سير العظماء١
أطلعني كاتب زميل على كراسات مطبوعة من سير فلوطرخس التي ينقلها إلى العربية؛ لأكتب لها مقدمتها، وليس أحب إلي من ظهور هذه السير باللغة العربية؛ لأنها معرض واسع للعظمة في نواحيها المختلفة من حرب، وخطابة، وسياسة، وفلسفة، كما أدركها رجل واسع الإدراك حصيف الذهن نقادة مميز بين اللباب والقشور والحقائق والأباطيل. كشف النقاب بنافذ بصره عن أوهام كثيرة طالما انخدع بها أبناء عصره، ويخيل إليك وأنت تقرأ تراجمه للعظماء أن الترجمة خرجت مكتوبة وحدها لفرط بساطتها، وانساجمها وموافقتها لمجرى الأمور الطبيعية وملابستها للعظيم الذي تمثله وتكسوه بغير فضول ولا تَعَمُّل، ومشابهتها للخلائق الحية التي تحيا لنفسها، وتسير على قدميها، وتتماسك أعضاؤها وأنت لا تدري كيف كان مساكها، ولكنك إذا أقبلت تدرس المقدرة التي أتاحت لفلوطرخس أن «يعاطف» العظمة في كل نوع من أنواعها هذه المعاطفة السهلة البديهية التي توهمك أن الرجل يتكلم عن أبنائه أو معارفه وأهل جيرته بعلم أصيل، واسترسال لا أثر للكلفة فيه تبين لك أنه عظيمٌ، خلق لفهم العظماء ودرسهم كأنه لا يدرسهم، والحكاية عنهم كأنه يحكي عن حوادث كل يوم، أو عن أبناء الأغمار التي لا غرابة فيها، ونقص كبير في المنقولات العربية أن تظل محرومة من سير فلوطرخس وهي تغص بالمترجمات من أبطال القصص الفارغة التي لا فائدة فيها، ولا هي تداني تلك السير في المتعة والإيحاء، واستجاشة العواطف والأفكار.
أطلعني الكاتب الزميل على تلك الكراسات وأنا أتبع سير فلوطرخس حديث ظهرت مؤلفاته وانتشرت بعد الحرب العظمى، وإن كانت له سمعة سابقة في وطنه بترجمة النوابغ والأبطال، وهذا اﻟ «فلوطرخس» الحديث هو «إميل لدفج» الألماني الإسرائيلي مترجم المسيح، وجيتي، وبسمارك، وولهلم الثاني، ونابليون، وكاتب عشرات من التراجم الصغيرة الموجزة التي لم ينقل منها إلى اللغات الأخرى إلا القليل، و«إميل لدفج» هذا حقيق بأن يعد في طليعة المختصين بالترجمة للأبطال والعظماء بسهولة تداني سهولة فلوطرخس، وبساطة تماثل بساطة الأساتذة الأقدمين، لم يفسدها تعمد التحليل، واعتساف «النظريات»، وكانت دراسته الأولى للقانون ثم تحول عنه إلى الرواية التمثيلية، ودون سيرة بسمارك في هذا القالب، فنبهته هذه المزاولة إلى استعداده الفطري، وملكة التخصص فيه، فعدل إلى كتابة «السير»، وجرى فيها على نمط شائق يعنى فيه بالحياة الداخلية أشد من عنايته بالوقائع الخارجية، ويفرغ به شيئًا من الجدة على السير التي ألفها القارئ، ومسحة من الإنسانية المألوفة على كل عظمة، يرفعها التطويب والتقديس إلى مراتب الغرابة المنقطعة والإعجاز المعزول.
يقول «لدفج» في الفصل الأخير من كتابه على نابليون: «إن كتابة تاريخ إنسان وكتابة تاريخ حقبة من الزمن عملان منفصلان يختلفان في الاسم وفي الصنعة، وقد فشلت كل محاولة أريد بها التوفيق بينهما، وأنكر فلوطرخس إحدى الطريقتين، وأنكر كارليل الأخرى، ولهذا أفلح كلا الأستاذين في إنجاز عمله، ومن الإنصاف أن نقول: إن مثال فلوطرخس لم ينسج على منواله ناسج، فلا أحد بعد قد صرف همه إلى كتابة تواريخ العقول الكبيرة على أساس تاريخي بغير تصرف.»
