كتاب مصري بالإنجليزية١
للشرقيين ملكة في تعلم اللغات لا يضارعهم فيها الغربيون، وحسبك أن تصغي إلى فرنسي يتكلم الإنجليزية، أو إنجليزي يتكلم الفرنسية، أو ألماني يتكلم هذه أو تلك، لتعلم أن القوم لا يعرف أحدهم من لغة غيره إلا هيكلها العظمي، وتعريفاتها النحوية والصرفية وألفاظها كما ينطقها هو بلسانه لا كما ينطقها أبناء اللغة التي يتكلمها، ثم إنك لتصغي إلى شرقي ينطق بإحدى هذه اللغات فيلتبس عليك الأمر، ويخيل إليك أن تصغي إلى واحد من أبناء تلك اللغة في نبرة الصوت، ولهجة الأداء، وأسلوب الحديث، إلا شيئًا من الفوارق الطبيعية تلحظه في بعض الأحيان ولا حيلة فيه للتعليم والتلقين.
وقد يخطئ الشرقي الجاهل إتقان اللغة نحوًا وصرفًا وأسلوبًا، كما يتقنها الشرقي المتعلم، ولكنه يحفظ من كلماتها وتعبيراتها ما يلتقطه لأول سماع فيفهم ويفهم بعدة لغات لم يذهب إلى بلادها، ولم تتعد ممارسته لها أن يستمع إلى السائحين الذين يحضرون في بعض فصول السنة إلى هذه البلاد. وبين تراجمة الأهرام، والأقصر، وأسوان، من تعلم على هذه الطريقة ثلاث لغات أو أربعًا بغير مشقة وفي زمن وجيز فحذقها كأحسن ما يمكن أن تحذق اللغات على هذا الأسلوب، وربما كان من أسباب هذه البراعة اللغوية عند الشرقيين أنهم قديمو العهد بالعلاقات الأجنبية منذ ألوف السنين في إبان صولتهم الغابرة ومجدهم التليد، فقد كان في هذا الشرق القريب أمم شتى يرحل بعضهم إلى ديار بعض، ويرحلون جميعًا إلى ديار الغرب يوم كان الغربيون في عزلة الجهل والبداوة، يكاد أحدهم لا يتخطى أرض وطنه أو يخاطب غير أهله، وكانت علاقات السياحة والتجارة والاستعمار أقدم في الأمم الشرقية وأطول أمدًا من علاقات الغربيين في الزمن الأخير، وبين الأسباب التي تعلل بها ملكة اللغات عند الشرقيين أنهم أسرع عطفًا، وأقرب مودة وامتزاجًا، في عهديهم القديم والحديث، ولا يخفى أن التفاهم إنما يسري في النفي مع سريان العطف والمودة، وأن الطفل الصغير إنما يتعلم محصوله في اللغة ممن يأنس بهم ويحب الاستماع إليهم، وكلما عظم الأنس وارتفعت الوحشة، كان حظه من التعلم أوفى ورغبته فيه أصح وأكمل، ولولا ذلك لحال النفور بينه وبين الإتقان وسهولة الفهم والإفهام.
على أننا نلاحظ غير هذا وذاك أن للألفاظ عند الشرقيين شيئًا أكبر من شأنها عند الغربيين، وأن حروفنا أكثر من حروفهم، وألسنتنا أقدر على النطق بمخارج الحروف الصعبة من ألسنتهم، فالحاء والخاء والضاد والعين والغين والقاف من أصعب الحروف على الغربيين، ولكنها حروف دارجة في لغات الشرق القريب يلفظها الطفل الذي اكتملت أداة نطقه بغير عناء، ولا يفلح الغربي في النطق بها إلا بعد العناء الطويل، ولسنا نقول: إن الفرق هنا بيننا وبين الغربيين تفاوت في الطبيعة واستعداد الفطرة، ولكنه على الأقل فرق قديم في العادة والمرانة يقرب من التفاوت المطبوع.
