وسنعود إلى تفصيل ذلك في الكلام عن نظام الهيئة الاجتماعية في المملكة الإسلامية في
جزء آخر من هذا الكتاب، وإنما أشرنا إلى ذلك هنا لبيان مقدار تعصب العرب في دولة بني
أمية على غير العرب ولو كانوا مسلمين.
(٣-١) أجور العمال
وكان عمال بني أمية يجورون على أصحاب الأرض من أهل الذمة في التحصيل ونحوه، لا
يهمهم بقي لهم من المحصول شيء أم لا، وكان الخراج يومئذ على المساحة، فيؤخذ على
الأرض مال معين زرعت أم لم تزرع، وكان من شروط الخراج أن يستبقى لأصحاب الأرض ما
يجبرون به النوائب والحوائج، ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان
يستأذنه في أخذ تلك البقية منهم فأجابه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على
درهمك المتروك، وأبقِ لهم لحومًا يعقدون بها شحومًا.»
٣٣
والظاهر أن الضغط على أهل القرى وأصحاب الأرض حمل بعضهم على الإسلام احتماء به
فأصبحوا من الموالي، فلم يمنع ذلك تحصيل الخراج والجزية منهم فألزمهم
الحجاج
٣٤ الخراج مع أنهم تنازلوا عن مغارسهم لأهلهم وغادروا القرى وسكنوا
الأمصار فرارًا من تلك الضرائب، فأمر الحجاج بردهم وطالبهم بالخراج لأن المسلمين
كانوا إلى ذلك الحين لا يقيمون إلا في المدن التي بنوها هم، وأهل البلاد الأصليون
يقيمون في القرى للزرع والحرث، فمن اعتنق منهم الإسلام رفع الخراج عن رأسه، وصار ما
كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه، يؤدون عنها ما كان يؤدي من الخراج كما تقدم،
وينزل هو إلى الأمصار كالكوفة والبصرة والفسطاط.
ففعل ذلك في أيام الحجاج جماعة كبيرة، ربما التمسوا به النجاة من الضغط فإذا هو
ملاقيهم، وكتب الحجاج إلى الأمصار: «أن من كان له أصل في قرية فليرجع إليها لتؤخذ
منه الجزية والخراج»، فعل ذلك في أيام ابن الأشعث فخرج الناس وهم يبكون وينادون:
«يا محمداه! يا محمداه!» ولا يدرون إلى أين يذهبون، فاضطروا إلى الانضمام للأشعث
على الحجاج.
٣٥
ولم تكن تلك المعاملة خاصة بالحجاج من عمالهم، فقد فعله مثله أيضًا يزيد بن أبي
مسلم عامل يزيد بن عبد الملك على إفريقية
٣٦ وكذلك فعل الجراح في خراسان
٣٧ وغيره فيما وراء النهر
٣٨ وكان أهل سمرقند قد أسلموا على أن ترفع الجزية عنهم، فظلوا يأخذونها
منهم فعادوا إلى دينهم.
أما النصارى وغيرهم من أهل الذمة الذين ظلوا على دينهم فيكفي في تمثيل حالهم
اعتبار ما تقدم من معاملة الذين أسلموا منهم، فكانوا يسومونهم العذاب في تحصيل
الجزية، ورأى هؤلاء أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من ذلك، فعمد بعضهم إلى التلبس
بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم، فأدرك العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية
على الرهبان، وأول من فعل ذلك منهم عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء
الرهبان، وفرض على كل راهب دينارًا
٣٩ وهي أول جزية أخذت من الرهبان، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في تاريخ بني
أمية.
