مع بافلوفا حول الدنيا
لو كان للجسد نعيم! ولو كان للجسد سماء!
إذن لكان الراقصون والراقصات هم الأبرار المقربين في ذلك النعيم، وهم الملائكة الكروبيين في تلك السماء.
لأن الراقصين والراقصات يتقشفون كما يتقشف الزهاد والنساك، ويتعبدون كما يتعبد الصوامون القوامون، يتركون كثيرًا من الطعام والشراب وكثيرًا من الراحة والعيش الرغيد قيامًا بفرائض الجسد، وخوفًا عليه من عوارض السمنة وصلابة الأوصال، ويسهرون ويتهجدون ويروضون أنفسهم رياضة لا يقوى عليها إلا الصابرون، فلهم شعائرهم التي يرعون أحكامها، ولهم تجاربهم التي يُمتحنون بها ثم لا نراهم يحسبون في الناسكين ولا في المتقشفين!
ولكن أهو الجسد الذي يخدمه الراقصون والراقصات؟ أهي هذه المادة الكثيفة التي يدين بها هؤلاء الذين يروضون أجسامهم على مطاوعة أفكارهم وأرواحهم، وترجمة العميق الرشيق من أحلامهم وأذواقهم؟ ألأجل الجسد تُسام البِنية الخضوع والإذعان حتى يكاد يكون وجودها لاحقًا لحركات الأفكار وأنغام الخواطر؟ ألأجل الجسد يصبح الجسد روحًا هافيًا ومعنى مترددًا لولا أنه يبدو للعيون ويلمس بالأيدي لكان إدراكه بالبديهة أحجى وتصوره بالخيال أكمل وأولى؟ لا! لغير اللحم والعظام يصبح الجسد روحًا ومعنى، وتصبح الحركة جمالًا والأعضاء عنوانًا للقريحة، نترجم عنها كما يترجم الموسيقي عن نفسه بالنغم، وكما يترجم الشاعر عن خياله بالكلمات والأوزان، فالرقص — ولا نعني هنا إلا الرقص الشريف — رياضة روحية ومغالبة للأرض والجاذبية، وهو إخضاع للمادة الكثيفة وليس مطاوعة لها ومجاراة لنزواتها، فهو انتصار للروح على البدن وتسخير للضروريات في سبيل الجمال، وهيمنة للحركة والنظام على الجمود والارتباك، وغير عجيب أن نرى الناس يعبرون عن هذا المعنى ببداهتهم الخفية حين يقولون عن الرجل الذي يترنح في العبادة إن روحًا عاليًا يملكه ويستولي على جوارحه، أو يقولون عنه إذا تخبط واضطرب في صرعاته إن روحًا شريرًا يعذبه ويستبد بأمره، فهم لا يرون الجسد هنا إلا مسوقًا مغلوبًا، ولا يتوهمون السلطان له فيما يفعل، وإنما يتوهمونه منقادًا لسلطان غيره ويفرضون أن ذلك «الغير» هو روح من عالم الخير، أو من عالم الشر كما تكون الحركة إلى انتظام أو إلى اضطراب، وفي هذه البداهة ما في كل بداهة من النفاذ إلى الحقائق التي لا يحدها الفكر لأول وهلة، ولا تستجلي منها الحواس إلا الظواهر والأعراض.
كانت «أنا بافلوفا» الراقصة المشهورة ترقص في لندن فاستطارت ألباب النظارة بفنها البديع، وقدرتها الرائعة وخفة جسمها التي تسابق الضمائر، وتساجل القرائح، وتُنسي الإنسان ركود الأبدان على أديم الأرض، بما ترسل من أحلامه في أجواء الحركة الحرة والنسق الطليق، ثم خرجت من المسرح فلقيتها امرأة تحمل طفلها، واندفعت إليها تقول لها في لهفة المأخوذ: «أتوسل إليك أن تلمسي طفلي!» فكان لهذه التحية في نفس بافلوفا أبلغ أثر تذكره بين أفخر ما لقيته من تحيات الأمم وشهادات الدول والعروش. كأنما ارتفع بها الفن إلى منزلة القداسة في قلب تلك المرأة الطيبة التي التمست عندها البركة لوليدها الصغير.