•••
نكتب هذا وبين أيدينا كتاب حديث ألفه مصري باللغة الإنجليزية، فأجاد فيه العبارة وأوفى على غاية من الحذق في اللغة قل أن يتجاوزها جمهرة الأدباء الإنجليز في هذا الزمان، فأما الكتاب فعنوانه: «سرنديب أرض السحر الخالد»، وأما المؤلف فهو الأستاذ علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية بالقصر الملكي، ولم نقرأ هذا الكتاب كله، ولعلنا لا نأتي عليه يومًا، ولكننا نقول: إن الشذرات التي ألممنا بها هنا وهناك، ألمستنا مكان السحر في نفس المؤلف واقتربت بنا من السحر في أرض سرنديب، ودلتنا على نصيب صاحبنا من اللغة التي اختارها لتأليف كتابه.
يقولون: إن الوطن أرض وسماء وهواء، ويقول آخرون إن الوطن تراث قديم ووشائج روحية تنغرس في الطباع، ويتوارثها الأبناء عن الآباء، وقد حل لنا الأستاذ طلبة عقدة هذا الخلاف بحبه لمصر وحبه لسرنديب، ورأيه في موطن البلاد وموطن الأواصر الروحية والتراث القديم، فما جزيرة سرنديب وما سحرها الخالد أو الزائل في رأي الألوف والملايين الذين يعيشون على أرجاء الأرض تحت هذه السماء! أقول لك الحق: إن الكثيرين ليستكثرون على الجزيرة كتابًا كبيرًا كالكتاب الذي أفرغه المؤلف لها ولنوادره في بلادها، وإنهم قلما يفقدونها على «الخريطة» إذا هي زالت من مكانها عليها! ولكن سل المؤلف ما هي سرنديب وما سحر سرنديب؟! تسمع منه ما يوحي إليك أن سرنديب هذه بقعة مقصودة بتدبير وعناية في رسم بناء الكون لا تتم الكرة الأرضية بغيرها، ولا تنوب عنها بقعة بين الأرض والسماء إذا هي احتجبت من مكانها، ولم ذاك؟! لأنه ولد فيها فكان لها ذلك السحر وتلك القداسة، ورجحت على سائر بلدان العالمين، وهكذا تنشأ قداسات الأوطان، والأديان، والمبادئ، والعواطف، في طبائعنا نحن الذين نحسب هذه الطبائع أصدق حكم على هذا الوجود.
•••
ولسنا نوغل بك أيها القارئ في أنحاء الجزيرة، ولا في مناظر فتنتها التي وصفها المؤلف وأضفى عليها من إعجابه وافتتانه ما استطاع، فتلك المناظر كثيرة يحسن بالقارئ أن يرجع إليها في مواضعها، وأن يعتمد فيها على المؤلف الذي وصفها وصفًا دقيقًا يعوض عليك ما ينقصها من سليقة الشعر وبهجة الخيال، ولكنني أحببت أن أقف عند حكاية كانت بين أول ما قرأت في الكتاب ولفتتني إليها أنها قد تروى عن بعض بلاد الشرق الأخرى، كما تروى عن جزيرة سرنديب. قال المؤلف: «أوصيت بصنع عصوين من الأبنوس الجميل عليهما مقبض من العاج في شكل رأس فيل، وفي صباح اليوم الذي تسلمتهما فيه فحصتهما فحصًا جيدًا؛ لأن المثل يقول: «من لدغ مرة خاف مرتين»، وقد زادتني قصة الحرير الصيني حذرًا، فما كان دهشتي وغضبي حين وجدت في كلتا العصوين خدوشًا تخفى في إحداهما ولا تظهر، إلا بعد إنعام النظر، وقيل لي: إنها مما لا بُدَّ منه في الأبنوس كله، أما الأخرى، فقد كان عيبها ظاهرًا مكشوفًا بحيث لا تصلح للإهداء، فذهبت مع صديق لي إلى الدكان لننظر في أمر العصوين، وأفاض القوم هناك في إبداء الأسف والاعتذار، وقبلوا عن طيب خاطر أن يبدلونا بالعصا المعيبة عصا سليمة، ثم لم ألبث أن بلغ مني الاشمئزاز والسخط حينما أخبرني صديقي أنه ذهب بعد ذلك إلى الدكان ليستعجلهم لقرب سفري — وكنت يومئذ في كاندي — فسمع أحد الدكانية يخبر صاحبه أنه لا يظن إبدال العصا في الإمكان، وإنما يمكن أن تُملأ الخدوش منها بالعجين وتُداوى بحيث تبدو كأنها عصا جديدة. ونبهني صديقي إلى ذلك لأكون على حذر حين تسلمها، فصح ما أنذرني به واجترأ القوم فعلًا على إرسال العصا الأولى بعينها مطلية بطلاء يخفى على غير الحريص. ولكن «محمدًا» الذي كنت أخبرته بالقصة كشف الحيلة وأراها للرجل الذي جاء بالعصا قبل تسليمها إلي.»
