فورد الفيلسوف
هب أيها القارئ أن رجلًا يملك مائة مليون جنيه أعلن الناس أنه افتتح مستشفى لعلاج المرضى، وأنه هو سيعالجهم فيه بعلمه وخبرته وكفاءته الطبية التي خلاصتها كلها أنه يملك مائة مليون!
أو هب أيها القارئ أنه افتتح مطعمًا وأعلن الناس أنه يبيعهم فيه ما يطهوه بيديه ويبتكره من صنوف الطعام بتلك الكفاءة المطبخية التي خلاصتها أيضًا أنه يملك مائة مليون. هب أيها القارئ هذا أو ذاك فهل تظن أحدًا يجازف بصحته أو بمعدته ليعلم كيف يداوي المريض أو يطعم الجائع من كان في حوزته مائة مليون من الجنيهات؟ هل ترى أحدًا يسول له الفضول أن يجرب في نفسه كيف يشفيه أو كيف يغذيه من ليس له علم بأسباب الشفاء ولا علم بأصناف الغذاء؟
ربما …
ولا ضرر من «ربما» على كل حال، ولكنك تستطيع أن تجزم جزمًا لا «ربما» فيه أن الذين يفعلون ذلك لن يكونوا إلا من أصحاب الأطوار الغريبة والأمزجة التي لا يقاس عليها بين سواد الناس، فهم من قبيل أولئك الذين يجربون النافع والضار في أنفسهم؛ لأنهم ينشدون الاستطلاع بأي ثمن من مال أو صحة أو حياة، وليس هؤلاء بين خلق الله بالعدد الكثير.
لكن هب أن صاحب الملايين أعلن الناس أنه ألف لهم كتابًا في الفلسفة، سواء أكان في الفلسفة عامة أم في فلسفته هو خاصة، وأنه عرضه للبيع ونزل به مع المؤلفين في ميدان التأليف والنشر، فكم ألفًا يبيع من هذا الكتاب وكم قارئًا يقبل على مطالعته من طلاب الفلسفة وممن لا يطلبونها ولا يطيقون اسمها بالسماع؟
كم ألفًا يقرءون ذلك الكتاب؟
لا أسألك الدقة في العدد ولا أنوي أن أجعل لك جائزة على إصابة العدد الصحيح، فلك أن تقول عشرون ألفًا ولك أن تقول مائة ألف، ولكنك لن تنزل بالعدد عن هذا المقدار فيما أظن، ولا سيما إذا علمت أن المؤلف من الأمريكيين وأن مصنفه يكتب باللغة الإنجليزية.
فما سر هذا الاختلاف في نظر الناس بين معالجة الفلسفة ومعالجة المرضى وطهو الطعام؟ هل الفلسفة في نظرهم أسهل من الطب وأقرب منالًا من الطبخ أو من كل صناعة يستعد لها بالفطرة والتدريب؟ وهل كل صاحب ثروة مستطيع أن يكون فيلسوفًا لأنه ملك الملايين، ولكنه غير مستطيع أن يطبخ صنفًا من الخضر ولو كان قد ملك تلك الملايين؟
لا! لا إخال أحدًا من الناس يذهب إلى ذلك حين يضع يده في جيبه ليشتري الكتاب ويزيد بجملة أثمانه ثروة الغني الكبير، ولا هو يعنيه هل الكاتب فيلسوف أو غير فيلسوف؟ وهل هو ممن يحسنون الكتابة أو ممن لا يحسنون؟ ولكنه يشتري الكتاب راضيًا ويقرؤه وهو لا يبالي أخرج منه بفلسفة أم بهراء لا طائل وراءه، بل لعله لو كان على يقين أنه سيظفر منه بالفلسفة الصحيحة لما جشم نفسه عناء الاطلاع عليه، فهو يقرؤه لأن المال ينقل أصحابه إلى عالم من السحر والفتنة يخيل إليه أنه مختلف عن هذا العالم الذي يعيش فيه، وهو يريد أن يستطلع ذلك العالم بكل ما فيه من كمال ونقص، ومن فهم وسخف، ومن حقيقة وباطل، بل يقرؤه وهو راض غير مستضيع لدراهمه لو خرج منه على أن مؤلفه أسخف السخفاء وأبطل المبطلين، فإن تسخيف رجل عنده مائة مليون شيء يستحق في ذاته بضعة دراهم تدفع في ثمن كتاب! وربما كان تسخيفه أولى بالثمن من الإعجاب بفلسفته؛ لأن الدنيا لا تحتاج من صاحب الملايين أن يكون فيلسوفًا ولا من الفيلسوف أن يكون صاحب ملايين.