ثم يقول لدفج: «إذا أردنا أن نصور حياة حافلة كحياة هذا الرجل لم يكن لنا بد من أن نصبغها بألوانه، فلا غنى للكاتب عن الرجوع إلى كلام صاحب الترجمة، ولا خوف من الإفراط في هذا الصدد مهما أفرط، إذ الواقع أن كل إنسان أقدر على شرح نفسه من أي إنسان غيره، فهو وإن خطأ أو كذب يكشف عن ذات نفسه للذين يخلفونه، ويعرفون الحق من أمره، على أن الكاتب أيضًا ينبغي أن ينسى أنه يعرف الخاتمة؛ لأنه لا يسعه بغير الانتقال من لحظة إلى لحظة ووصف الإحساسات المرهونة بأوقاتها كما يحسها من لم يسبقها إلى النهاية المحجوبة، أن يحدث ذلك الشوق الذي يملأ ملاحقة الحوادث بالخوالج الحية.»
هذا هو مذهب لدفج في كتابة الترجمة، فهو لا يفصل بين الأبواب والعهود، ولا يعير الحوادث الضخمة عنوانًا أكبر من عناوين الأخبار الدارجة والكلمات التي تقذفها المناسبة في عرض الكلام، ولكنه يمزج بين حوادث اليوم الواحد أتم المزج إذا كانت كلها ترجع إلى العوامل التي خلقها ذلك اليوم في سريرة البطل المترجم، منظورًا فيها إلى أيامه المتتابعة وظروفه الحاضرة، فربما عرض لك الكارثة الحربية إلى جنب النكتة المرتجلة، وجمع بين الاثنين وبين وسواس العاشق وحنان الأب وضعف الطبيعة الآدمية، فتحس وأنت تقرأ هذا جميعه أنه وليد حالة نفسية واحدة حقًّا، وأن الأثر الكبير كالأثر الصغير في مرجعه إلى تلك الحالة النفسية، وعن هذا الأسلوب يقول لدفج: «إنه من السهولة بمكان لكل كاتب عرف أن جدود الإنسانية كبيرها وصغيرها مقدرة على السواء، فعرف من ثم أن الله هو المؤلف الأكبر لرواية الإنسان.» ولكن الحقيقة أن الأسلوب الذي اختاره لدفج وبرز فيه هو أصعب أساليب التراجم؛ لأنه بمثابة خلق رجل تصدر عنه أعماله وأقواله عفو البديهة، وفاقًا للأخبار التي رويت عنه والظروف التي أحاطت به، وأسهل جدًّا من هذا أن يؤرخ الكاتب الحوادث بعناوينها ولا يضعها في موضعها من نفس صاحبها، أو يقرنها هناك إلى بواعثها وهو يتجاهل الخواتم التي يعلمها ليحس كل حادثة في حينها، كما أحسها العائشون معها، فليس كل كاتب تهيأت له المعلومات من تاريخ نابليون أو جيتي أو المسيح أو ولهلم الثاني بقادر على أن يصنع كما صنع لدفج، وينشئ نفسًا يعيدها في الحياة يومًا فيومًا بغير غفلة عن الماضي ولا تعجل للمستقبل، حتى ليبلغ من ارتباط الأمور بمجراها المألوف أن ينسى القارئ كل غرابة ويذهل عن مواضع الامتياز في طبائع أولئك الأفذاذ الممتازين؛ لأن كل شيء في مكانه وكل خبر في سياقه المعهود، فلا محل للدهشة ولا مثار للإعجاب والاستغراب، وتلك مزية بُولغ في استيفائها حتى انقلبت إلى هفوة يلام عليها بعض اللوم، فقد أرضى الكاتب حاسة «التوقع» في كل صغيرة حتى أخلف التوقع في جملة الصغائر والكبائر، فإذا قرأت نابليون مثلًا وأنت تتوقع أن ترى فيه «شيئًا خارقًا للعادة» كدت أن تنتهي منه جزءًا جزءًا وأنت لا ترى شيئًا خارقًا للعادة في نابليون بحذافيره؛ لأن أجزاء نابليون قد تناسقت لديك كما تتوقع بغير خلاف، ولهذا كنا نفضل ألا يستطرد المؤرخ الكبير في أسلوبه بتلك السهولة وذلك الانسجام، وأن يعمد إلى التركيز من حين إلى حين ليستوقف السياق المألوف، ويطلع قراءه على مواضع الغرابة والتقديس في البطل الممتاز، كما أطلعهم على شئونه التي تجري في الحياة مجرى العادة والعرف المشاع.