•••
ولم يكن ذلك كل ما اقترفوه في سبيل جمع المال، فإنهم زادوا الخراج عما كان عليه
في أيام الراشدين، بدأوا بذلك من أيام معاوية فأراد أن يزيد قيراطًا، فكتب إلى
وردان مولى عمرو بن العاص أمير مصر أن: «زد على كل امرئ من القبط قيراطًا»، فكتب
إليه: «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا أزيد عليهم؟»
٤٠ ولعل عمرًا لم يطعه في ذلك لأن مصر طعمة له، فلما انتقلت إلى خلفاء بني
أمية بعد عمرو زادوا في الخراج ما شاءوا، وأشهر من فعل ذلك عبيد الله بن الحبحاب
متولي الخراج من قبل هشام بن عبد الملك (سنة ١٠٥–١٢٥ﻫ) فإنه زاد على القبط قيراطًا
في كل دينار فلم يصبر القبط على ذلك، وكانوا لا يزالون هم السواد الأعظم، فثاروا
فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم جمعًا كبيرًا، وحدث نحو ذلك على يد أسامة بن زيد
التنوخي متولي الخراج فإنه أوقع في النصارى وأخذ أموالهم، وكثر الالتجاء إلى
الرهبنة في أيامه فأراد أن يمنع ذلك لأنه يضر في الخراج والجزية، فأحصى الديور
والرهبان كافة ووسم أيدي الرهبان بحلقة من حديد فيها اسم الراهب واسم الدير
وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وألزم كل نصراني بمنشور يحمله يدل على أنه
أدى ما عليه، وكتب إلى العمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه
عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم
وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب.
٤١
على أن ذلك لم يكن برضى الخليفة، فلما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك كتب إلى عامله
بمصر أن يجري النصارى على عوائدهم وما في أيديهم من العهود، ولم يطل العمل بهذا
الأمر فعاد العمال إلى ظلمهم، وفي جملتهم حنظلة بن صفوان فإنه زاد في الخراج وأحصى
الناس والبهائم، وجعل على كل نصراني وسمًا صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع
يده.
٤٢
وقس على ذلك أمثلة كثيرة من شدة عمال بني أمية على أهل الذمة والموالي وغيرهم من
العرب.
•••
ومن أمثلة ما اقترفه بنو أمية من زيادة الخراج والجزية أن أهل الجزيرة بالعراق
كانت جزيتهم دينارًا، ومُدَّين قمحًا، وقسطين زيتًا، وقسطين خلًّا في العام، فلما
تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك، فبعث إلى عامله فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم
عمالًا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه
وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد
أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعًا وجعلها طبقة واحدة.
٤٣
ولم تكن ضرائبهم قاصرة على أهل الذمة والموالي، ولكنها شملت العرب المسلمين
أنفسهم، وذلك أن محمدًا أخا الحجاج بن يوسف لما تولى اليمن أساء السيرة وظلم
الرعية، وأخذ أراضي الناس بغير حقها وضرب على أهل اليمن خراجًا سماه «الوظيفة»،
فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله هناك بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على
العشر.
٤٤
وكان عمال بني أمية في فارس يخرصون الثمار على أهلها؛ أي يحزرون مقدارها، ثم
يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون به، فيأخذونها قرفًا على قيمتهم التي
قدروها.
٤٥
وكان من أساليبهم في الاستكثار من الأموال ضرب الضرائب على الأرض الخراب، وكانوا
يفرضون على الأهالي هدية في عيد النيروز بلغت في أيام معاوية ١٠٠٠٠٠٠٠
درهم
٤٦ وفرضوا مالًا على من يتزوج وعلى من يكتب عرضًا
٤٧ وكانوا يكيلون للعامل بكيل وللأكار بكيل آخر، ويكلفون أهل الخراج أرزاق
العمال، وأجور المدى وحمولة الطعام، وثمن صحف وقراطيس، وأجور الكيالين ومؤونتهم،
وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: «هذا
رواجها وصرفها.»
٤٨
•••
ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائمًا، بل كثيرًا ما
كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان، وكان ذلك شأنه
في تحريض عماله على جمع الأموال وهم يخترعون له الطرق للاستكثار منها
٤٩ وكذلك فعل من جاء بعده وخصوصًا عبد الملك؛ لأنه كان شديد الحاجة إلى
المال ومناه الله بالحجاج فلم يترك وسيلة في استخراج المال إلا اتخذها، أما لو أراد
الخلفاء إبطال هذه المظالم لهان عليهم إبطالها؛ لأن العمال في أيام عمر بن الخطاب
كانوا يرتكبون مثل ذلك فلا يسكت عمر عنهم.
