أسباب الثروة العباسية
من القضايا البديهية أن مثل هذه الثروة لا يتأتى إلا إذا كان الدخل كثيرًا وكانت النفقة قليلة، والثروة المشار إليها عبارة عن الباقي من إسقاط الخرج وهي سبل النفقة ونرى الفرق بينهما، ونبين أسباب كثرة الأولى وقلة الثانية.
(١) مصادر الجباية
- (١)
الصدقة أو الزكاة.
- (٢)
الجزية.
- (٣)
الخراج.
- (٤)
المكوس (الفردة).
- (٥)
الملاحات والأسماك.
- (٦)
أعشار السفن.
- (٧)
أخماس المعادن (أي المناجم).
- (٨)
المراصد (الجمارك).
- (٩)
غلة دار الضرب.
- (١٠)
المستغلات.
- (١١)
ضرائب الصناعة وغيرها.
على أن العمدة في زيادة الثروة إنما هي على الخراج، حتى إنهم سموا مجموع الجباية خراجًا بإطلاق البعض على الكل، فإذا قالوا خراج فارس مقداره كذا وكذا أرادوا مجموع جبايتها من كل الضرائب، وعليه فلنبحث أولًا في الخراج وسبب كثرته في العصر العباسي الأول، ثم نلم بالضرائب الأخرى على وجه الاختصار.
(١-١) أسباب كثرة الخراج
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، ولكثرته في الدولة العباسية أسباب أهمها أربعة، وهي:
سعة المملكة العباسية
لما كان المعول في مقدار الجباية على الخراج، فجباية المملكة تتعاظم بزيادة مساحة أرضها وخصب تربتها، والمملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول كانت عظيمة الاتساع جدًّا، بل هي أوسع ممالك التمدن القديم (وخصوصًا إذا اعتبرنا إسبانيا منها) إلا مملكة الإسكندر فربما قاربتها.
أسماء البلاد | الدولة التابعة لها سنة ١٩٠٣ | مساحتها بالأميال |
---|---|---|
المجموع | ٣٣٢٨٠١٤ | |
إيران كلها | شاه العجم | ٦٢٨٠٠٠ |
أفغانستان | مستقلة | ٢١٥٠٠٠ |
بلوجستان | إنجلترا | ١٣٠٠٠٠ |
السند | إنجلترا | ٤٨٠٠٠ |
تركستان روسيا فقط | روسيا | ٢٥٧٠٠٠ |
بلاد القوقاز «تفليس» | روسيا | ١٥٣٠٠ |
أرمينية وكردستان | تركيا | ٧٢٥٠٠ |
العراق، الجزيرة | تركيا | ١٠٠٢٠٥ |
سوريا، فلسطين | تركيا | ١٠٩٥٠٩ |
جزيرة العرب «منها» | تركيا | ٢٠٠٠٠٠ |
القطر المصري | تركيا | ٤٠٠٠٠٠ |
النوبة وبعض السودان | السودان | ٣٠٠٠٠٠ |
طرابلس الغرب | تركيا | ٣٩٨٠٠٠ |
جزائر الغرب | فرنسا | ١٨٤٥٠٠ |
تونس | فرنسا | ٥١٠٠٠ |
مراكش | مستقلة | ٢١٩٠٠٠ |
فمجموع مساحة هذه المملكة ٣٣٢٨٠١٤ ميلًا مربعًا، وذلك نحو مساحة أوربا كلها، فخراج ممالك أوربا لو جباه المسلمون لم يزد على خراج مملكتهم، فاعتبر عدد تلك الممالك وفيها أعظم دول الأرض اليوم، فلو كان اعتماد تلك الدول في جبايتها على الخراج لما استقام أمرها، وإنما عمدتها على ضرائب المشروبات الروحية والجمارك كما تقدم.
على أن سعة المملكة العباسية لا تكفي وحدها لتعليل ثروتها؛ لأن المملكة العثمانية بلغت من السعة في أيام السلطان سليمان القانوني ما يقرب من سعة مملكة بني العباس، ومع ذلك فإن الجباية في أيامه لم تزد على ٢٨٤٣٧٥٠ جنيهًا مصريًّا كما رأيت، وإنما ساعد الدولة العباسية على ذلك اهتمام الناس بالزراعة ونقل الضرائب وخصب الأرض وغير ذلك.
