الترجمة وتعارف الشعوب (٢)
كنت أقرأ إحدى القصص اليابانية — وهي قصة الخيزراني الهرم — فكنت أشعر وأنا أقرؤها بما نشعر به حين يطالعنا وجه مألوف، نذكر أننا رأيناه من قبل ولا نذكر كيف رأيناه ولا أين كانت رؤيته أول مرة، ثم يعود شيئًا فشيئًا فنذكر ذلك، ونستوضحه، ونعجب كيف ترددنا فيه ونسيناه وهو قريب قريب لا يحتويه النسيان.
أين قرأت تلك القصة أو ما يشبهها أول مرة؟
أفي كتاب؟
لا ولا ريب، فإنني قبل أن أقرأها أو أقرأ ما يشبهها في أي كتاب، كنت أعرفها وأعرف كثيرًا من أمثالها، وأحفظها حفظ من عاشها وعاصرها، وانطبعت في نفسه مواقعها ومحسوساتها، وقد يكون في كتب القصص التي اطلعت عليها في عهد الطفولة ما يشبه تلك القصة اليابانية من بعض نواحيها، ولكنني أذكرها كما أذكر حديثًا سمعته ومجلسًا حضرت فيه ذلك الحديث وأشياء شتى مما يعلق بذاكرة الطفولة، ولا يمحوه بعد ذلك تعاقب الأيام.
إذن أين سمعت القصة اليابانية — أو ما يشبهها — ومتى كان سماعي إياها قبل كل قراءة وكل سماع!
سمعتها في أُسْوان وأنا دون العاشرة حول نار الشتاء التي كنا نصطلي حولها كل مساء، وكان القاص — أو القاصة — شيخة من أقاربنا تزورنا من حين إلى حين ونفرح بزيارتها نحن صغار البيت؛ لأنها كانت تمتعنا بالقصص والأحاديث، وتخصنا بالسمر الذي نأنس به ونميل إليه من اليابان إلى أسوان؟!
ما أقرب المسافة بين الناس والناس، وما أعجب النقلة في الأفكار والأحاديث من آسيا الشرقية إلى أقصى صعيد مصر في القارة الإفريقية!
لعل يوم أمس قد ضم بين ليله ونهاره صبية يابانيين سمعوا تلك القصة كما سمعها في ذلك اليوم من قدر له سماعها من الصبية المصريين في بعض قرى الصعيد، أو بعض قرى الريف، فجمع الخيال بين اليابان ومصر في عهد الطفولة، قبل أن يجمع بينهما علم أو يقرب بينهما تاريخ، كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين قصص اليابان وقصص الصعيد!
ونقول التشابه لأن القصة اليابانية تختلف عن القصص المصرية التي من قبيلها في بعض التفصيلات، وإن كانت مثلها في جملة المعالم والأوضاع: مثلها في الفتاة السماوية الجمال التي يربيها أب غير أبيها وتنشأ في بيئة غير بيئة النعمة التي تظهر عليها، ومثلها في كثرة الخاطبين الذين ينافسون على خطبة تلك الفتاة من علية الأمراء والأثرياء وذوي المال والجمال، ومثلها في إعراض الفتاة عن جميع هؤلاء وزهدها في الزواج، ومغالاتها بالشروط التي تلجأ إليها آخر الأمر لتستريح من إلحاح الخاطبين في غير ظهور بالرفض، ولا تمييز لأحد منهم على الآخرين، فهذا يميزها بالجوهرة التي في رأس التنين، وذاك يمهرها بالشجرة التي جذورها من الفضة، وأغصانها من الذهب، وثمارها من خالص الجوهر، وذلك يمهرها بالثوب الذي لا تحرقه النار، وغيرهم يمدونها بغير هذه المهور التي تجاب من أجلها الأقطار، وتخاض البحار، ولا يظفر طالبها بغير اليأس والخسار، وكل ما يتخلل ذلك من تناشد الأشعار والتباصر بالأحاجي والألغاز، والمعاني المضمرة والكنايات المغلفة، يجري على نسق القصة التي نسمعها في مصر ونقرؤها في بعض كتب الأحاجي و«الأحاديث».
كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين القصص اليابانية وقصص الصعيد؟!
لست أظن أنا أنه توارد خواطر لا صلة فيه بين المصدرين، وإنما أرجح أن الترك هم ناقلو تلك القصص من أقصى الشرق في آسيا إلى أقصى الصعيد؛ لأننا لا نعرف بلدًا من الصعيد خلا من رجال الترك ونسائهم، ولم تشتمل بيوته على أم تركية أو جدة أو عمة تحدث صغارها بتلك القصص التي توارثتها عن الأمهات والجدات في سمعتها و«الحريم» الخالد حيث تبقى الموروثات أجيالًا بعد أجيال، أما كيف أتى الترك بالقصص من آسيا الشرقية فالعناء في أمره يسير والعلاقة فيه ظاهرة؛ لأن اختلاط الترك والصين واليابان قديم في الأقطار الآسيوية، ولا نزاع في اقتباس اليابان من أواسط آسيا واقتباس الآسيويين من أهل اليابان، وما كانت القصص بالشيء الوحيد الذي ترى فيه دلائل المشابهة والنقل بين شعوب الصين واليابان وقبائل الترك والمغول.