وكأنما وقع في وهم تلك المرأة أن الجسم الذي يبدع هذا الإبداع المعجز، لا يخلو من سر ولا تخلو ملامسته من كرامة، فهو سربال قدرة ميمونة تبتغى عندها المعجزات والأعاجيب، ولم لا يكون من تلك المعجزات والأعاجيب شفاء الأطفال الأبرياء إن كانوا في حاجة إلى الشفاء أو استجابة ما يرجى لهم من الرحمة إن كانوا في حاجة إلى مجاب الدعاء؟ منطق لا يروق أرسطو، ولكنه يروق الطبيعة الإنسانية وهي أصدق من جميع المناطقة الكبار والصغار! وكأنما تؤمن الراقصة العظيمة بهذه الخرافة ولا تستغربها، فهي تقول حين تكلمت عنها مع رئيس فرقتها الموسيقية: «إن الحياة لعجيبة، وإن دورات الزمن لأعجب، فكما كنت أنا أنتظر في برد الشتاء القارس على أبواب الملعب الكبير في بطرسبرج ريثما تخرج الراقصة «دوز» وأتوسل إليها أن تلمسني في طريقها، كذلك جاءتني هذه المرأة في كبة الزحام لألمس لها وليدها.» فليست الكاهنة العظمى إذن بأقل من سواد العباد إيمانًا بذلك السر الذي جعلها أنا بافلوفا، وجعل لها تلك الكرامة وتلك البركة في قلوب المؤمنين والمؤمنات!
ومع هذا ألم يكن الرقص شعيرة من شعائر الأديان القديمة أكثرها إن لم نقل جميعها بغير استثناء؟ أليس له بقية باقية إلى اليوم في أذكار الدراويش وإخوان الطريق؟ ألا يشاهد في كنيسة إشبيلية الكبرى إلى اليوم في بعض الأعياد الدينية؟ فإذا نحن جمعنا بين الرقص والتقشف فالتهكم هنا غير كثير، والتناقض بين الأمرين لا يراه إلا الذين يقصرون فنون الرقص على اللهو والمجون واستثارة الشهوات التي لا ملاءمة بينها وبين الروحيات ومطالب الكمال، وما نظن أمثال هؤلاء هم الحَكَم في شئون العبادة أو في شئون الجمال، بل نراهم أحوج إلى تقويم فهمهم لحركات الأرواح والأجسام، وإقصاء ذكرى المراقص الشائنة من أذهانهم حين يسمعون عن الرقص كأنه رياضة نفسية تتلبس بها الأعضاء كما تتلبس الخيالات الرفيعة بالأشكال والتماثيل.
مع بافلوفا حول الدنيا عنوان هذا المقال، هو عنوان كتاب وضعه الأستاذ الموسيقي «تيوديور ستير» الذي صاحب الراقصة العظيمة في رحلاتها الطويلة بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، وهو الكتاب الذي استدعى في خلدي هذه الخاطرة وأنا أقلب صفحاته وأتنقل فيه من طرفة إلى طرفة، ومن فكاهة إلى عبرة، ومن وصف اجتماعي ممتع إلى وصف فني أمتع، وناهيك بما يدونه رجل ألمعي من رحلات طوال تخللت أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، وجاس بها صاحبها بين جميع الطبقات، من قصور الملوك والعظماء إلى ملاعب النظارة المفتوحة لجميع الطراق، وعاشر في أثنائها نماذج من أبناء الفنون وبناتها، لا تنقضي غرائبها، ولا تشبه في جملة خصالها ما يعهده الناس في جملة الرجال والنساء، فهو كتاب لا تخطئ فيه الطلاوة قبل كل شيء، ثم لا تخطئ فيه الفائدة التي قل أن تجدها في الكتب المخصصة للفوائد من العنوان إلى الختام.
أول عبرة من عبر هذه الكتاب أن يتسع التأليف الغربي لكتابة سفر ليس بالصغير في رحلات موسيقي مع راقصة. يا للصبيانية! يا للإسراف! أهكذا يفرغ هؤلاء الغربيون لهذه الصغائر التي لا تليق بالسمت الوقور!
