رديارد كبلنج١
الشاعر كبلنج الذي ينزل مصر هذا الأسبوع، هو شاعر رحالة تفرقت حياته التي قاربت الرابعة والستين بين بلدان كثيرة، فليست هذه أولى رحلاته، ولا أطولها في مشارق الأرض ومغاربها. نشأ في الهند وساح في اليابان، وأمريكا، وأفريقيا الجنوبية، وأستراليا، وكاد أن يلم بكل طرف من أطراف الدولة البريطانية، فكان شاعر هذه الدولة بحق الطواف والمشاهدة، كما كان شاعرها بحق التنويه والإشادة، وهو في هذا العصر أشهر شعرائها وأكثرهم تداولًا بين جميع طبقاتها، لا يجاريه في ذلك أحد ممن عاصرهم وعاصروه، وتقدمهم بالفضل أو تقدموه، وهو يستحق هذه الشهرة؛ لأنه أولى بهذا الضرب من الشهرة لا لأنه أشعر من أنجبت بلاده في زمانه وأعلاهم قدرًا في مراتب العبقرية، وإنما استحقها لأنه شاعر كل يوم وشاعر كل إنسان، أو شاعر المعاني التي يألفها الجمهور في روحاته وغدواته، ويستطيع أن يألفها إذا هي عرضت له بغير سابق ألفة، فرديارد كبلنج هو كل إنجليزي في القسط المشترك بين جميع الإنجليز، وإن شئت فقل: إنه هو الإنجليزي الذي وقعت عليه القرعة؛ ليؤدي عن الجميع واجب الغناء والهتاف، فهو أحرى أن يكون صاحب وظيفة في الدولة، لا صاحب عبقرية شعرية معزول عن هذه الوظيفة. على أن عبقريته الخاصة لا تنكر؛ لأنها تلك العبقرية التي شاع بفضلها الشعر بين طبقات ما كانت تقرؤه ولا تلتفت إليه.
والسياحة هي ثروة الشاعر الكبرى، وينبوعه الذي استقى منه ما قد يستقيه غيره من الكتب والدراسة؛ فليس كبلنج بالرجل الواسع الاطلاع، ولا بالطويل الإقامة في المدارس والجامعات، وليس هو بالمتعمق في شيء من الأشياء، ولا بالذي تستحب قراءته في الشيء الوحيد الذي يميل فيه إلى إظهار المعرفة والبراعة، وهو وصف الآلات الصناعية وما إليها من أدوات الطيران والبخار، ولكنه يرتقي إلى قمته العليا حيث يصف المناظر، ويتحدث عن الهند ويتكلم مع الأطفال، ولك أن تتخيل رجلًا طوَّافة جوَّالة خبيرًا بالدنيا وبالناس، قد جمع نوادر السياحة وطرف الأحاديث، وجلس في بعض الزيارات إلى الكبار والصغار في حجرة الاستقبال فأقبلوا عليه يستمعون له ويستطلعون أخباره، والتف به الأطفال يريدون أن يأخذوا من أقاصيصه وألاعيبه بنصيب، فمن نادرة إلى طرفة إلى خرافة إلى وصف جميل إلى غير ذلك من بضاعة الرحالين العارفين بمختلف الأمم في مختلف البلدان، فإذا تخيلت هذا الرجل وأضفت إليه ملكة الكتابة المبتكرة، والملاحظة الدقيقة فأنت تعرف كبلنج، وتعرف كل ما تنتظره من منظوماته ومنثوراته وتعرف النطاق الذي يسبق فيه والنطاق الذي يخفق إذا تعدى إليه، وهو كجميع الرحالين يغلب عليه أنه يحيط علمًا بالناس، وقلما يحيط علمًا بالإنسان؛ فما شئت من وجوه متعددة وأجناس بعيدة وأطوار متغيرة، يقص عليك الرحالون قصصها، ويشرحون لك تواريخها ومأثوراتها، ولكنهم إذا تناولوا الإنسان الواحد لم يتغلغلوا في أطواء نفسه، ولم يسبروا من غوره إلا ما يسبره كل عابر طريق، وربما كان هذا الإنسان لا يعنيهم كثيرًا؛ لأنهم لا يرونه في أنفسهم ولا في الآخرين، ولا يفرغون من عالم الدنيا فينقلبوا إلى عالم السريرة المحجوبة عن العيون، فانتظر عند كبلنج كل ما تنتظره عند ذلك الزائر الذي تخيلته في حجرة الاستقبال، واسمع منه كل ما يسمعه الزوار في تلك الحجرة، ولا سيما إذا أقبل على الأطفال يلهيهم بنوادر الحيوانات وأعاجيب المخلوقات، ولكن لا تنتظر من زائرك هذا أن يتعمق أو يتوغل في ذلك المجلس المطروق لكل زائر! فهو محدث ومغن في بعض الأحيان، ولكنه لن يكون كاهنًا ولا حكيمًا إلا في عرض الحديث وفلتات اللسان، وقد تنتظر الشذوذ لهذه القاعدة العامة، فلا يخيب انتظارك لأن الشذوذ حاضر في هذه القاعدة حضوره في كل قاعدة سواها، ولعل الشذوذ هنا هو رواية «كم الأيرلندي» التي نزع فيها كبلنج بعض النزوع إلى التصوف وأسرار الروح، وخرج فيها بعض الخروج عن شعائر حجرة الاستقبال.