اشتغال الناس بالزراعة
وأدلة عدل الخلفاء العباسيين الأولين وتقواهم ورفقهم كثيرة، فقد كان المهدي يجلس للمظالم فينصف الناس من عماله وقضاته وأهله، وأخبار الرشيد في العدل أكثر من أن تحصى، وكان إذا ذكروا الظلم بين يديه بكى، من أمثلة ذلك أنه كان قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينًا يأتيه بما يقول، فرأوه يومًا قد كتب على الحائط:
فأخبر بذلك الرشيد، فبكى وأحضره واستحله وأعطاه ألف دينار.
وله مع أبي العتاهية حديث أغرب من هذا، وهو أن الرشيد أولم وليمة ووضع طعامًا، وطلب إلى أبي العتاهية أن يصف ما هم فيه من النعيم، فقال:
السواد
وكان ماء دجلة يجري قديمًا عبر مجراه اليوم، أي أنه كان يجري مثل مجراه اليوم من بغداد جنوبًا إلى المدائن فالدير فالعاقول فجرجرايا فجابول إلى ماذرايا، ومن هناك ينعطف غربًا حتى يسير سيرًا عموديًّا إلى فم الصلح فواسط، حتى يصب في البطائح حيث يلتقي بالفرات ومنها إلى دجلة العوراء بقرب البصرة، ومنها إلى خليج فارس قرب عبادان، ثم يجري بعد ذلك من ماذرايا شرقًا، ثم ينعطف جنوبًا شرقيًّا على ما هو عليه اليوم، وكان الفرات فرعين: أحدهما بجانب الكوفة، والآخر شرقيها، وكلاهما يصب في البطائح.
البطائح
خراسان
مصر
ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية، فإن العدالة توطد دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل، فتعمر البلاد، ويرفه أهلها، ويكثر خراجها، اعتبر ذلك بمصر وتاريخ جبايتها، فقد كان عدد سكانها عند الفتح الإسلامي نحو ٢٠٠٠٠٠٠٠ نفس على ما أجمع عليه مؤرخو العرب، ويستبعد أهل زماننا إمكان هذا.
أما كلوت (بك) فإنه أعظم ذلك؛ لأن إحصاء هذا القطر كان على عهد كتابه (سنة ١٨٤٠) ٣٠٠٠٠٠٠ نفس فقط، على أنه لما ذكر هذا الإحصاء أظهر إعجابه بزيادة سكان وادي النيل في عهد محمد علي عما كانوا عليه في أيام المماليك.
أما في أيام الأمراء المماليك قبله فلم يكن يزيد عدد سكان مصر على ٢٠٠٠٠٠٠ نسمة، ولا نظن الأرض المزروعة فيها كانت تزيد على مليون فدان وبعض المليون بالنظر إلى ما كان يقاسيه المصريون من استبداد الأمراء المماليك، فلما استقرت الأحوال في العصر الحديث تزايد السكان واتسعت مساحة الأرض المزروعة حتى بلغت الآن ٥٥٠٠٠٠٠ فدان (سنة ١٩٠٣) وسكانها نحو عشرة ملايين وهم آخذون في الزيادة، وبالطبع إن مقدار الجباية يزداد بزيادة العمران وكثرة السكان، وهما لا يكونان إلا في ظل العدل الصحيح، اعتبر ذلك في جباية مصر بالنظر إلى الدول والعصور فترى أنها تمشت على هذه القاعدة تمامًا:
ميدة أو نصف | |
---|---|
١٦٧٧٣٤٥١ | الباقي |
الوارد | |
٨٠٤٦٠٠٦٨ | مال الميري على القرى والأوقاف |
١٠٨٧٠٧٧٣ | مال الميري على الإيراد |
٢٢٨١١٨٠٥ | مال الميري على الصنائع والمأكولات |
٢٥٠٩٠٨١ | مال الميري على الرؤوس |
١١٦٦٥١٧٢٧ | مجموع الوارد |
الخارج | |
٢٩٣٩٢٤٧ | نفقات كبار الموظفين |
٢٩٧٧٢٦٥٧ | نفقات الجند |
٢٦٥٣٥٨٥ | نفقات مختلفة |
٨٤٣٨٩٩٤ | نفقات العلماء والتعليم ووقفيات |
١٣٨٩٢١٣٩ | نفقات رجال الدين والجوامع ونحوها |
٤٢٠٧١٦٥٤ | نفقات الحج |
٩٩٨٦٨٢٧٦ | مجموع الخارج يستخرج من مجموع الوارد أعلاه |
ميدة أو نصف | |
---|---|
٩٢٨٣٤٥١ | الجملة |
٣٠٠٠٠٠٠ | ترميم قلاع القاهرة |
١٥٠٠٠٠٠ | ترميم قلاع سائر القطر |
٢٠٠٠٠٠٠ | أثمان سكر وخلافه |
٢٧٨٣٤٥١ | نفقات أخرى يأمر بها شيخ البلد |
ثقل الخراج المضروب
كان الخراج المضروب على الأرض في المملكة العباسية يختلف نوعه باختلاف البلاد، فبعضها بالمساحة، أي أن يضربوا على المساحة المعلومة من الأرض مالًا معينًا في العام، سواء زرعت تلك الأرض أم لم تزرع، والبعض الآخر بالمقاسمة، أي أن يكون الخراج جزءًا من حاصل الأرض بعد زرعها واستغلالها، فما لم يزرع لا يطالب بخراجه، وكلٌّ من خراج المساحة والمقاسمة درجات وفئات سيأتي بيانها، ولما كان السواد (أو العراق) أهم أقاليم المملكة العباسية بالنظر إلى الخراج بدأنا به.
