ فهو لا يقرؤه بعين بصير ملهم، كلا، ولا بعين ناقد نفاذة، وإنما يقرؤه بنظارتين من العداء للكثلكة، وما كان تاريخه رواية رائعة تمثل على مسرح السرمدية الذي تضيئه مصابيح الشموس، وتخلفه ستائر الآباد، والذي يكتبه الله وتفضي بنا شتى مغازيه إلى عرش الجلالة المحجب بالأنوار، كلا! بل هو نادى حوار ممل متعب متعاقب عليه الدهور بين أصحاب الإنسكلبيديا وأصحاب السربون، فليس ما نراه في فولتير عظمة بل هو الحذق البالغ، وليس هو القوة بل النشاط والحركة، وليس هو العمق بل هو السطحية المحدودة.»
ولقد أصاب كارليل في مجمل تقديره، ولكن مع بعض الفلوتيرية التي أخذها هو على فولتير، فهو يحمل المعول الفولتيري في نقد الرجل، وينظر فيه إلى «ما ينكر ويزدرى ويضرب به عرض الحائط، لا إلى الذي يحب منه ويوقر ويناط بالقلب.»
فللرجل عذره في السخر وقلة الإكبار والاحترام؛ لأنه لم يكن يجد فيما يراه إلا النفاق، والخواء، والتداعي في كل جانب ألقى عليه بالنظر، وكذلك كان يفعل معاصره دافيد هيوم ومواطن كارليل، وهو لا ينتمي إلى أمة الإنكار والاستهزاء التي يحب كارليل أن يرد فولتير كله إلى طبيعتها الفرنسية.
على أن فولتير لم يكن بالمنكر البحت؛ لأنه كان ينكر الكنيسة وشعائرها ولا ينكر الله وعقيدته، وقد بنى كنيسة «لله»؛ لأنه كان يقول: إن الكنائس كلها تبنى للقديسين، وهو يعبد السيد ولا يعبد الوصفاء والحجاب!
وليس من المعقول أن يتأصل حب العدل في نفس منكرة نافية كما تأصل في نفس فولتير، فالذي ينفي كل شيء ويستهزئ بكل شيء، لا يعجب للظلم يغشي أحدًا في هذه الدنيا ولا يثور لنصرة المظلوم حتى لينصره بعد موته، أو لمكافحة الظالمين حتى ليغامر في سبيل ذلك بحياته ورغده، ولك أن تسمي هذه الثورة تحديًّا، وغرورًا، وإفراطًا، في القوة الغضبية والكبرياء، ولكنك لن تستطيع الرجوع بها إلى الإنكار البحت، والنفي المطلق، إذ المنكر النافي لا يعرف كيف يحارب في صف دون صف، ولا كيف ينجذب إلى ناحية دون أخرى، والمنكر النافي لا يعنيه أن يتغلب فريق على فريق أو نظام على نظام؛ لأنهم سواء كلهم عنده في الخواء، وقلة الجدوى، واستحقاق الغبن، أو المحاباة، فإذا شغلت الظواهر الخادعة ذهن فولتير عما وراءها فبقوة من الحقيقة الكامنة وراء الظواهر يشتغل ذهنه بتمزيق ذلك الرياء، وتحقير ذلك الاحترام الكاذب، ولن تضن بالاحترام على غير أهله نفس تجهل قيمة الاحترام الصحيح ولا تبالي أن يناله من يستحقه ومن لا يستحقه، وإلا فماذا يهمك أن تقف حياتك كلها على تحقير الحقراء إذا كان الاحترام الصحيح عندك ليس بالشيء الخطير الذي تأباه على أولئك الحقراء؟ وقد يكون فولتير قليل الشعور بمصائب الأرواح، فلا عزاء لها عنده، ولا محل لها في حسابه، وقد يكون زميله روسو أحس بهذه المصائب وأكفل لها بالعزاء، ولكن من أدرانا أنه لو لم يحمل السيف في الميدان لكان أقمن أن يحمل البلسم وخيمة الإسعاف! فطيبة الرجل وسخاؤه بالمال على المعوزين، مع حبه للمال وحرصه عليه، وغيرته على العدل، ووفاؤه للصديق، وتلهبه لنصرة المظلوم، وإيمانه بالله في عصر الجحود صفات لا تكون في غير العاطفة الحية والطبائع النبيلة، وما ينبغي للجندي القادر على الحرب في ميدان الكفاح أن يطالب بخصال الكهان، وأخوات الرحمة الذين يرافقون الجيش لجبر المكسور، ومؤاساة الأرواح، وفولتير كان جنديًّا طول حياته فلا نطالبه بما لا يتفرغ له الجنود، ولو كانوا من ذوي الرحمة، وحسن العزاء.
ولم يكن فولتير واسع الروح ولا عميقها، ولا فيلسوفًا ولا شاعرًا ولا مؤرخًا بين النخبة المختارة من الفلاسفة والشعراء والمؤرخين — هذا حق كما يقول كارليل — أو أقرب منه إلى الحق أن نقول: إنه كان يعاب في الفلسفة والشعر والتاريخ، حيث يحتاج الأمر إلى سعة الروح وعمق الإدراك، ولكنه بعد فيلسوف وشاعر ومؤرخ في كل ما يتوفر لهؤلاء من جلاء النظرة، وسداد الفطنة، وحصافة اللب، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة، وهذه ملكات لا يستغني عنها الفلاسفة والشعراء والمؤرخون، ولا يكون الذي تتوفر له صاحب نصيب قليل في هذه الأبواب.
كان فولتير فياضًا كالعباب الزاخر، لا ينفد ولا يخذله القلم في مقام، أسلوبه أسلوب الوضوح والسهولة والترسل بلا كلفة ولا تمحل كثير، وذهنه يتساوى سخاؤه في البحوث وسخاؤه في كتابة الرسائل للأصدقاء والمعارف والسائلين والمستفسرين، فله الآن عشرة آلاف رسالة محفوظة غير ما ضاع بينه وبين مراسليه؛ وكلها بأسلوب واحد في الوضوح والقدوة والفصاحة والسلامة من نقائص التركيب، وكلها تكاد تضارع مؤلفاته المحتفل بها في صفاء العبارة، وحسن الأداء، أما هذه المؤلفات فكثيرة منها في الفلسفة معجم الفلسفة ومحاورات لا تحصى، وفي التاريخ عصر لويس الرابع وشارل الثاني عشر، وفي الروايات زيروميزوب ومحمد وتانكرد وروما الناجية، وفي القصص صديق وقنديد، وهذه الأخيرة خير ما كتب في تقدير نقاد الفن والحكمة، حتى لقدا قالوا: إنها تغنيه عن جميع تصانيفه لو قضي عليها بالفناء.
وبعد فما الكتابة عن فولتير في هذه العجالة؟ هي تحية ليس إلا في هذه الذكرى التي يجددون بها عمله اليوم، وإلا فقد كان فولتير دولة أدبية لا تماثلها دولة أديب، وكان أوسع نطاقًا من أن تحصره مقالة أو سفر كبير.