ربة الجمال بلا يدين!
كان هيني الشاعر الألماني يعبد الجمال، ويعشق كل جميل.
وكان من عبادته في جحيم، أو قل في نعيم:
فإن الجحيم والنعيم في عبادة الجمال شيء واحد باسمين مختلفين، كما أن «هرشي» طريق واحد من حيثما أخذتها، وقد كان بدوي في حضرة الخليفة عمر بن عبد العزيز يتمثل بالقرآن فقال: والله رحيم غفور.
فقال الخليفة: بل قل غفور رحيم.
فأنشد البدوي البيت: خذا بطن هرشي أو قفاها، لأنه لم يكن يدري ما الفرق بين رحيم غفور وغفور رحيم.
وكذلك الأمر في عبادة الجمال، ولكن بغير تخطئة ولا تثريب؛ فأنت إذا وجدت من يخطئك ويثربك حين تقدم الرحمة على الغفران في قراءة بعض آيات القرآن، فكن على اطمئنان في قرآن الجمال، وثق أنك إذا قلت النعيم وأنت تعني الجحيم، أو قلت الجحيم وأنت تعني النعيم، فلا لوم عليك ولا مخالفة للحقيقة؛ لأن جحيم الجمال ونعيمه كما قلنا شيء واحد، ولأنهما داران موضوعتان على رسم واحد وفي سعة واحدة، لا فرق بينهما داخلًا ولا خارجًا إلا اللوحة التي على الباب.
وكان هيني الشاعر الألماني في جحيم من عبادة الجمال، فهجر وطنه ألمانيا، أو هجره وطنه، وعاش في فرنسا مشردًا منغصًا ينتظم عيشه تارة ويضطرب تارات، وتبسم له الدنيا ساعة وتعبس ساعات، فدب الخلل في جسمه، وسرت إليه مبادئ الشلل الذي أقعده بعد ذلك ثماني سنوات طريح فراشه، فأشفق أن يحرم الغدوة والروحة والطلاقة والحرية بعد أن حرم السعادة وحرم الأمل في السعادة، فذهب في ذات يوم إلى متحف «اللوفر» يودع أقانيم الجمال، وينظر — ولعلها النظرة الأخيرة — إلى الصور والتماثيل والنفائس والآثار التي كان لا يمل التردد بين محاسنها ومحاسن الحياة، وهناك وقف بين يدي الزهرة ربة الجمال يبتهل إليها بالصلاة ويطيل الدعاء ويكثر من التذكير والتفكير، ثم ناداها: «مدي إلي يديك يا ربة الجمال.» ولكنه أفاق من غشية صلاته، فإذا ربة الجمال لا تسمع، وإذا هي بغير يدين!
نعم بغير يدين، لأن ربة الجمال أو الزهرة المعروفة في متحف اللوفر ﺑ «زهرة ميلو» مكسورة الذراعين لا تملك أن تمد يدًا إلى متوسل، ولا هي ممن يسمع النداء فيلبيه.
ومن طرائف الشاعر هيني أنه يحسن اللعب بهذه المحسوسات كثيرًا، ولكنه لا يضعها إلا حيث تكون لها دلالة معنوية مطابقة لما يظهر للحواس، فربة الجمال هنا مكسورة الذراعين حسًّا ومعنى، وليس لها بإنقاذ العابدين يدان، لا في التماثل المصور ولا في عالم التصورات والخيالات.
لم كانت ربة الجمال بغير يدين؟
أما سبب ذلك في التمثال فسيأتي بيانه، وأما سببه في الجمال — الذي نتمثله في ذلك التمثال — فالروحيون يقولون: إنه لغرابة الجمال في الدنيا وإنه هو كمال علوي من العالم السماوي هبط، وفي العالم السماوي تكون له العزة والسيادة، فهو لا يزال في هذه الأرض كالغريب الطريد لا حول له ولا قوة ولا طاقة له بمغالبة الشرور والشهوات التي تعيث فيها، حتى يئوب إلى وطنه، ويرتفع إلى سمائه فيعتز هناك وتمد له يدان!
وإذا ترجمت هذا المجاز إلى لغة الحقيقة صح لك أن تقول: إن الدولة إنما تكون بالكثرة وإن إدراك الجمال في هذه الدنيا من أندر الأشياء ندرة، وإن خيل إلى أناس أنه شائع مشترك بين جميع الناظرين، فكل من يستعصي عليه إدراك مسألة من مسائل العلم، قد يأتي عليه اليوم الذي يدركها فيه ويذلل عصيها بإصراره وتأنيه. أما الجمال ففيه أسرار تستعصي على قوم فلا يدركونها أبدًا، ولو طالت بهم الأعمار أحقابًا وأدهارًا بدل الأيام والسنين، فهو قليل النصير، وإن خيل إلى الناس أنه أكثر ما يكون في هذه الأرض نصيرًا أو مفديًّا بالأرواح والأموال.