السواد
فإذا اعتبرنا القفيز بثلاثة دراهم كان الجريب بثلاثين درهمًا، يؤخذ عليه أربعة دراهم أي نحو ١٣ وثلث في المئة، وهو خراج خفيف جدًّا، لولا أن كثيرًا من الأجربة تبقى بلا زرع ويدفع أصحابها الخراج عنها.
فترى مما تقدم أن خراج السواد كان ثقيلًا بالنظر إلى ما كان عليه في أيام الراشدين على المساحة؛ لأنهم كانوا يأخذون على الجريب أربعة دراهم ونسبة الجريب إلى الفدان كنسبة ١٢٦٠ : ٤٢٠٠ أو نسبة ١٠٠ : ٣٣٣ وثلث، فإذا كان على الجريب ٤ دراهم كان على الفدان ١٣ وثلث، وهو خراج زهيد بالنظر إلى ما يبقى بورًا فهو كثير، وربما كان المعدل في الحالين واحدًا، يدلك على ذلك أن الفرق في ارتفاع الخراج بين المساحة في أيام الراشدين والمقاسمة في إبان كثرتها لا يعتد به، أما بالنظر إلى هذه الأيام (سنة ١٩٠٣م) فإن ضرائب السواد ما زالت حتى في أيام المأمون تعتبر ثقيلة بالنسبة إليها؛ إذ ليس في العراق الآن أرض يزيد خراجها على خمس غلتها، وفيها جانب كبير يؤخذ منه العشر فقط، وفي لبنان ظاهر الخراج على المساحة ولكنه مؤسس على المقاسمة؛ لأنهم مسحوا الأرض وقسموها باعتبار ما يحصل من غلتها باختلاف المغروسات، فالأرض التي غلتها كيل زيتون أو حمل ورق توت أو بذار مد قمح أو ما تساوي قيمته ٣٦٠ قرشًا سموها سهمًا، وفرضوا على السهم ٢١ قرشًا إلا ربع قرش، فيكون الخراج ٦ في المائة فقط.
مصر
وقد رأينا في كتاب أحسن التقاسيم للمقدسي أنه: «ليس على مصر خراج، ولكن يعمد الفلاح إلى الأرض فيأخذها من السلطان ويزرعها، فإذا حصد ودرس وجمع رُشِمَت بالعرام وتُرِكت، ثم يخرج الخازن وأمين السلطان فيقطعان (أي يأخذان) كرى الأرض ويعطيان ما بقي للفلاح»، ولكن ذلك كان خاصًّا بالأرض التي كانت الحكومة تقبلها أي تضمنها وليس لها مالك، وقد تكون في الأصل لبعض القواد أو العمال من الروم الذين قتلوا في الحرب أو هربوا، فبقيت حلالًا لبيت المال كما تقدم، فيضمنها الحاكم ويأخذ ضمانتها عينًا أو نقدًا.