بين كل أمة وأمة على وجه الأرض علاقة ما من هذه العلاقات التي تسري مع أحلام الطفولة ومطالب المعيشة، وما من أمة هي غريبة كل الغرابة عن جميع الأمم التي تختلف اختلافها الواسع في الأصل واللغة، والدين والتاريخ.
وقد انصرفت العناية كلها قبل الآن إلى تجسيم الفروق بين الناس وتضخيم أسباب النفور والتنابذ، فالواجب الآن أن نكافئ ذلك بصرف العناية الكبرى إلى وجوه التشابه ومواضع التقارب، وهي أثبت في الحقيقة من الفروق والمباينات، وصدق من قال: إن طبيعة بني الإنسان واحدة في كل مكان.
بلغ من جهل الناس بالناس، أو بلغ من جهل الإنسان بنفسه فيما مضى، أنهم كانوا يصدقون أن يكون في بعض المجاهيل أناس رجالهم من الكلاب ونساؤهم من بنات آدم وحواء! وكانوا يصدقون أن يكون في بعض الجزر أقوام يتناسلون من الجان، أو ساكنات البحر، وما تحت أديم الأرض، وفوق سقف السماء! وكانوا يعجبون للتشابه بين أمة وأمة كأنه شيء يدابر الفطرة الإنسانية، ويجري على خلاف المعلوم والمنظور، وإن بقية هذه الجهالة لباقية في عالم الأوهام، وإن كنت لا ترى لها أثرًا في عالم العلم الصحيح والاختبار، فإذا استطاعت الترجمة أن تعرض الأمم للأمم على وجه التشابه بينهما، وأن تصور حقائقها بحيث يشعر كل من يقرأ أخبارها وتواريخها وقصصها أنه يقرأ شيئًا يألفه، ويشبه ما عند أمته يذكره بما في نفسه، فقد استطاعت الترجمة عملًا جليلًا في التقريب بين الإنسان ونفسه، ثم في التقريب بين الشعوب والشعوب.
والترجمة تستطيع ذلك ولا مراء، وتستطيعه فيما نعتقد على طريقتين: إحداهما قابلة للمراقبة والإشراف، والأخرى لا تراقب ولا يمكن الإشراف عليها، وربما كان إطلاقها من القيود أجدى من تقييدها برقابة رقيب وإشراف مشرف، أيًّا كان حظه من النزاهة وحسن النية.
فأما إحدى الطريقتين فهي كتب المطالعة في عهد التعليم الأول، وكتب التاريخ التي تدرس في إبان الحداثة، فإن هذه الكتب مما يسهل الإشراف عليه إذا عنيت عصبة الأمم بدرس موضوعها، وتفاهم المشتركون فيها على تمثيل الشعوب المختلفة في صورة يشعر القارئ الصغير وهو يقرؤها أن المسافة قريبة بينه وبين سائر النساء في الطباع والأهواء وعوامل المعيشة ودوافع الحياة، فلا يستغرب المماثلة بينه وبينهم إذا شب وكبر، ولا يرى فيها إلا أمرًا مطردًا مع الحقيقة ودخائل الشعور، ويتأتى ذلك كله على أهون سبيل إذا عهدت الأمم بتصنيف تلك الكتب إلى الخبراء المحنكين الذين يستشفون بواطن الطباع من ظواهر الأعمال، ولا يؤخذون بالفروق الكاذبة في العرضيات وسفساف الأمور.
أما الطريقة الأخرى التي لا تقبل الرقابة والإشراف، وربما كان الإطلاق فيها خيرًا من التوجيه والتقيد، فهي طريقة الترجمة التي يعنى بها الآن جميع المترجمين في الأمم التي أصبحت القراءة فيها من حاجات الحياة؛ فإلى جانب الكتاب الذين يتوخون الإغراب في وصف أطوار الشعوب، ويعتمدون التشويق بالتهويل والتلوين، لا بد أن يظهر الكتاب الذين ينفذون إلى البواطن ويحسبون الحقيقة أدعى إلى الترغيب والتشويق، وإذا ضمنت صحة الترجمة فيكفي أن نذيع المترجمات؛ ليتسع بها أفق الحياة في نظر القراء، ويعلم الناس أن هذا الأفق الرحيب يتسع لأصناف شتى من الأحياء وقرابات حميمة من وراء الاختلاف الكثير، وإن هذا الاختلاف لأدعى إلى التسامح والتعارف؛ لأنه يوسع أفق النظر بتوسيعه أفق الحياة.
هذا قصارى ما تستطيع الترجمة من التعريف بين الشعوب، وهي إذا استطاعته فليس لنا أن نطالبها بعده بتبديل الطبائع، ومحو كل ما يؤدي بين الناس إلى تنافس ونزاع، فهذا بعيد جد البعد. بل هذا مستحيل كل الاستحالة، ونعتقد أن الدكتور طه يرى رأينا ولا ينتظر من الترجمة كل هذا الرجاء، ولا هو ينتظره من وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي يتذرع بها طلاب السلام وعشاق المثل العليا، ومحاسن الأخلاق.