أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
قلنا في بحثنا عن الثروة العباسية في العصر العباسي الأول وعلة كثرتها إن أسباب تلك الثروة كثرة الجباية، وقلة النفقة، وفصلنا ذلك تفصيلًا.
فأسباب قلة الثروة يجب أن تكون قلة الجباية، وكثرة النفقة، ولكل من هذين البابين فروع ولكل منها أسباب، هاك تفصيلَها:
(١) أسباب قلة الجباية
(١-١) ضيق المملكة العباسية
بلغت المملكة العباسية أكبر سعتها في أيام الرشيد والمأمون، ثم أخذت بعض الولايات تنفصل عنها لأسباب يطول شرحها، وأول ما استقل من الولايات العباسية إفريقية، بدأت بالاستقلال في أيام الرشيد كما تقدم، ثم خراسان في أيام المأمون، ثم مصر في أيام المعتمد في أواسط القرن الثالث للهجرة، ثم فارس وما وراء النهر وغيرها، ولم يمضِ الربع الأول من القرن الرابع حتى انقسمت تلك المملكة الواسعة إلى بضعة عشر قسمًا، كل منها في حوزة دولة من دول المسلمين، على أن معظم هذه الدول كانت تعد الخليفة العباسي رئيسها الديني وتؤدي إليه أموالًا، بعضها باسم الضمان، والبعض الآخر باسم المصالحة، والآخر باسم الهدية أو غير ذلك، وكان أكثرهم لا يؤدي ما عليه إلا مرة كل بضعة أعوام، وطبيعي أنَّ تَشتُّتَ المملكة على هذه الصورة يقلل مقدار الجباية.
(١-٢) تخفيض الخراج المضروب
فنرى من مجمل ذلك أن مواردَ الخراجِ ضعفت عما كانت عليه في عصر الرشيد والمأمون، وكان ذلك مساعدًا على تقليل الجباية.
الجزية والزكاة
(١-٣) استئثار العمال بالجباية
(١-٤) اشتغال الناس بالفتن والظلم عن العمل
لما نشأت الفتن، وانتشبت الحروب بين طوائف الجند، أو بينهم وبين العمال، انشغل الناس عن تجارتهم وزراعتهم، وتوقف العمال، وغلت الأسعار، وتعطلت الزراعة لضياع الأمن، فقلَّتِ الجبايةُ، واحتاج العمال والقواد إلى الأموال، فظلموا الناس في تحصيلها منهم فزاد الخراب، وما من هادم للعمران كالظلم، فإنه يغل الأيدي ويقعد الناس عن السعي، فينشغل به الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ووبال ذلك عائد على الدولة إذ لا قوام لها إلا بالرعية، والمشهور أن الظلم أخذ المال من يد مالكه بلا عوض ولا سبب، ولكنه أعم من ذلك كثيرًا، فإن كل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقًّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة … فإذا ساد الظلم أقبل الخراب لا محالة.
(١-٥) تحويل أكثر البلاد إلى ضِياع
يراد بالضِّياع عندهم المَزارع، أو ما يعبر عنه المصريون بالأبعادية أو العزبة، ويغلب في الضياع أن تكون لأهل الدولة من الخلفاء أو أقاربهم أو عمالهم أو وزرائهم أو كتابهم، أو مَنْ يلوذُ بهم من أهل النفوذ، وقد رأيت في هذا الجزء أن عمر بن الخطاب نهى المسلمين عن اتخاذ الزرع واقتناء الضياع؛ لحكمة أرادها من بقائهم على أهبة الرحيل عند الاقتضاء، لا يقعدهم الترف أو القصف، كما نهى عن اختزان المال في بيت المال، غير أن هاتين القاعدتين لم يطل العمل بهما إلا ريثما انتقلت الدولة الإسلامية من الخلافة الدينية إلى الملك العضوض في أيام بني أمية، فاختزن الصحابة الأموال واتخذوا المصانع (أي الدور المبنية) والضياع كما بيَّنَّاه هناك.
الإلجاء
الضياع السلطانية
- (١) الضياع الخاصة: وهي ما يملكه الخليفة نفسه لا يشاركه فيه أحد، وقد رأيت خراج هذه الضياع في جريدة علي بن عيسى — غير ما كان منها في نواحي واسط لأنه أضيف إلى أموال العامة — ٥١٦٤٤٧ دينارًا.
- (٢) الضياع العباسية: وهي في الغالب لبني العباس أهل الخليفة، وقد بلغ عددهم في أيام المأمون ٣٣٠٠٠ نفس٢٥ وبلغ خراج تلك الضياع سنة ٣٠٦ﻫ ١٤٤٧٦٠ دينارًا سوى ما هو منها في واسط.
- (٣) الضياع المستحدثة: قد رأيت خراجها في تلك السنة ٢٨٩٠٣٦ دينارًا.
- (٤) الضياع الفراتية: وسميت بذلك لأنها واقعة على ضفاف الفرات، وخراجها لذلك العام ٦١٧١٢٦ دينارًا.