بلاد أخرى
(٢) سائر مصادر الجباية
- (١) أعشار السفن: هي ضريبة ذات بال، كان يرد منها إلى بيت المال مبالغ وافرة، لم نعثر على تفصيلها ولا وقفنا على مقدار ما كان يجبى منها في العصر العباسي، ولكن يؤخذ مما نعلمه من اتساع التجارة في تلك الأيام، بين العراق وسائر أقطار الدنيا حتى الهند والصين، أن السفن كانت كثيرة وأحمالها ثمينة، وقد ذكروا تاجرًا واحدًا من تجار البصرة في القرن السادس للهجرة اسمه حسن بن العباس، له مراكب تسافر إلى أقصى بلاد الهند والصين، بلغ مقدار ما يتحصل من ضرائبها ١٠٠٠٠٠ دينار في العام٤٥ فاعتبر ذلك وقس عليه غيره في البصرة وغيرها من ثغور الإسلام، وفيها ما يكون أكثر دخله من أعشار السفن، فقد كان ضمان أعشار المراكب في عدن في القرن الرابع ٢٠٠٠٠٠ دينار،٤٦ وضمانها في القرن السادس ١١٤٠٠٠ دينار٤٧ والظاهر أن جباية تلك الأعشار كانت في العصر العباسي أقل مما صارت إليه بعد ذلك؛ لأننا نرى في جريدة علي بن عيسى التي كتبها للخليفة المقتدر سنة ٣٠٦ﻫ أن ضرائب المراكب في البصرة بلغت ٢٢٥٧٥ دينارًا، وقد تقدم أن أضعاف ذلك كان يتحصل من أحد تجارها بعد قرنين.
- (٢) أخماس المعادن: كانت المعادن عندهم ضربين: ظاهرة، وباطنة، فالمعادن الظاهرة ما كان جوهرها المستودع فيها بارزًا، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، فهذه لا يجوز إقطاعها؛ لأنها كالماء والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه (ومن قبيل ذلك أراضي المراعي والكلأ والآجام)، وأما المعادن التي في باطن الأرض فهي ما كان جوهرها مستكنًّا فيها، فهذه كانت الحكومة تقطعها لمن يستخرجها، ولها الخمس مما يخرج منها،٤٨ ونظرًا لسعة المملكة العباسية فقد كانت المناجم فيها عديدة، ومنها الذهب والفضة والنحاس والزئبق والفيروز والزبرجد وغيرها، وهاكَ أمثلةً منها ومن أماكن وجودها:كانت في خراسان معادن الذهب والفضة والفيروز والرخام وطين الختم والنوشادر والزئبق٤٩ وفي ما وراء النهر معادن الذهب والفضة والزئبق لا يكاثره معدن في الغزارة والكثرة٥٠ وفي بلاد فارس عامة المعادن: الفضة والحديد والأنُك والكبريت والنفط والصفر والزئبق، وبغربي أصبهان معدن الكحل٥١ وفي كرمان مدينة اسمها دمندان كان فيها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر٥٢ ومن هذا القبيل مغاوص المرجان بسواحل إفريقيا الشمالية، وهو شيء كثير كانوا يوسقون من منجم واحد منه خمسين قاربًا أو أكثر، وفي كل قارب عشرون رطلًا٥٣ وفي سوريا معادن الحديد، كانت بجوار بيروت، والمغرة الجيدة في حلب وجبال الحمر في مكان آخر، ومعدن الرخام في فلسطين، ومعدن الكبريت في الأغوار٥٤ وفي مصر معادن الشب بالصعيد، وكانت العربان تحضره من مناجمه إلى ساحل أخميم وأسيوط والبهنسا، ويحمل منه إلى الإسكندرية أيام النيل، وكانوا يبيعون منه تجار الروم نحو ١٢٠٠٠ قنطار بسعر أربعة دنانير لكل قنطار إلى ستة، وكذلك النطرون في البر الغربي للنيل وفي غيره كان يستخرج منه كل سنة ١٠٠٠٠ قنطار، وكان يضمن في بعض الأحوال ضمانًا تبلغ قيمته ١٥٥٠٠ دينار.٥٥وفي النوبة مما يحاذي أسوان معدن الذهب المشهور، قال ابن حوقل: «والمعدن ليس من أرض مصر، ولكنه في أرض البجة وينتهي إلى عيذاب، والمعدن أرض مبسوطة لا جبل فيها وهي رمال ورضراض ومجمع تجارهم العلاقي.»٥٦ وفي بلاد الغرب مما يلي سجلماسة معادن الذهب والفضة، وكذلك في ما وراء ذلك إلى بلاد السودان،٥٧ وكان في صعيد مصر جنوبي النيل (كذا) معدن الزبرجد في برية منقطعة عن العمارة،٥٨ وفي البحرين بخليج فارس مغاوص اللؤلؤ، وفي صنعاء مناجم العقيق وبين ينبع والمروة معادن الذهب، وعلى شواطئ عدن ومخا (في اليمن) العنبر.٥٩هذه أمثلة مما كان في المملكة العباسية من المعادن تمثيلًا لما كان يجبى من أخماسها إلى بيت المال، وكانوا يقطعون هذه المعادن إقطاعًا أو يضمنونها تضمينًا بمال معين، وقد يكون ذلك المال كثيرًا، من أمثلة ذلك أن معادن الفيروز في نيسابور بلغت ضمانتها في أواسط القرن الرابع للهجرة ٧٥٨٧٢٠ درهمًا.٦٠
- (٣) الجزية والزكاة: كانت الجزية في صدر الإسلام كثيرة، ثم تناقصت بدخول الناس في الإسلام، والزكاة كان لها شأن كبير في أول الإسلام، ثم قلَّتْ أهميتُها، وسيأتي بيان ذلك.
