شيء عن أخلاق ابن الرومي١
… آمن شيء في الحكم عن هذه الأمزجة وأشباهها ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وأن لا تزال مترقبًا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة؛ فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول. وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتًا ما وهو مستخف بالعظائم لا يبالي منها ما كان أو ما يكون.
كيف هذا؟ أفي تركيبهم تناقض؟ لك أن تقول نعم، فتصيب بعض الإصابة، ولك أن توسع النظر فتصيب الإصابة كلها، ويحق لك أن تقول: كلا! إن التناقض هنا هو في الظاهر دائمًا وليس في الحقيقة، أو هو في تقلبات الإحساس وليس في أسبابها الدخيلة، ومن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت منه حري ألا يبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه وظلت بعيدة منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه ويلامس أعصابه، لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه وأعفاه عن شبحه، فهو الدهر بين تبرم وفزع من توافه الأشياء وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.
وكثير من أصحاب هذه الأمزجة من يحسنون السخر والتهكم وينظرون إلى الحياة بعين العارف بما فيها من الكبائر والصغائر، والتناقض والاتفاق؛ لأن هذه الملكة — ملكة السخر — لا تحتاج بعد دقة الملاحظة إلى غير النقائض والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه وقد يستغني عن مراقبتها في غيره، وقد كان ابن الرومي ساخرًا ولا جرم. كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله! ولا جرم يسخر وهو مهيأ، فيما عدا ذلك للسخر، بتعدد أصوله وتوزع أهوائه وعصبياته، فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك ولا يسعفه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها الناس موضع الجد والقداسة.
ههنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب، والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة، كالذي يختصم إليه بنوه، ويدعي كلهم من فضله وعيوب إخوته وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه ووشائج حبه وحنانه.
فقد اجتمع لابن الرومي من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره. اجتمعت له دقة الإحساس والملاحظة، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه، وسعة النظر إلى الفوارق، وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث حتى بصحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثيل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له بل صورًا شتى لا يعوزها شيء من العناية وأمانة الصناعة!
فهل ترى هذا الوجه الذي فُصِّل للصلاة والتعبد في الفلاة؟ هو وجه ابن الرومي فيما صوره لنا حيث يقول:
وهل ترى هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح؟! أو ترى هذا الخائف المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ هو ابن الرومي أيضًا حيث يقول عنه نفسه:
وهل ترى ذلك المنهوم الذي يشْره إلى الطعام حتى في الأحلام، ويأسف على أن يذاد عنه وهو في المنام؟ هو ابن الرومي بعينه، وهو القائل:
أما سخره من غيره فله في أفانينه الكثيرة، ومعانيه الغريبة، ما يقوم بديوان كامل، وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له أمام داره ليتطير منه:
وله في معلم صبيان مغن:
وله في «جحظة» وكان مغنِّيًا جاحظ العينين:
وله فيه:
وله في مغن:
وله في مغنية:
وله في صاحب لحية:
وله في أبي حفص:
وله في رجل له منظر ولا أدب عنده:
وله في أكول مضَّاغة:
وله في قصير أعور أصلع:
وله فيمن هجاه:
وله في بخيل:
وله في أصلع:
وله من أمثال ذلك ما يطول بنا إحصاؤه، ولا نرى هنا فائدة من الإسهاب في تكراره.
وأبرع ما يكون سخره كما ترى إذا هو شبه لك صورة محسوسة أو خلق لك من خياله صورة معنوية، فإنه يحكم التشبيه، ويحكم خلق الصورة، فيضحك بالمقابلة بين الشيء وشبيهه، ويضحك بما تتخيله من المنظر الغريب حين يعمد إلى خلق الشكول المعنوية، فصورة الرجل الذي يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصفعة الثانية، هي صورة الأحدب بنصها وفصها، لا يعوزها الضبط الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة الزرية، وكان فضلًا عن هذا لا تفوته من الأغراض فائتة في اللفظ، ولا في المعنى، ولا في التصوير.
ألق بالك مثلًا إلى كلمة «جيدها» في هذا البيت:
فلو أن ساخرًا غير مطبوع على السخر أراد هذا المعنى، لاختار كلمة غير «جيدها» للمبالغة في التقبيح والتشويه، ولكنك تنظر فترى أن أصلح الكلمات في هذا الموضع هي الكلمة التي توهمك الحسن وتحضر لك المناقضة التامة بين الوهم والصورة المشهودة، فيستوي طرفا النكتة، ويبدو لنا الفرق المضحك بين «الجيد» وبيت الأرضة كما نضحك من الفرق الذي يبدو لنا إذا وقف القزم إلى جانب العملاق.
وتأمل كلمة «طحان» في هذا البيت:
فليس تمام القافية وحدها بهذه الكلمة، بل الصورة المعنوية هي التي تمت بها أحسن تمام؛ لأن السخر لن يستوفى في هذا التشبيه إلا إذا تمثلنا بموقف الغناء بغلًا من بغال الطحانين العجاف الجياع يتنغم ويستكبر بأنغامه استكبار هامان، ولو كان بغلًا من البغال الفارهة المترفة لنقصت الصورة وفترت فيها قوة السخر وقوة التشبيه، وقس على ذلك سائر الأبيات والصور، وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة والحياة.