ولما جار عمال الأهواز في أيامه شكاهم أبو المختار يزيد بن قيس بقصيدة، بين فيها
أرباحهم من أهل الرساتيق والقرى وسماهم في قصيدته، وحرض عمر على مقاسمتهم ما ربحوه،
إلى أن قال:
فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني للشهادة إنني
أغيب ولكني أرى عجب الدهر
فبعث عمر إليهم فقاسمهم شطر أموالهم حتى أخذ نعلًا وترك نعلًا، ولم يكتفِ بمقاسمة
العمال ولكنه قاسم بعض إخوتهم، فاعترض هؤلاء، فقال أحدهم لعمر: «إني لم أَلِ لك
شيئًا.» فقال له: «أخوك على بيت المال وعشور الأبلة وهو يعطيك المال تتَّجِر به.»
فأخذ منه عشرة آلاف.
٥٠
•••
وكانت مشاطرة عمر عماله حجة اتخذها معاوية بعد ذلك في مشاطرة العمال، فلم يكن
يموت له عامل إلا شاطر ورثته وهو يقول: «إنها سُنَّة سنها عمر.» ثم تدرج إلى
استصفاء أموال الرعية، وهو أول من فعل ذلك.
٥١
فالعمدة في حفظ النظام على الرأس، فإذا صلح صلحت الأعضاء، فقد رأيت أن خلفاء بني
أمية طلبوا المال لقيام دولتهم بأي وسيلة كانت، فأمدوا العمال بالسلطة وأطعموهم
فعمد هؤلاء إلى إحراز الأموال إلى أنفسهم أيضًا، واقتدى بهم العمال الصغار كالكاتب
والجابي ونحوهما، فزادت شكوى أصحاب الأرض فاضطر العمال إلى إخراج أعمال الجباية من
العرب وتسليمها إلى الموالي، ومنهم الدهاقين أصحاب الضياع في العراق، فعل ذلك ابن
زياد عامل الخراج سنه ٦٤ﻫ فعاتبه بعضهم فأجابه: «كنت إذا استعملت العربي كسر
الخراج، فإذا أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا
أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأوهن بالمطالبة منكم، مع
أني جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدًا.»
٥٢
•••
وفي كلام القاضي أبي يوسف في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق
التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها، قال: «بلغني أنه قد يكون في حاشية
العامل أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرارٍ ولا
صالحين، يستعين بهم ويوجههم في أعماله يقتضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يوكلون
بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال
الرعية، ثم إنهم يأخذون ذلك كله — فيما بلغني — بالعسف والظلم والتعدي، ويقيمون أهل
الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما
يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام.»
٥٣
وكان شأن بني أمية وعمالهم وجباتهم على نحو ما تقدم حين تولى الخلافة عمر بن عبد
العزيز سنة ٩٩ﻫ وكان تقيًّا منصفًا، فأراد أن يرد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام
سميِّه وجده لأمه عمر بن الخطاب، فأصدر أوامره إلى العمال بإبطال تلك المظالم
وعينها بأسمائها مفصلة
٥٤ وأبطل لعن علي على المنابر وكان أهله قد اقتنوا الضياع وأخذوا كثيرًا
منها من أهل الذمة بغير حق، ففتح بابه للناس وأعلن: «أن من كانت له ظلامة فليأتِ.»
فأتاه المظلومون وفيهم النصارى واليهود والموالي وغيرهم، ومنهم من يشتكي اختلاس
ماله، وآخر اغتصاب ضيعته، وكان ينصفهم بالحق والعدل ولو كان الحكم على ابنه أو
أخوته أو أبناء عمه، قال ابن الأثير: «وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن
أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه ولا هم أن يعطونيه، وإني قد هممت برده على
أربابه، قال: فكيف تصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله
٥٥ وأخذ أموال أعمامه وأولادهم وسماها «مظالم»،
٥٦ فلما رأى أهله ذلك خافوا على سلطانهم، وهو إنما قام بالمال فإذا خرجت
الضياع والأموال من أيديهم ذهب ضياعًا، فمشوا إلى عمته فاطمة بنت مروان وشكوه إليها
فأتته فقال لها: «إن الله بعث محمدًا
ﷺ رحمة ولم يبعثه عذابًا إلى الناس
كافة.»