- (٤) المكوس والمراصد: وهما تقابلان الجمارك والعوائد في هذه الأيام، وكانوا يأخذون ضريبة من كل تجارة واردة في البحر أو البر، مهما يكن نوعها من الأنسجة أو المحصولات أو المصنوعات أو الرقيق أو غيره، وكان يحصل لهم من ذلك مال كثير، ولا نعلم مقدار ما كان يجمع منه، ولكن يظهر أنها كانت تختلف باختلاف الزمان والمكان، وربما اختلفت في البلد الواحد باختلاف الزمان، وفي الزمن الواحد باختلاف البلاد مما لا يمكن حصره، وإنما نأتي بما شاهده شمس الدين المقدسي بنفسه في مصر في أواسط القرن الرابع للهجرة من الضرائب التي كانت تؤخذ في تنيس ودمياط، قال: «وأما الضرائب فثقيلة بخاصة تنيس ودمياط وعلى ساحل النيل، وأما الثياب الشطوية فلا يمكن القبطي أن ينسج شيئًا منها إلا بعد ما يختم عليها بخاتم السلطان، ولا أن تباع إلا على يد سماسرة قد عقدت عليها، وصاحب السلطان يثبت ما يباع في جريدته، ثم تحمل إلى من يطويها، ثم إلى من يشدها بالقشر ثم إلى من يشدها في السفط، وإلى من يحزمها، وكل واحد منهم له رسم يأخذه، ثم على باب الفرضة (أي الميناء) يؤخذ شيء، وكل واحد يكتب على السفط علامته، ثم تفتش المراكب عند إقلاعها، ويؤخذ بتنيس على زق الزيت دينار ومثل هذا وأشباهه، ثم على شط النيل بالفسطاط ضرائب ثقال، رأيت بساحل تنيس ضرائبيًّا جالسًا قبل قبالة هذا الموضع (يجمع) في كل يوم ألف دينار، ومثله عدة على سواحل البحر في الصعيد وساحل الإسكندرية، وبالإسكندرية أيضًا على مراكب الغرب، وبالفرما على مراكب الشام، ويؤخذ بالقلزم من كل حمل درهم.»٦١وذكر ابن حوقل: أنه كان يتحصل مما يخرج من أذربيجان إلى نواحي الري ولوازم على الرقيق والدواب، وأسباب التجارات والأبقار والأغنام ١٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة.٦٢
على أن هذه الضرائب وأمثالها لم يكن لها رواج في أوائل الدولة العباسية، ولا كانت غلتها تستحق الذكر، ولكن دخلها تعاظم في عصر الاضمحلال.
- (٥) المستغلات وغلة دار الضرب: يراد بالمستغلات ما يجبى لبيت المال من أسواقٍ أو منازلَ أو طواحينَ، ابتناها الناس في أرض تربتها للسلطان (أي يملكها السلطان) فيؤدي عنها أجرة٦٣ وذكر ابن خرداذبة مبلغ غلات الأسواق والأرحاء ودور الضرب في مدينة السلام بغداد ١٥٠٠٠٠٠ درهم في السنة،٦٤ وبلغت غلات ومستغلات سامرا وأسواقها ١٠٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة.٦٥
فالدولة العباسية في إبان زهوها كانت تجبي من هذه الضرائب شيئًا كثيرًا، ولكن العمدة كانت على الخراج كما تقدم.
(٢-١) صدق العمال في إرسال المال المجموع
ومما ساعد بني العباس في أوائل دولتهم على حفظ نظام أعمالهم، وإجماع العمال على ولائهم سدادُ رأي وزرائهم، وخصوصًا البرامكة، فإنهم كانوا واسطة عقد تلك الدولة، وزهرة تمدنها، وكذلك كان الفرس على الإجمال؛ لأنهم كانوا يعدون استيلاء بني العباس عليهم رحمة من الله كانوا يتوقعونها منذ أعوام للتخلص من بني أمية واحتقارهم إياهم.