تمثلت وأنا أقرأ عنوان هذا الكتاب على رف المكتبة وجيهًا من وجهائنا، أو عالمًا من علمائنا يتصفح الرف ويقع على هذه العنوان، وتمثلت انقباض أساريره وهو يتأفف من هذا السفساف، ويطوى الكشح عن هذا الصَّغار. أوَتكتب التراجم والسير لغير أصحاب الألقاب والشارات؟ إن هؤلاء الغربيين لحمقى لا يتوقرون، وإنهم لثراثرة والله لا يتورعون عن كلام! ما بافلوفا وما رحلاتها؟ وماذا يستفيد القارئ من رؤيتها أو من وصف من يرونها في آفاق الأرض وفي ملاعب المتبطلين؟
كذلك لا ريب يتحدث وجيهنا أو عالمنا إلى نفسه وهو يتصفح الرف ويطلع على عنوان الكتاب، وقد يستحق الكتاب الشراء والقراءة لإغاظة هذا الوقار المضحك إن لم يستحق الشراء والقراءة لغير ذلك! وهو يستحقهما لعدة أشياء.
أحسب أن التراجم والسير لا تكتب إلا لتوسيع أفق الحياة وتعديد جوانب الشعور، فأنت إذا وضعت أمامك عشرة آلاف إنسان في صف واحد، فكن على ثقة أن واحدًا منهم لا يخلو من مزية معدومة في الآخرين، أو موجودة فيهم على اختلاف في خصلة من الخصال، وكن على ثقة أنك إذا استطعت أن تتخيل هذه المزايا بألوانها وتنويعاتها، فقد استطعت أن تستوعب لنفسك عشرة آلاف حياة، وأن تبسط عمرك على هذا النحو إلى آلاف السنين، فلأجل هذا تقرأ كتب التراجم والسير وتقرأ القصص والروايات، وتشاهد الشخوص في المسارح، وفي السياحات، وفي كل مكان.
وكلما كانت الترجمة أغرب كانت أتم للغرض المقصود بكتابة التراجم، وأعون على توسيع جوانب الحياة، فلو استطاع كاتب أن يصور لنا سيرة النبات — فضلًا عن سيرة الأحياء وفضلًا عن سيرة الناس، وفضلًا عن سيرة العظماء والعظيمات من الناس — لكان هذا أبلغ في أداء غرض الترجمة من كتابة أخبار الفاتحين وذوي المظاهر؛ لأنه يمد الحياة الإنسانية حتى تشمل أبعد الكائنات الحية عن مشابهتها، وهي الأشجار والأغراس، فلا يخطئ الذي يكتب الأسفار عن امرأة قد أخذت من إعجاب الناس بأوفى نصيب، وعلمتهم أن للجسم مكانًا يرتفع إلى سماء الروح، بل كثير أن نقول «لا يخطئ» عمن يكتب في هذا الباب وهو المصيب الذي لا غرابة في عمله في غير عرف الوقار البليد، وقار العجماوات، أكرم الله السامعين.
وقد نعود إلى اختيار نبذ من هذه الرحلة الممتعة في مقال آخر؛ ولكننا نجتزئ الآن نبذة عن مصر التي زارتها أنا بافلوفا مرتين؛ لأن في هذه النبذة استكشافًا جديدًا عند بعض الناس الذين يكشفون للأمة غطاء المجهول!
قال الأستاذ ستير: «كان معظم النظارة من المصريين، وكان النساء يجلسن في مقاصير معزولة عن الرجال يكاد يغمرهن اللباس الأسود، ولا يسفر من وراء براقعهن إلا العيون، ومن هذه العيون بدت لي عينان اثنتان على الأقل لم يكن لي معهما قرار. فقد لمحت في المقاصير القريبة مني امرأة لا أقول عن أثر عينيها الثاقبتين في روعي إلا أنه كان ضربًا من التنويم والتخدير، ولا أعرف كيف كان هذا، ولا أذكر إلا أن النور الذي ينبهني إلى ابتداء العزف قد أومض أربع مرات واحدة بعد واحدة قبل أن أفيق لنفسي وأدري بما حولي. بل لقد نسيت حتى بعد هذه اليقظة فاتحة الدور الذي كانوا يحسبون أنني أديره!»
والأستاذ ستير الذي يقول هذا هو الرجل الذي رأى العيون في خمسين عاصمة من عواصم الحضارة أو تزيد، ففي كلامه ولا ريب كشف جديد للناظرين! نعم، في كلامه كشف جديد لحضرات الشعراء الذين يكشفون لهذه الأمة غطاء المجهول ولما يبصروا — وقد لا يبصرون أبدًا — أن في مصر عيونًا يتغزل بها المتغزلون وتغنيهم عن الرحلة إلى الرصافة وبوادي تهامة للتنقيب فيها عن المها والغزلان، ولا يشعرون — وهم الشعراء — بالعين الجميلة إلا إذا حملقت لهم في قصيدة بدوية من وراء ألف عام.