٥٧
ولما رأى الموالي عدله وتقواه اغتنموا الفرصة وشكوا إليه ما يقاسونه من الذل
والضغط، وكان الجراح بن عبد الله الحكمي عامل خراسان قد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز
في الشام وفدًا: رجلين من العرب ورجلًا من الموالي، فتكلم العربيان والمولى ساكت
فقال له عمر: «ما أنت من الوفد؟» قال: «بلى» قال: «فما يمنعك من الكلام؟» فقال: «يا
أمير المؤمنين، عشرون ألفًا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا
من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم
حفيًّا، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إليَّ من مائة من غيرهم، وهو بعد
سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان.»
٥٨ فقال عمر: «أَحْرِ بمثلك أن يوفد» وكتب إلى الجراح: «انظر من صلى
قِبَلَكَ فضع عنه الجزية.» فرغب الناس في الإسلام وتسارعوا إليه فقيل للجراح: «إن
الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورًا من الجزية فامتحنهم بالختان.» فكتب الجراح إلى
عمر بذلك فأجابه: «إن الله بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه خاتنًا.»
٥٩
وفعل عمر نحو ذلك مع عامله على مصر حيان بن شريح، وكان حيان قد كتب إليه: «أما
بعد فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار أتممت
بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه:
«أما بعد فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف ضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك
على رأسك عشرين سوطًا، فَضَعِ الجزيةَ عمن أسلم، قبَّح الله رأيك، فإن الله بعث
محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في
الإسلام على يديه.»
٦٠
•••
وقس على ذلك عماله الآخرين، فإنه عزل من لم يوافقه منهم فأصبحت الدولة ورجالها
كلها ضده؛ لأنه حاول إصلاح الأمور بالعنف دفعة واحدة والطفرة محال، وما في بني أمية
وعمالهم إلا من كره ذلك منه، فلم يصبروا على خلافته، وانتهت خلافته في ظروف غامضة
سنة ١٠١ﻫ/٧٢٠م ويعده المؤرخون من الخلفاء الراشدين، وإذا قالوا «العمرين» أرادوه
وعمر بن الخطاب.
٦١
فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف
والرفق، ولكن تطبيق هذه القواعد اختلف باختلاف الذين يتولون شؤونها، ولو أتيح لعمر
بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما كانت عليه في عهد ابن الخطاب لامَّحت مظالم بني
أمية، ولكنه جاء في غير أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها
ورافقها رد الفعل فصارت إلى أشد مما كانت عليه قبله، وبالغ العمال في الاستبداد
والعسف وشددوا في استخراج الخراج وزادوه، حتى اضطر بعض أصحاب الأرض إلى الإلجاء؛ أي
أن يلجئوا أراضيهم إلى بعض أقارب الخليفة أو العامل تعززًا به من جباة الخراج كما
سيأتي.
أما الخلفاء فإنهم زادوا انغماسًا في الترف، وأولهم يزيد بن عبد الملك فإنه انقطع
إلى اللهو والخمر، واشتغل عن مصالح الدولة بجاريتيه: سلامة، وحبابة وحديثهما
مشهور،
٦٢ وخلفه أخوه هشام وكان بخيلًا، وفي أيامه زيدت الضرائب في مصر على يد
الحبحاب كما تقدم، وجاء بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مثل أبيه في اللهو
والخمر فقتله أهله وولوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة ١٢٦ﻫ، وكان عازمًا على
إصلاح الأمور اقتداءً بعمر بن عبد العزيز، كما يؤخذ من خطاب ألقاه عند
مبايعته،
٦٣ فأصابه من الفشل نحو ما أصاب عمر؛ لأن الأحوال كانت غير ملائمة، وفي
أيام خلفه مروان بن محمد تغلب بنو العباس وصارت الخلافة إليهم.