وأحسب أن الناس على حق في التفريق بين علاج المرضى وطهو الطعام وكتابة الفلسفة على هذا الاعتبار، فالذي يبخل ببضعة دراهم على صحفة يطبخها «فورد» أو «روكفلر» ويشترط عليه أن يأكلها كما يأكل الطعام الشهي السائغ، لا نحسبه مخطئًا في بخله بدراهمه القليلة، وكذلك الذي يبخل بمثل تلك الدراهم أو بضعفها أو ضعفيها على الطبيب فورد والطبيب روكفلر لا يكون من المخطئين في هذا التقتير، ولكن الذي يأبى شراء كتاب فلسفي يكتبه أحد هذين مخطئ ولا ريب في حق الفلسفة وفي حق الاستطلاع؛ لأنه يستفيد من الكتاب على الوجهين ويعرف منه ما يصح أن يعرف، سواء أكان علمًا أم جهلًا، وكلامًا يستحق الاطلاع أم كلامًا لا يستحق الاطلاع، وماذا عليه أن يتفرج ببضعة دراهم على السخافة التي تشهرها في أرجاء الدنيا مائة مليون من الجنيهات؟
لا أقول ذلك تعزية لنفسي على شراء الكتاب، فقد يحسن أن أسرع فأنهي إلى القارئ أنني حمدت شراءه ووجدته أطيب وأصدق من بعض المؤلفات التي لا عمل لأصحابها غير التأليف، ولكنني أقوله لأنه هو الباعث لي على تصفح الكتاب حين لمحت عنوانه، ولو أنني قرأت في موضعه «فلسفة متسول» لا «فلسفة فورد في الصناعة» لشريته للسبب عينه، ووثقت أنني لا أضع الثمن في غير موضعه؛ لأن ما فيه لا محالة مادة قراءة ولو لم يكن كاتبه بالكاتب المجيد.
أما الكتاب فهو كما قد عرف القارئ كتاب «فلسفتي في الصناعة» لمؤلفه «هنري فورد» صاحب السيارات المشهورة، وأما موضوعه فظاهر، ولكني لا أحسب القارئ يتخيل أن الفيلسوف هنري فورد يمتد بأفق الصناعة إلى ذلك الشأو الذي مدها إليه، وأي شأو؟ إنه يريد أن يطبق الصناعة على حياة بني الإنسان!
قال: «إن مسألة الطعام من أخطر المسائل التي علينا أن نتوفر على علاجها، وكلما انقضى يوم ازددت إيمانًا بأننا مكلفون أن نزيد الوقت الذي ننفقه في درس مسألة الطعام وكيف يؤكل، فأكثرنا يأكلون فوق ما يحتاجون إليه وكلنا يأكل غير الصنف الذي يصلح له في غير الوقت الذي يناسبه ثم ينتهي به الأمر إلى الألم والشكوى، نعم إن متوسط السن التي يعمرها الناس قد تضاعف في نصف القرن الأخير ولكني على يقين من أننا مهتدون يومًا إلى وسيلة نرم بها جسم الإنسان حتى يطول أجله من الاستمتاع بالصحة والنشاط والذكاء. خذ مثلًا «أديسون» فإنه الآن لعلى مثل ما كان عليه من يقظة الذهن في كل أوقات حياته، وكل ما لدينا من الأسباب خليق أن يؤكد لنا أننا سنقدر على تجديد أجسامنا على النمط الذي نجدد به عوار المراجل البخارية، فقبل زمن غير بعيد كنا نطرح مراجلنا جانبًا لأن الصدأ يوهي سطوحها في بعض المواضع، فما هو إلا يسير من الدرس في هذه المسألة حتى اهتدينا إلى وسيلة لرمها ترد القديم منها كالجديد وتعيده إلى العمل أقوى مما كان أول مرة، والذي نريد أن نصل إليه هو أننا إذا وفينا التفكير حقه في هذه الوجهة فلا ندري لماذا لا نقدر على مثل ذلك في رم جسم الإنسان، فلا قانون يمنعه ولا حائل يحول دونه، وليست المسألة الكبرى هنا إلا أن تتوجه نية الناس إلى هذه الوجهة وأن تصحح الرغبة في الاستفادة من كل ما يؤدي إلى ذلك بعد علمه.»