ولا يظن القارئ أن «لدفج» أهمل تعليل العظائم في تراجم عظمائه، أو خفيت عليه معجزاتهم، وغابت عنه العناصر الإلهية في خلائقهم الآدمية. كلا! إن لدفج لم يهمل علة ولم تخف عليه معجزة، ولا سها عن عنصر من عناصر القدرة الخارقة في تلك الخلائق المعهودة ولكنه صب معادنهم صبًّا في قالبها الجامع حتى تاهت العظائم في الزحام، واحتاجت في ذلك الحشد الزاخر إلى تنويه وإعلام، وحتى خيف على العظمة من فرط التسهيل والتبسيط أن يجترئ على هيبتها كل مجترئ ويستباح ذمارها لكل طامع.
وهنا نسأل: أيهما أفضل في تاريخ الأبطال، أن نسلك في تصويرهم سبيل التطويب والتقديس والتوجه إلى الغريب والمعجزات، أو سبيل التبسيط والتسهيل والتوجه إلى المألوف المشاع المطمع في التحدي والمحاكاة؟
والواجب أن نعلم: لم نكتب ترجمة العظماء قبل أن نتفق على الأسلوب لترجمة العظماء؛ فنحن نكتب هذه التراجم لإرضاء الشغف النفسي بالوقوف على كل سر، والإحاطة بخفايا الوجود، ولا سيما خفايا النفس الإنسانية التي هي قبلة الإنسان، وغاية ما يشغله ويستجيش عطفه وتفكيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نكتب تراجم العظماء لإنصافهم وتقديرهم وإعطائهم حقهم من جزاء التبجيل والإعجاب، ثم نكتبها من جهة غير هذه وتلك؛ لنستحث المقتدين بهم على ترسم خطواتهم والتطلع إلى مراتبهم؛ وفي كل غرض من هذه الأغراض لا ينفعنا أن ننفي عنصر الغرابة والتقديس من تراجم العظماء، أو ندمجه في سياق العرف المألوف، إذ العرف المألوف لا يستفز القدوة، ولا ينصف العظمة، ولا يبعث الشوق إلى المعرفة، فإبراز جوانب الغرابة والتنويه بها هو الأساس في تراجم الأفذاذ الذين ما كانوا أفذاذًا إلا لأنهم غرباء يختلفون عن سواد الناس، فإذا دعانا الحق إلى الأمانة والتدقيق في تصوير حياة العظيم، ورد عناصرها إلى أسبابها المعقولة بحيث لا تبدو عليها مناقضة للحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفع ذلك بما يوازن هذه الأسباب المعقولة والحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفعه بما يظهر للناس أن تلك الأسباب لا تكون معقولة ولا طبيعية إلا مع نابليون مثلًا، أو جيتي، أو ولهلم الثاني، أو المسيح، فمعقول وموافق للطبيعة وغير عجيب ولا مدهش أن يعمل هؤلاء ما عملوا ويحدثوا في تاريخ الإنسان ما أحدثوا، ولكن لماذا كان ذلك معقولًا منهم وموافقًا للطبيعة منهم وغير عجيب ولا مدهش منهم وإن كان فيه العجب كل العجب، والدهشة كل الدهشة من الآخرين؟ ذلك لأنهم غرباء عن المألوف، لا لأنهم مألوفون يدخلون مع سواد الناس في نسق واحد، وهذا الذي يجب أن يبين، وهذا هو الغرض من ترجمة العظيم، سواء كان ذلك الغرض إرضاء الشوق النفسي، أو إرضاء العظيم، أو حفز الهمم الطامحة إلى الاقتداء.
وقد يكون هناك محال لسؤال آخر وهو: هل الأفضل تاريخ العظيم في نفسه، أو في ظروفه الخارجية؟ ولكننا نعتقد أن الرأي في هذا مجمع عليه، أو ينبغي أن يكون مجمعًا عليه؛ لأن الظروف الخارجية لن تعنينا في شيء إن لم يكن وراءها كشف عن حقيقة نفسية في حياة المترجم له. نعم إن الحربيين — مثلًا — يدرسون وقائع نابليون ويرتبون عليها ما يرتبون في علم التعبئة وقيادة الجيوش، ولكنهم يدرسونها علمًا مستقلًّا عن كل إنسان، كعلم الرياضة الذي تتساوى حقائقه في جميع الأزمنة وبين جميع الأفراد، أما إذا التفتوا إلى إحصائها ودرسها لأنها جزء من نفس نابليون، فهنالك تكون الحقيقة النفسية هي المقدمة في التصوير، وتكون الوقائع الخارجية هي الوسيلة إلى ذلك الغرض الأصيل.