وأخشى من تكراري لذكر الاستقبال وحجرته أن يتطرق إلى القارئ خطأ في تصور كبلنج وأسلوبه وموضوعاته، فيحسبه من أولئك المتأنقين الذين يتكلمون بالكنايات ويشفقون على هوامس الآذان، فكبلنج في الواقع أبعد الناس من هذه الطائفة، وأقلهم شبهًا بها في أسلوب الحديث وفي حذلقة الكناية، فهو لا يتورع عن لغة تمثل الحقيقة، ولو كانت لغة العسكر في الثكنات والحانات، وكل ما يشبه به زائر المجالس هو أنه لا يتعمق ولا يستطرد بسامعه من موضوعات كل يوم وكل إنسان: فأما فيما عدا ذلك فقد تسمع منه ما يأبى سماعه المتأنقون المتحذلقون، وقد تراه في ثياب «تومي» يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ويوحي إليك معاني اللعنات البذيئة، والفكاهات الغليظة، وإن لم ينطق بالألفاظ والعبارات.
كذلك أخشى أن يفهم القارئ أن كبلنج لا سحر فيه ولا غرابة؛ لأنه شاعر كل يوم وشاعر كل إنسان فلا مجال فيه لسحر الغرائب والأسرار. كلا فهذا إجحاف بالرجل وفهم لملكاته على غير الوجه الصحيح، فحق أنه شاعر البيت، والسوق، والطريق، والثكنة، والنهار، وليس بشاعر الصومعة والنفس الخفية والليل المعزول، ولكن غير حق أنه خلو من الحجر والغرابة على شئون كل يوم وكل إنسان، فإذا هي شعر وغناء، وإذا هو ينقل عرائس القصيد من أجوائها العالية، فيعلمها الخطر في الطريق بين السيارات والغوغاء وعساكر المرور! وتلك براعة لا يُغمط حقها ولا يُنسى فضلها.
ثم لا ننسَ كذلك أن كبلنج يحدث الناس عن الهند وهي في ذاتها أسطورة كبيرة ودنيا مسحورة ومتاع للخيال، يستخرج منه القارئ ما يغنيه عن خرافات الجن والعفاريت، وعجائب الأحلام والتهاويل، فالهند في شعر كبلنج هي الحلم الذي ينوب عن الأحلام والمجاهيل في شعر الآخرين، ولا يمنعها أن تكون كذلك أنها بلد معمور، له حيزه على الأرض ومكانه على خرائط الجغرافيا وأخبار الصحافة، فإن البعد معوان الخيال. والهند بعيدة جدًّا حتى على المقيمين فيها من الإنجليز والأجانب، وحتى على أبنائها الذين لا يعرفون حاضرها وغابرها إلا بالسماع، بل يوشك ألا يعرفوا الأرض التي يمشون عليها بغير السماع لما هم مستغرقون فيه من الأحاجي والألغاز!
