صور وأخلاق١
الفخر بالأجناس قديم لم تخلُ منه أمة ولا قبيلة، فما من جيل من الناس إلا وله فضائل يدعيها ومَنَاسب يرتفع بها أحيانًا إلى آلهة السماء، وأحيانًا إلى أعاظم القديسين، فضلًا عن المناقب والصفات التي لا شريك له فيها من أجيال الأرض أجمعين، ولا غرابة في هذه الدعاوى إذا سوغتها ظواهر الأمة، وساندتها القوة والثروة والكلمة الغالبة، ولكن الغريب أن تشيع هذه الدعاوى بين أمم لا قوة لها ولا مال ولا غلبة، وأنها ربما كانت في هذه الأمم أكبر مزعمًا وأشد غرورًا مما تكون في غيرها! كأنما هي عوض عما فقدته الأمة من دواعي الفخر الصحيح وعزاء عم تصبو إليه من العزة والكرامة، وهي على كل حال أنانية قومية تجري على وتيرة الأنانية الفردية في الظهور أو الضمور، فكل إنسان في نفسه سلطان كما يقول العامة وكل أمة سلطان في نفسها كذلك!
كان المصريون يرون أن المصري هو الإنسان الكامل ثم تتوالى الدرجات بعده إلى السادسة وهي درجة اليوناني عندهم في تاريخه القديم، وكان اليوناني يحمد الله على أن خلقه من ذلك الجنس ولم يخلقه من البرابرة، وكان البرابرة ينظرون إلى الرومان واليونان نظرة اشمئزاز واستهانة؛ لأنهم قوم مؤنثون مترفهون، وكان العرب هم صفوة الخلق كافة وكل من عداهم أعاجم غلف لا يفقهون الحديث، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب لها من الفضل على سائر القبائل العربية مثل ما للعرب جميعًا من الفضل على الأمم الأعجمية، ثم جاءت العصور الأخيرة فإذا كل أمة من أمم الحضارة الحديثة تزعم زعمها وتفتخر على الأمم الأخريات فخرها: الإنجليز سادة الأرض، والفرنسيون معدن الحضارة، والطليان يرثون دعوى اللاتين الأقدمين، ويرجمون أمم الشمال بتهمة البربرية والهمجية، والروس يقولون إنهم هم الشعب الذي اختاره الله ليجدد الحضارة الأوربية، ويحيي موات هذا العالم الذي تهالك من الجهد والإعياء، والتوتون هم ملح الأرض لا عظيم في الدنيا إلا وهو من سلالتهم، ولا حكيم ولا شاعر ولا مصور ينبغ في المغرب أو المشرق إلا وفيه عرق من عروقهم ونفحة من دمائهم، وغالى بهذا الوسواس فيهم رجلان من العجيب أنهما أجنبيان عن وطن الجرمان في هذا الزمان: أحدهما «جوبينو» الفرنسي والآخر «شمبرلين» الإنجليزي! وباعث الأول على تمجيد التوتون أنه كان من أشراف فرنسا فأراد أن ينقض مبادئ الثورة الفرنسية، وينكر حقوق الشعب فادعى أن السواد والعلية في فرنسا من عنصرين مختلفين، وأن السيادة للأشراف إنما جاءتهم بحق الإرث؛ لأنهم ذرية التوتون الذين سادوا البلاد قديمًا بما رُزقوه من مزايا القدرة والشجاعة والعقل الراجح والخلق المكين، وباعث الثاني أنه انتمى إلى البلاد الألمانية، فأراد أن يرتقي إلى الجرثومة الأولى التي يجتمع لديها الألمان والإنجليز وأن يرجع إلى الأصل الذي يستوي فيه الألماني العريق والألماني الدخيل!
وأصبح الفخر بالأجناس علمًا!
نعم أصبح الفخر القديم الذي نشأ مع الخرافات القديمة علمًا جديدًا له حرمة العلوم التي عليك وعليَّ وعلينا أن نقر بها مؤمنين، ولكن العلم الجديد لم يكن إلا صبغة حديثة لتلك الخرافة العتيقة، ولم تكن له من نتيجة إلا تلك التي كان الأوربيون يزعمونها قبل أن يكون لهم علم وقبل أن تكون للأجناس دراسة، وهي أنهم هم خير من في الوجود، وأن الحاكمين منهم اليوم هم أصلح الناس للحكم وهم أصلح الناس للدوام فيه! وأما الأمم الأخرى فلا نصيب لها إلا نصيب التبع الذي لن يجوز له أن يطمع في المساواة الآن ولا في أي زمن من الأزمان. هكذا قال العلم الحديث والعلم الحديث صادق شريف، فسواء قسمنا الأمم إلى آرية وسامية أو إلى شمالية وجنوبية أو إلى بيضاء وذات ألوان فالنتيجة واحدة في جميع هذه التقسيمات وهي أن الأوربيين هم أفضل من غبر وحضر، وأنهم هم السادة الأعلون الذين بينهم وبين المسودين الأدنين حاجز لا يعبر، وتفاوت لا تدارك له ما بقيت الأرض أرضًا والسماء سماء.
لكن ما قول العلم الحديث إذا قال له قائل — باسم العلم الحديث — إنك أخطأت يا هذا؟ وإنك لم تَعْدُ أن تكرر لنا الخرافة البالية في ثوب جديد؟ أتظن أن العلم الحديث يغضب؟ وإذا غضب أتظن أن غضبه هذا يثني الذين معهم الحقيقة عن إبدائها، ويسمح للجهل القديم أن يرجع للناس في زي العلم الحديث بلا جواز ولا بحث ولا تفتيش؟
يغضب أو لا يغضب. لقد فعلها العالم النمسوي «فردريك هرتز» وقال ما قال وأجره على الذي خلقه! قال لعلماء الأجناس المتعصبين إنكم مخطئون جد مخطئين، وإن أصلًا من أصول الأمم المختلفة لا يخلو من أوشاب كثيرة يدخل فيها غربيون وشرقيون، وإنه ما من محمدة تُدَّعى لأوروبا إلا وللأجناس الأخرى مثيلاتها، وما من مذمة تُدَّعى على الأجناس الأخرى إلا وفي أوربا قديمها وحديثها مثيلاتها، وأيَّد كل قول قاله ببرهان إن لم يكن دامغًا نافذًا فهو لا يقلُّ في دمغه ونفاذه عن براهين جوبينو وشمبرلين.
فللزنوج أثر في أوربا تدل عليه الجماجم التي وجدت في ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وكرواتيا، ومورافيا، ووجد ما يشابهها منذ ثماني سنوات في أفريقيا الجنوبية، وقد بقي أثر للأقزام السود في جبال الألب إلى عهد بليني الذي تكلم عن هؤلاء الأقزام، وعززت كلامه القصص والأساطير.
ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون في الشرق؛ لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلًا في مدى سبعة وعشرين يومًا من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور أخرى: منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير إذن من زوجته وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي، ثم من شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان.
ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين، فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون، ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضًا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين — كرشمر وكيسلنج وفك — أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسًا واحدًا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب، فيما يقول هيرودوت، والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سام وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه سام آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.
ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب، ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام، فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس، وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لُبِّها مكانة تُغبط عليها في البلاط الألماني، وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.
يقول هرتز: «لا ترى أحدًا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر، أما في بني الإنسان فالفرق اليسير — بالغًا ما بلغ من التفاهة — كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة، وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر، فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»
كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندًا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوربيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين، والكتاب بعدُ حقيق بالدرس والتأمل لما احتواه من العلم الغزير والبحث الكثير ولو لم يكن فيه ذلك الإنصاف.