هذه إحدى حكم الكتاب، فهل هي قليلة الغَناء في حياة الفرد أو في حياة بني الإنسان كافة؟ إننا لعلى يقين من تقصير الناس في هذه الوجهة، وأنهم لا ينفقون من وقتهم ولا من علمهم وعملهم في تهذيب الطعام عُشر ما يجب عليهم جميعًا أن ينفقوه، ومن استخف بهذا الأمر وظن به السهولة والاستغناء عن الدرس والتجربة الطويلة، فليعلم أن تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من علماء الناس وجهلائهم يعيشون ويموتون وهم لا يعلمون ماذا يأكلون وكيف ومتى يأكلون، وأنه إذا استطاع إنسان باحث في هذا الموضوع أن يعرف في مدة عشرين سنة ماذا يأكل وكم يأكل وكيف يأكل وفي أي وقت يكون ذلك؟ فأحسبه من أسعد السعداء المدعو لهم بالتوفيق.
ومن حِكم الفيلسوف فورد قوله: «لجمع المال وسيلتان: إحداهما على حساب الآخرين، والثانية بخدمة الآخرين، والأولى لا توجد المال ولا تخلق شيئًا، وإنما هي تجلب المال ولا تفلح في كل حين، ثم لا يكون الرابح فيها إلا من الخاسرين، وأما الثانية فجزاؤها مضاعف والغُنم فيها للآخذ والمعطي على السواء، وهي لا تأخذ شيئًا إلا إذا خلفت شيئًا ثم هي لا تأخذ مع هذا إلا بمقدار، إذ ما من أحد له الحق في كل شيء.»
وقد تسمع نغمة الاشتراكية من كلام هذا المليونير الكبير، إذ يقول: «ليس الذي يثير الحرب وطنية الوطنيين ولا استهانة بني الإنسان بالموت في الذود عمن يحبون، إنما يثيرها ذلك الوهم الذي وهِمه القليلون وفهموا منه أن الحرب كلمة مرادفة للغنيمة. هذا هو الذي يثير الحرب ولا يتاح له من دعاة السلم العدد الكفيل بإظهاره وتصويب الحملة إليه، وحسبك أن ترى دعاة السلم سالمين وادعين؛ لتعلم أنهم لا يصوبون الحملة إلى الصميم؛ إذ لو كانوا ينطقون بالحقيقة لما دللوهم كما يدللونهم الآن ولا كان نصيبهم إلا نصيب شهداء الحق في كل زمان.»
وقِس على ذلك سائر ما في هذا الكتاب الصغير مما يستكثر، والحق يقال على أدباء أمريكا «الرسميين» في هذه الأيام، إلا أن صاحبنا فورد — وهو من رجال العمل — يخَطِّئ معظم الناس في فهم طبيعة النظريات ويحسب أن هناك نظريات تقال ولا يعمل بها في حال من الأحوال، ومن قوله في هذا: «لا يعلم أحد ماذا كنا بالغيه من سوء المنقلب لو أننا اتبعنا كل نظرية وكل داعٍ من الدعاة يمنينا بالعصر السعيد.»
فهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت في هذه الدنيا ولم تُتَّبع حقها من الاتباع؟ وهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت أو ستظهر بعد حين يحق لها أن يتبعها جميع الناس في جميع الأحوال؟ إن النظريات لا توجد لتُتَّبع كلها، ويتبعها الناس كلهم وإلا ما كان اسمها النظريات، وهي كذلك لا توجد لتُهمل كلها ويهملها الناس كلهم وإلا لما كان لها قط وجود، وإنما النظريات في الذهن كالطرائق والمسالك في المكان، فنحن لا نأخذ بنظرية واحدة ولا نسلك في شارع واحد، وإذا رسمنا الدنيا العقلية أو الدنيا المكانية فنحن لا نرسم تلك بأقرب النظريات وحدها ولا نرسم هذه بأقرب المسالك وحدها، ولكننا نرسم كل ما نراه قريبه وبعيده وسهله ووعره عسى أن نسلك فيه بعض الأيام، وإن كنا لا نلتفت إليه في أكثر الأيام، وما لي أسلك الطريق القريب وعندي فراغ من الوقت وبي حاجة إلى الطواف مثلًا والتنزه في الخلاء؟ إن القريب في هذه الحالة لن يكون من طلبتي ولا سبب لذلك إلا أنه قريب!
فالنظريات لا تؤخذ جملة ولا ترفض جملة، ولا معنى لقسمتنا إياها إلى متبع في كل حال ومهجور في كل حال، فليس في طرقات الفكر، ولا في طرقات المكان ما يقسم هذا التقسيم، وهذه وتلك موجودة أبدًا لا قديم في أصولها ولا حديث، ولكنها تُسلك أو تُترك على حسب الأوقات والغايات.