وكان بنو أمية قد انغمسوا في الترف واللهو
والخمر، وأصبحوا لا ينظرون إلى ما يؤيد سلطانهم ولا يبالون في انتقاء عمالهم، وربما
ولوا العامل عملًا بإشارة جارية أو مكافأة على هدية كما فعل هشام بن عبد الملك
بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى امرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت
هشامًا فأهدى هشامًا قلادة أخرى فولاه هشام على خراسان سنة ١١١ﻫ
٦٤ وبلغ ثمن الجارية في أيام بني أمية ١٠٠٠٠٠٠ درهم وهي الذلفاء
٦٥ وأصبح العمال لا هَمَّ لهم إلا حشد الأموال والاستكثار من الصنائع
والموالي، ولم يعد أهل العدل يرضون بولاية الأعمال مخافة أن يقصروا بالمال الذي
يطلبه الخلفاء، كما حدث ليزيد بن المهلب لما ولاه سليمان بن عبد الملك العراق، فقال
يزيد في نفسه: «إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى
قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت كالحجاج، أدخل على الناس الحرب وأعيد
عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آتِ سليمان بمثل ما جاء به
الحجاج لم يقبل مني.»
٦٦ وقس على ذلك رأي غيره ممن يؤثرون الرفق، فلم يرغب في الولايات إلا أهل
المطامع، وجعل الخلفاء من الجهة الأخرى يطمعونهم بالرواتب الفادحة، فبلغ رزق يزيد
بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أواخر أيام بني أمية ٦٠٠٠٠٠ درهم
٦٧ وكان العمال يبذلون جهدهم في اختزان الأموال لأنفسهم لعلمهم أن الولاية
غير ثابتة لهم، فكثرت أموالهم واتسعت ثروتهم فبلغت غلة خالد القسري أمير العراق في
أيام هشام ١٣٠٠٠٠٠٠ درهم
٦٨ أي نحو مليون دينار، فأصبح الخلفاء لا يعزلون عاملًا من عمله إلا
حاسبوه على ما عنده من المال، وكانوا في أيام معاوية يشاطرون العمال اقتداء بعمر بن
الخطاب، ثم صاروا يحاكمونهم ويستخرجون كل ما تصل إليه معرفتهم من أموالهم، كما
فعلوا بخالد القسري إذ وشى به كاتبه حيان النبطي أنه فرق ٣٦٠٠٠٠٠٠ درهم، فبعث هشام
إليه من أخرج معظم هذا المال منه ومن عماله
٦٩ ويسمون هذا العمل «استخراجًا» وكانوا يستخدمون الشدة فيه فوقع بين
العمال والخلفاء تنافر زاد الخطر على دولة بني أمية.
أما ارتفاع الدولة الإسلامية في أيام بني أمية، أي مقدار ما كان يجتمع لهم من
الخراج والجزية وغيرهما، فقد ضاع تفصيله في جملة ما ضاع من أخبارهم في الفتن، على
أن المملكة الإسلامية بلغت في أيامهم اتساعًا عظيمًا يعدل اتساعها في أيام
العباسيين، ولكن عمدتهم كانت على العراق والجزيرة والشام ومصر، وأما الأطراف فقد
كان خراجها يذهب بين العمال والكتاب والجباة، على أن كثيرًا منها لم يكن يدفع شيئًا
يستحق الذكر؛ لأن قدم الأمويين لم تكن راسخة فيها.
•••
واختلفت جباية العراق والشام ومصر باختلاف السنين والعمال، وقد فصلنا ذلك في
الجزء الأول من هذا الكتاب، وخلاصته أن متوسط جباية العراق في أيامهم نحو ١٣٠٠٠٠٠٠٠
درهم وجباية مصر ٤٠٠٠٠٠٠ دينار (أو ٤٨٠٠٠٠٠٠ درهم) وجباية الشام ١٧٢٠٠٠٠ دينار (أو
٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم) فيكون ارتفاع هذه البلاد نحو ١٩٨٠٠٠٠٠٠ درهم يضاف إليه أموال البلاد
الأخرى مما لا نعرف مقداره.
وخلاصة ما تقدم أن الأموال كانت تستخرج في أيام بني أمية بكثرة، ولكنها لا تسمى
ثروة؛ لأنها كانت تصرف في الحروب لتأييد شوكتهم، فقد حاربوا عليًّا، والحسين بن
علي، والمختار بن أبي عبيد، وعبد الله بن الزبير، وحاربوا الخوارج وغيرهم، ناهيك
بما كان يقوم من الفتن بين القبائل العربية اليمنية والمضرية وبين العرب والموالي،
فضلًا عما كان ينفقه الخلفاء والأمراء في البذخ واللهو والقصف.