وكأن الأقدار شاءت أن تصحح خطأ وقع فيه المثال الإغريقي المجهول، فأبت أن يقوم التمثال في متحف اللوفر إلا مكسور الذراعين إحداهما من الكتف، والأخرى مما فوق المرفق، وهم يبحثون الآن — مرة أخرى بعد مرات كثيرة — كيف كان ذلك وأين ذهبت الذراعان المفقودتان، ويظنون أنهم سيجدونهما في ميناء «ميلو» حيث وجد التمثال، وإليها ينسب وحيث تعمل السفن النزافة في حفر أعماق الميناء؛ على أمل الوصول إلى القرار الذي سقطتا فيه.
وبعد فهل كان للتمثال قط ذراعان؟ يقول بعض النقاد الفنيين إنه صنع هكذا بغير ذراعين، ويستبعد ذلك الأكثرون من النقاد؛ لأنه غير معقول وغير معروف النظير، فيما بقي من آثار الإغريق الأقدمين، والأصح أن التمثال كان كامل الخلقة عند استخراجه من الأنقاض في سنة ١٨٢٠، وقال الضابط الفرنسي دومون درفيل، الذي عني بشرائه لفرنسا إنه رأى الذراعين بعينه وإن يمناهما كانت تحمل المئزر عند الخصر، واليسرى كانت ممدودة وفي كفها تفاحة، ويرجح أن «زهرة آرلس» الكاملة مصنوعة على نمط قريب من هذا، فلا يبعد أن يكون التمثالان على شكل واحد أو متشابه.
إن الذراعين كسرتا في نزاع نشب على ميناء ميلو بين البحارة الفرنسيين والبحارة اليونانيين، وإن المسيو دي مارسلس الذي اشترى التمثال لم يحزه إلا عنوة، وإن كان قد بذل فيه الثمن المطلوب؛ لأنه حين وصل لتسلمه كان قد بيع بيعة ثانية، وأوشك أن يحمل إلى سفينة يونانية يركبها أمير مجهول الأمر، هو الذي اشترى التمثال للمرة الثانية على يد قسيس أمريكي يقيم في الجزيرة، وكان الجزء الأسفل منه قد نقل فعلًا حين أدركه الجند الفرنسيون وهزموا البحارة الآخرين وهم مسلحون بالبنادق والسيوف، واصطلموا أذن أحدهم ثم نقلوا ذلك الجزء من السفينة اليونانية إلى السفينة الفرنسية.
ولخصت مجلة الأوتلاين الإنجليزية — التي ننقل عنها — ما بقي من الفصل المتقدم، فإذا الكاتب يذكر هذا التعليل ويذكر تعليلًا آخر لفقد الذراعين، وهو أن القائمين على متحف اللوفر كسروهما عمدًا، أو كسروا إحداهما بعد وصول التمثال إلى باريس، وقد كان للضابط الفرنسي رفيق اسمه «ماتريه» زعم أن التمثال وصل إلى فرنسا بذراعه اليسرى، وأن هذه الذراع لم تكسر إلا في العاصمة الفرنسية.
لكن ليس هذا كل ما يؤسف له من أمر هذا التمثال الأبتر من جهات كثيرة؛ فقد بترت ذراعاه وبترت تواريخه كلها، فلا يعلم له صانع ولا زمان صناعة، ولا يعلم عنه الآن إلا أنه تمثال الزهرة، وأنه وجد في جزيرة «ميلو» في شهر مارس سنة ١٨٢٠.
إلا أن البقية الباقية منه كافية للدلالة على حقيقته الكبرى: وهي نظرة الفن الإغريقي إلى الجمال الأنثوي، والمقابلة بين هذه النظرة الإغريقية وبين أشباهها من النظرات في مختلف العصور والأمم، فلو أن مثالًا مأخوذًا بالمراسم التي قررتها التقاليد، وسجلتها تشبيهات العرف الذائع، عمد إلى نموذج الجمال الأنثوي ليصوره على أحسنه وأرشقه لكان الأغلب الأرجح أنه يدق من خصره، ويرفه من خلقته على الجملة؛ ليجيء على وفاق الصورة التي توهمها المترققون المتظرفون للمرأة الحسناء في حقيقتها، وإنما صور لنا الأجزاء كما يفهمون كل جزء منها على حدة، وجمع هذه الأجزاء فإذا هي امرأة يتخيلها المتخيل، ولا تنفعه في فهم جمال المرأة حق المنفعة؛ لأنه إذا قاس عليها الحسان قد ينكر منهن الجميلات اللواتي لا عيب فيهن إلا أنهن يخالفن ذلك الخيال.
أما النظرة الإغريقية فجمال المرأة فيها هو جمال الطبيعة وجمال الصحة، وهو الجمال الذي إذا نظرت إليه تمثلت لك المرأة في جميع حالاتها، أمًّا مدبرة ومعشوقة ومدللة، ولم تتمثل لك زينة فحسب، تراها فتعجب أن تكون هذه أمًّا مع ما فيها من الوهى، والرقة، والدلال الغالب على كل وسم وشارة.