ولد كبلنج في الهند وتزوج من الولايات المتحدة، وآباؤه الأقدمون من هولندة، وفي نسبه القريب مزيج من الأيكوسيين والأيرلنديين! فهو خلاصة أجناس متفرقة، ولهذا أثره ولا ريب في تكوين المزاج والسليقة، ولكن شيئًا من كل ذلك لم يكن له في تكوين أدبه ما كان لولادته في الهند من الأثر الكبير الذي لا ينفصل عن عمل من أعماله ولا فكرة من أفكاره، فإذا حذفتَ الهند وتوابعها من شعر كبلنج ونثره فقد حذفتَ عنصره الذي لا قوام له بغيره، والمرجح عندنا أنه لو لم يولد في الهند لما كان شاعر الاستعمار كما يلقبونه في بلاده، أو شاعر العلم البريطاني والدولة البريطانية دون غيره من الشعراء معاصريه. إذ الغالب على الإنجليز الذين يولدون أو يعيشون في المستعمرات أن يكونوا هم أشد الغلاة في تقديس الاستعمار، وكبلنج هو القائل بأمانة الرجل الأبيض في الحضارة الحديثة، وإن كل فرد من أفراد الأمم البيضاء مسئول عن سبعة أو ثمانية من أفراد هذه الأمم الملونة التي نصفها طفل ونصفها شيطان! وهو صاحب القصيدة الشائعة عن العلم الإنجليزي وصاحب الأبيات المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي الاثنان حتى تلتقي الأرض والسماء بين يدي الله يوم الحساب.» وهو كذلك الذي أتم هذا المعنى بقوله: «ولكن لا شرق ثمة ولا غرب ولا حد ولا معشر ولا ميلاد حين يتقابل الرجلان القادران وجهًا لوجه ولو أقبلا من أقاصي الأرض مفترقين.»
ويعزو بعض النقاد ولع هذا الشاعر بالمرعبات إلى نشأته في الهند، واستماعه إلى نوادر العجائز والقصاصين الذين كان يختلف إليهم في الخانات، ويتسقط منهم القصص والأساطير؛ ففي إحدى قصصه — وهي أبشع ما يأخذونه عليه — يجعل قردًا يغار من زوجة صاحبه الصغيرة فيهجم عليها ويمزقها إربًا إربًا ثم يجلس والدم يقطر من يديه على مائدة الطعام، وأي معنى لهذه القصة التي يعافها السمع ويقشعر منها البدن؟ لا معنى غير الرعب والفزع وإثارة النفس بما لا تحب التأمل فيه! ولسنا نستبعد أن تكون بعض القصص التي ألفها كبلنج منقولة عن الأقاصيص الشعبية في الهند مع تصرف يسير في التنسيق والصياغة، فإن قصصه الأولى شبيهة بتلك البلاد ومأثوراتها، إذ كان يكتبها وهو يافع لم يتوسع في الاطلاع على مؤلفات القصاص.
يندر أن تورث العبقرية، ولا يندر أن تورث الأذواق الحسية، وقد كان والد كبلنج مديرًا لمدرسة الفنون في لاهور، وكانت والدته وأخته تقرضان الشعر ولهما ديوان نظمتاه معًا وسمتاه «ديوان أم وبنت». فكبلنج قد ورث الذوق الفني من أبيه وأمه، وزاد في الملكة بما ليس عند أبويه، فدقة الملاحظة أصيلة فيه مكينة في نفسه، وقدرته على الوصف هي شعبة من تلك الملاحظة الدقيقة، ومسحة من تلك القدرة الفنية الموروثة، ويقول الذين عرفوا آله وأقرباءه: إنهم كانوا جميعًا من الطراز المفراح المقبل على الحياة، فهذه الحيوية الدنيوية إذن طبيعة في الشاعر قد ورثها من أبويه كما ورث منهما الذوق ودقة الشعور، ولا اتفاق بين هذه الطبيعة وبين ما ينعته به بعض النقاد من الكزازة، والجفاء، وضيق العطن، ونعوت أخرى لا تدل على المعهود في كلامه وفكره، فلعله تخرص الحساد، أو جهل الفضوليين الذين يكلفون الناس ما لا يطاق ويريدونهم على الصبر والرضا بكل صغيرة تخطر لهم، ولا يسمحون لهم بقليل من التحفظ والامتعاض، أما الذين عاشروا الرجل فيذكرون له المحضر الأنيس والنكتة المليحة، وإليه تنسب تلك النكتة التي تداولتها الصحف في أيام حملة النساء المطالبات بحقوق الانتخاب، فقد قال كبلنج لسيدة منهن: أوَلم تأخذ النساء بعد ما فيه الكفاية؟ فقالت السيدة: كلا! فلماذا يقسرون المرأة على أن «تأخذ» اسم زوجها؟ قال كبلنج مبتسمًا: ولماذا تترك له اسمه وقد أخذت كل شيء غيره؟ فكانت فصل الخطاب!