هذه قصة لا أظن سائحًا في بلد شرقي إلا وقد حدث له من أمثالها ما يدعوه إلى الأسف والاحتراس، ولست أقول: إن السائحين في الغرب لا يصادفون مثل هذه الخدع الوضيعة والصغائر المضجرة، ولكنني أردت أن أقول: إن الخداع في الغرب إنما يكون من شأن المحتالين الذين تجردوا للاحتيال، وليس من شأن أصحاب المتاجر المؤسسة والأعمال الدائمة، كما يحدث عندنا في بعض البلاد الشرقية، وقد وقعت لي قصة في بيروت كهذه في دكان مشهور يبيع المنسوجات الوطنية، وسمعت قصصًا شتى يرويها السائحون من هذا القبيل، ولو شاء ذو غرض لعد ذلك الاحتيال عيبًا أصيلًا في أخلاق الشرقيين تنزهت عنه الأخلاق الغربية أو اقتصر بين الغربيين على فريق قليل دون الفريق الأغلب المشهور، والحقيقة أن العيب هو قصر نظر في العقول يزول بزوال أسبابه، وليس بعيب في الطبائع والأخلاق يمتنع على العلاج والإصلاح، ومنشؤه فيما أرى أن الغربيين قد تعودوا أعمال «التعاون» قبلنا فتعودوا الثقة التي لن يتم التعاون بغيرها، وأن سهولة العيش في الشرق قد أقنعتنا بالجهود الفردية فرضينا بالفرص الطارئة والمكاسب الموقوتة، ولم ننظر إلى الدوام والاستمرار، ولو كان العيش في الغرب سهلًا يقوم به كل إنسان على حدة كما هي حالة الشرق منذ آلاف السنين لما اضطر الغربيون إلى الاشتراك في العمل ولا دفعوا إلى آدابه وسياسات نجاحه، وفي مقدمتها سياسة الصدق والأمانة، فإذا أحسنا التعاون غدًا كما يحسنه الغربيون، فذلك صلاح في عالم الأخلاق يضاف إلى ما فيه من صلاح في عالم الاقتصاد.
•••
وبعد فهل أصاب المؤلف في إظهار كتابه باللغة الإنجليزية، أو كان الأجدر به أن يبدأ بإظهاره في اللغة العربية! إن بعض الكاتبين في الصحف الإنجليزية التي نوهت بالكتاب يعطينا ما يشبه الجواب عن هذا السؤال فيقول: «يرى المؤلف المصري أن وضع الكتب باللغة العربية عمل غير مُجْدٍ من وجهة المال؛ لأن الجمهور الذي يشتري كتب الأدب القيمة في مصر محدود، وأصدقاء المؤلف ينتظرون منه الهدايا فلا أمل له في الفائدة، وكثيرًا ما يصاب بالخسارة، فلا بدع إذن أن نرى بعض أصحاب الهمة العملية يؤثرون الكتابة بلغة أجنبية، وأن شاعرين مصريين أحدهما أمير، والآخر ابن وزير سابق، قد نشرا في اللغة الفرنسية كتبًا أطنب النقاد الفرنسيون في الثناء عليها، وقد طبع حسنين بك الرحالة المصري كتابه الممتع عن الواحة المفقودة باللغة الإنجليزية الجيدة، ونشرته مكتبة بترورث قبل أن تنشر طبعته العربية، وظهر في هذا الأسبوع على يد مكتبة هتشنسون كتاب عنوانه «سرنديب أرض السحر الخالد» لمؤلفه علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية في القصر الملكي الذي ولد في سرنديب، وتعلم في مدرسة كنجزود بمدينة كاندي، وكان والده أحد المنفيين إليها بعد الثورة العرابية.»