وهناك أسباب أخرى لكثرة جباية الدولة في أيام المأمون؛ كقلة الحروب والفتن، فإنها مذهبة للأموال، مضيعة للخراج، مفسدة للأعمال، لاشتغال الناس عن الزراعة والتجارة وإنفاق الأموال في الجند.
(٣) أسباب قلة النفقة
فرغنا من الكلام عن أسباب كثرة الخراج في الدولة العباسية بالقياس على أيام بني أمية، وهذه الأيام (سنة ١٩٠٣) وهي القسم الأول من أسباب الثروة العباسية، فلنأتِ إلى القسم الثاني وهو قلة النفقة، وأهم أسبابها ثلاثة:
(٣-١) قلة الموظفين
يختلف عدد الموظفين في مصالح الحكومة باختلاف نمط تنظيمها، ويقال بالإجمال: إنهم أقل عددًا في الحكومات الاستبدادية منهم في الحكومات المقيدة؛ لاستغناء الحكم المطلق عن تدوين كل شيء وضبطه لمراجعة النظر فيه، اعتبر ذلك في المحاكم القضائية، ومقدار الفرق بين عدد موظفيها في عهد الأحكام العرفية، وبينهم في عهد الأحكام القانونية، وقس عليه سائر مصالح الحكومة والسبب فيها متشابه، ويكفي لبيان هذا الفرق مقابلة عدد موظفي الحكومة المصرية قبل نظامها الحالي بعددهم اليوم.
كانت حكومة مصر قبل دخول الفرنسيين إليها (في أواخر القرن الثامن عشر) لا تزال على نحو ما رتبها عليه السلطان سليم الفاتح وابنه السلطان سليمان.
- (١)
الكخيا: وهو نائب (الباشا) وكاتم سره.
- (٢)
الدفتردار: وهو ينظم في الخراج ويقابل ناظر المالية عندنا.
- (٣)
أمير الخزنة: وهو يحمل إلى الأستانة ما يخصها من خراج مصر.
- (٤)
أمير الحج: وهو يتولى قيادة الحج إلى الحجاز.
- (٥)
ثلاثة قباطين لقيادة ثغور السويس ودمياط والإسكندرية.
- (٦)
خمسة مديرين لأقاليم جرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية.
وهناك أربعة كشاف لأقاليم القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم، وأعمالهم مثل أعمال البكوات مديري الأقاليم الأخرى.
ومن المصالح الأخرى القاضي وأمير الضربخانة والمحتسب.
وكان الجند عبارة عن ست فرق تسمى وجاقات وهي:
-
(١)
وجاق المتفرقة: وهو مؤلف من نخبة الحرس السلطاني.
-
(٢)
وجاق الجاويشية: وهو مؤلف في الأصل من صف ضابطان جيش السلطان سليم فعهد إليهم جباية الخراج.
-
(٣)
وجاق الهجانة.
-
(٤)
وجاق التفقجية: وهم ناقلو البنادق.
-
(٥)
وجاق الانكشارية: وهم أخلاط من نخبة القبائل الخاضعة للدولة العثمانية، وكانوا يعرفون أيضًا بالمستحفظين لإناطة محافظة البلاد بهم.
-
(٦)
وجاق العزب.
هذه خلاصة نظام الحكومة المصرية المركزي، ولا ترى عدد الموظفين فيه يزيد على خمسين (ما عدا الجيش)، فإذا اعتبرنا ما يلحقه من الكتَّاب والنوَّاب وغيرهم ربما بلغ إلى ٢٠٠ أو قل ٣٠٠ أو ٤٠٠، وهو يقابل في هذه الأيام نظارات الحكومة ومجلس النظار والمعية ومصلحة الصحة والبوليس وسائر المصالح، مما يربو عدد موظفيها على ألفين كما يأتي:
عدد | |
---|---|
٢٢٤٥٤ | (الجملة) |
١١٢١ | المعية وتوابعها |
١٨ | مجلس النظار |
٢٦ | مجلس الشورى |
٢٤ | نظارة الخارجية |
٤١٩ | نظارة المالية |
٤٢٤ | نظارة المعارف |
١٨٦ | نظارة الداخلية |
٢٧٦٠ | نظارة الحقانية |
٦٢٩ | نظارة الأشغال |
٣٣٠٦ | نظارة الحربية |
١٧١٥ | مصالح إدارة الأقاليم وماليتها |
٦٦٤٤ | مصلحة البوليس |
٥٢٦ | مصلحة الصحة |
١٠٥ | مصلحة السجون |
١٥ | مصلحة منع الرقيق |
٣٦ | مصلحة الدفترخانة |
٥١٠ | مصلحة الجمارك |
٢١٨ | خفر السواحل |
١٤٠ | الدخوليات (الجمارك) |
٤ | مصايد الأسماك |
١٣ | الرسالة |
١٩٣٨ | السكة الحديدية |
٣٢٧ | التلغرافات |
٢٩ | ميناء الإسكندرية |
٥٥٠ | البوستة |
١٠٣ | الفنارات |
٦ | الليمانات |
١٥ | التمغة للمصاغات |
٣٠١ | مكاتب تابعة للمعارف |
١١ | الكتبخانة الخديوية |
٤ | الأنتكخانة |
١٤ | المطبعة الأهلية |
٩٠ | أملاك الميري الحرة والمشتركة |
٢٢٧ | القومسيون البلدي |
عدد | |
---|---|
٢٩٦٨ | (الجملة) |
١٩٣٨ | السكك الحديدية |
٣٢٧ | التلغرافات |
٢٩ | ميناء الإسكندرية |
٥٥٠ | مصلحة البوستة |
١٠٣ | الفنارات |
٦ | الليمانات |
١٥ | قلم التمغة |
ومصالح إدارة الأقاليم وعدد موظفيها ١٧١٥، كان المجموع ٤٦٨٣، وبإخراجه من العدد الأصلي يبقى ١٧٧٧١ وهو عدد موظفي الحكومة المصرية في نظاراتها ومصالحها ما عدا الجيش، فاعتبر الفرق العظيم بين هذا العدد وبين ما كان عليه في أيام المماليك، وقس عليه عدد موظفي الحكومة في الدولة العباسية.
على أن ذلك يتضح من مراجعة قائمة نفقات الدولة العباسية، فإنك ترى معظم أصحاب الرواتب هناك من الجند، وخَدَمَةِ البلاطِ، والحرس الخاص، والغلمان، والحشم، والفراشين، وأصحاب الصيد، ونحوهم، وليس من عمال الحكومة الحقيقيين إلا جزء صغير وهم المعبر عنهم «بأكابر الكتاب»، وأصحاب الدواوين، والخزان، والبوابين … إلخ، وعبد الله بن سليمان (الوزير)، وإسحق بن إبراهيم القاضي، والفرسان، ونفقات السجون، والعلوفة، ونحو ذلك، ولا نظن نفقات الحكومة على مصالحها الحقيقية تزيد على نصف ذلك المال (أي ١٢٥٠٠٠٠ دينار) مع أن نفقات الحكومة المصرية الآن على مصالح الإدارة والتحصيلات وحفظ النظام فقط تزيد على ٣٢٥٠٠٠٠ جنيه، وما مصر بالنظر إلى المملكة العباسية إلا جزء صغير، وأما سبب هذه الزيادة فمن كثرة الموظفين لما اقتضاه النظام الحديث من الضبط والتحرير كما تقدم.
على أن السبب في قلة نفقات الدولة العباسية من حيث الموظفين ليس قلة عددهم فقط، ولكنَّ هناك سببًا آخر ذا بال، أعني تسديد أرزاق بعض العمال من مال يوفرونه ولا يدخل في باب الوارد؛ فقد رأيت أن أرزاق أكابر الكتاب وأصحاب الدواوين والخزان … إلخ ١٥٦ وثلثا دينار في اليوم، غير أن هؤلاء ليسوا كل موظفي الدواوين بل هم الكبراء فقط، ويتضح ذلك من قوله هناك: «سوى كُتَّاب دواوين الإعطاء وخلفائهم على مجالس التفرقة، وأصحابهم وأعوانهم، وخزان بيت المال، فإنهم يأخذون أرزاقهم مما يوفرون من أموال الساقطين، وغرم المخلين بدوابهم.» ويدل ذلك أيضًا على اختصار الحسابات مما لا يرتكبه في هذه الأيام أصغر الباعة إذا أراد ضبط حسابه فضلًا عن دوائر الحكومة، فإن أموال الساقطين وغرم المخلين كان يجب أن تدون في أبواب الوارد، وتدون رواتب أولئك الموظفين في باب النفقات، وعلى أننا نستبعد أن لا يكون لهذه القيود محل في دفاتر الحكومة العباسية، وأنها أسقطت من هذه القائمة حبًّا في الاختصار أو لأسباب أخرى.