وكل ما ذكرته الصحيفة الإنجليزية حق لا ريب فيه، فإن الكتاب الذي يروج في لغة أوربية يجدي على صاحبه ما ليست تجديه حياة طويلة تنقضي بيننا في التأليف والترجمة، وقد ينقل إلى لغات غيرها فيكبر حظه من الربح والسمعة، ويغريه الإقبال بالمثابرة والمزيد، وشيء آخر يحبب إلى المؤلف الكتابة في اللغات الأوربية غير ما تقدم، وهو حركة العطف وتبادل الفكر والإحساس التي يشعر بها من يلقي في عالم الأدب هناك بكتاب يودعه ما يودع من ذات نفسه وفكره، فليس سرور التأليف والإفضاء بما في القلب والعقل إلا هذا السرور الذي يوسع نطاق الحياة ويطرد عنها وخامة الركود الآسن والسكون الوبيء، ولا يلزم أن يكون العطف الذي يثيره الكتاب حبًّا وتمجيدًا، بل يكفي أن يكون حركة واهتمامًا وتجاوبًا في الإحساس والنظر ولو على المتناقضة والعداء، وهذا هو الأثر الذي لم يكتب لشرقي في أرضنا، ولا يطمع فيه شرقي في هذه الأيام، فمن تحدث بيننا بلسان الطباعة فليكن كذلك الذي يطلق لسانه ثم يغمض عينيه ويوصد أذنيه؛ لكيلا يعلم أن القوم حوله يعرضون عنه أو يصغون إليه، ويصمتون ليستمعوه أو يتشاغلون عنه باللغط والهراء! وليصبر على هذا الحديث صبر المجانين المبتلين بداء التحدث والهذيان.
لماذا يكتب المؤلف ويطبع ما يكتب؟ للإفضاء بما في نفسه أو للكسب أو للشهرة؟ فإذا علمنا بعد هذا أن الذي يفضي بذات نفسه يفضي بها إلى من لا يجاوبه ولا يردد صداه، وأن الرغبة في المطالعة بيننا لم تبلغ إلى الآن أن تكفي كاتبًا واحدًا مؤنة الرزق، أو تغنيه عن مزاولة عمل يكفل له مطالب الحياة، وأن شهرة الكاتب الشرقي لا تتعدى عشرة آلاف قارئ على أكبر تقدير يقابلهم ألوف الألوف من قراء الكتاب الغربيين، إذا علمنا هذا فقد علمنا أنه ما من شيء يحبب إلى المؤلف أن يكتب في اللغة العربية، إذا ضمن الرواج في غيرها إلا غيرة الوطن، وغرام التضحية، وأمل في المستقبل يطول عليه الزمان، وتمطله الحوادث والصروف.
هذه حقيقة قد تتعزى عنها بحقيقة أخرى نذكرها عن عالم التأليف بين أصحابنا الغربيين، وتلك هي أن المؤلف هناك لا يضمن الرواج حتى يقبل عليه الناشرون، ولا يقبل عليه الناشرون حتى يكتب في الأغراض التي يهواها سواد القراء، ولا يهوى سواد القراء إلا ما سخف أو امتزج بالسخافة من نفايات اللهو، ومزجيات البطالة والفراغ، فإذا اعتمد المؤلف على نفسه في النشر ولم يلجأ إلى البيوت المشهورة بطبع الكتب الرائجة، فذلك أسوأ إعلان يتشفع به إلى القراء! لأنهم يقولون حينئذ لمن يعرض عليهم كتابه إن وصل إلى أيدي العارضين: لو كان الكتاب جديرًا بالقراءة لوجد من ينشره ويتصدى لبيعه، أما وهو كما نرى باد عليه دلائل الرفض والإعراض، فهو غير حقيق منا بالقبول!
حقيقة بحقيقة! فأيهما أسوغ في النفس وأطيب في المذاق.
شتان هذه وتلك على كل حال: فإحداهما حركة خاطئة، والأخرى ركود عقيم، وشتان ركود الجماد وحركة الحياة.