(٣-٢) عدم وجود الدين على الحكومة
جنيه | |
---|---|
٣٠٣٠٠٠٠٠٠٠ | (الجملة) |
١٢٥٠٠٠٠٠٠٠ | فرنسا |
٧٠٠٠٠٠٠٠٠ | إنجلترا |
٢٠٠٠٠٠٠٠٠ | روسيا |
٢٠٠٠٠٠٠٠٠ | الولايات المتحدة |
١٢٨٠٠٠٠٠٠ | الدولة العثمانية |
١٢٠٠٠٠٠٠٠ | النمسا |
١٠٣٠٠٠٠٠٠ | مصر |
١٠٠٠٠٠٠٠٠ | ألمانيا |
٩٣٠٠٠٠٠٠ | هولندا |
٥٤٠٠٠٠٠٠ | الصين |
٤٨٠٠٠٠٠٠ | اليابان |
٢٢٠٠٠٠٠٠ | إيطاليا |
١٢٠٠٠٠٠٠ | إسبانيا |
وقد تراكمت هذه الديون على تلك الدول بتوالي الأجيال، بما احتاجت إليه من النفقة في الحروب، أو في إنشاء المشروعات الكبرى، أو نحو ذلك مما لم تكن الدولة العباسية في غنى عنه، ولكنها كانت في أيام زهوها تنفق مما تدخره من فضلات الجباية كما تقدم. فلما قلت الجباية وكثرت أسباب النفقة في طور الاضمحلال، ولم يبق في بيت مالها ما تنفقه في الحروب عمدت إلى استخراج الأموال من أهل الثروة، وخصوصًا من كبار موظفيها كالوزراء، والعمال، والكتاب الذين أثروا من مالها بالاختلاس ونحوه، وسموا ذلك مصادرة كما سيأتي.
على أن الدولة العباسية كانت في بعض الأحيان تستسلف المال من بعض التجار في مقابل أوراق لم يحل أجلها، وأكثر ما كانوا يفعلون ذلك مع اليهود، وهم أقدر الناس على المرأباة كما لا يخفى، وبلغ مقدار الربا الذي كانوا يأخذونه على تلك القروض نحو ٢٠ في المائة، فقد كان علي بن عيسى وزير المقتدر في أوائل القرن الرابع الهجري إذا احتاج إلى المال، وليس له وجه استسلف من التجار على سفاتج وردت من الأطراف، ولم تحل بعد.
(٣-٣) اقتصاد الخلفاء الأولين وتدبيرهم
من الأمور المقررة في التاريخ السياسي أن مؤسسي الدول ومن يتلوهم من الأمراء الأولين يغلب فيهم الاقتصاد والتدبير، ولولا ذلك لم يَتَأَتَّ لهم إنشاء الدول أو تثبيت دعائمها، ويعبر فلاسفة التاريخ عن ذلك بصبوة الدولة، والصبوة تدعو إلى النمو بالادخار، فإذا بلغت الدولةُ شبابَها وتَمَّ نموُّها عادت ناكصة على عقبيها، كما يتقهقر المرء إلى الكهولة فالشيخوخة، فالدولة العباسية نشأت في حوزة السفاح طفلةً، فتناولها المنصور صبية فغذاها وأنماها حتى أدركت شبابها في أيام الرشيد والمأمون، ثم تقهقرت إلى الكهولة فالشيخوخة فالهرم في أيام الخلفاء الذين أتوا بعد ذلك.
•••
قضى المنصور مدة خلافته، ولم يُرَ في داره لهو ولا شيء يشبه اللهو أو اللعب، أو العبث، إلا مرة، كان في مجلسه فسمع جلبة فأمر حمادًا التركي وكان واقفًا على رأسه أن يبحث عن سبب ذلك، فمضى فرأى خادمًا من خدم المنصور وقد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فعاد حماد وأخبر المنصور فقال: «وأي شيء هو الطنبور؟» فوصفه له فقال: «وما يدريك أنت ما الطنبور؟!» فقال: «رأيته بخراسان»، فقام المنصور ومشى إلى الجواري فلما رأينه تفرقن خوفًا منه، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسَّرَ الطنبورُ، وأخرج الخادم فباعه.
•••
- (١)
سعة المملكة.
- (٢)
اشتغال الناس بالزراعة والتجارة لاطمئنان خواطرهم.
- (٣)
ثقل الخراج المضروب على الأرض.
- (٤)
صدق العمال في إرسالهم المال المجموع إلى بغداد.
- (١)
قلة الموظفين.
- (٢)
عدم وجود الدَّيْنِ.
- (٣)
اقتصاد الخلفاء الأولين.