الإيغار
(٢) أسباب كثرة النفقات
(٢-١) إسراف الخلفاء ونسائهم
ثروة نساء الخلفاء
•••
الجواري والغلمان
السخاء
هل كانوا يفعلون ذلك حقيقة؟
فهذا وأمثاله يحسبه أهل هذا الزمان من قبيل الخرافات بالقياس على ما يعلمونه من القواعد الاقتصادية، على أننا لا نظنهم يقولون ذلك بعد ما تبين لهم من مقدار الثروة العباسية، ومقدار ما كان يبقى من الأموال تحت تصرف الخلفاء، أو من يقوم مقامهم كالوزراء والكتاب، إلا إذا شككنا في حقيقة تلك الثروة وهو شك في التاريخ على إجماله؛ لأن المؤرخين على اختلاف عصورهم ومواطنهم متفقون على ما بيناه من هذا القبيل كما رأيت.
ثم إننا إذا اعتبرنا نظام الهيئة الاجتماعية في تلك الأيام على ما سنفصله في الأجزاء التالية من تأثير الشعراء ونحوهم في مركز الخليفة نفسه هان علينا تصديق ما كانوا ينالونه من الهِبَاتِ الكبرى، على أننا نعرف بين أغنيائنا اليوم من يبذل ٥٠٠٠٠ جنيه و١٠٠٠٠٠ جنيه ثمن صورة أو قطعة من الآثار القديمة لا تنفع ولا تضر، وقرأنا بالأمس أن مورجان الأمريكي الشهير اشترى صورًا بمليون جنيه ليقدمها هدية لبعض المتاحف.
وزِدْ على ذلك أننا نستدل على صحة ما تقدم أيضًا من سياق بعض الوقائع المروية من هذا القبيل، مثل حديث المؤمل عن قدومه على المهدي وهو ولي عهد، قال: «قدمت على المهدي في الري وهو ولي عهد فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب إليه المنصور (أبوه) يعذله ويلومه ويقول له: «إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم.» — إلى أن قال — وبعث المنصور يستقدمني إليه حتى جئت ودخلت عليه فقال: «هيه! أتيت غلامًا غرًّا فخدعته …» فقلت: «نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا غرًّا كريمًا خدعته فانخدع.» فقال المنصور: «أنشدني ما قلت فيه.» فأنشدته (ثم ذكر القصيدة) ومطلعها:
هل كان الخلفاء يسرفون من أموالهم الخاصة؟
بقي علينا النظر فيما كان الخلفاء يهبونه من الجوائز ونحوها، هل كانوا يؤدونه من أموالهم الخاصة أم من بيت مال الحكومة المعبر عنه ببيت مال المسلمين؟ وهو موضوع مبهم لم نجد فيه قولًا صريحًا، على أن سكوت المؤرخين عنه يرجح أنهم كانوا يدفعون ذلك من بيت المال، ولا جناح فيه عليهم؛ لأن الإمام هو ولي بيت المال ينفقه فيما يرى فيه مصلحة المسلمين حسب اجتهاده، وقد يرى في إجازة الشاعر أو هبة العالم فائدة للدولة.
فهذا وأمثاله يدل على أن الخلفاء كانوا يهبون ويجيزون ويبذخون ويسرفون من بيت المال.
(٢-٢) تكاثر أبواب النفقة في الدولة
بيَّنَّا في الجزء الأول من هذا الكتاب كيف تدرجت الدولة الإسلامية في إدارتها منذ كان النبي ﷺ هو الأمير والقاضي والقائد حتى أصبح موظفو الحكومة في أيام الراشدين ستة، وما كان من تزايدهم بتزايد الحضارة واتساع المملكة في أيام بني أمية فبني العباس، وكانت تلك الإدارات تتكاثر عندهم بتكاثر الثروة وميل الخلفاء ورجال دولتهم إلى الترف والرخاء، فأصبحت في أيام الرشيد أكثر منها في أيام المنصور، وفي أيام المأمون أكثر منها في أيام الرشيد، وقس على ذلك تكاثرها في أيام من جاء بعدهم من الخلفاء، فقد قرأت في جريدة المعتضد من أصناف المرتزقين في بلاط الخليفة من الغلمان والمماليك وأصحاب المطابخ والجلساء وأصحاب الركاب، ما لم يكن له ذكر في صدر الدولة العباسية، وقس عليهم أصناف الخدم الخاصة من الأطباء والمغنين والندماء، مما لا يقع تحت الحصر، وكله قد اقتضاه الترف في حضارة الدولة.
وزد على ذلك أن بعض النفقات كانت تصرف أول الأمر من غير بيت المال، فصارت تصرف منه لأسباب كثيرة لا سبيل إلى معرفتها، إذ لم يرد نص صريح بشأنها، وإن كنا نستدل عليها ضمنًا من نصوص كثيرة، مثل ما نراه من الفرق بين جريدة النفقات في أيام المعتضد سنة ٢٧٩ﻫ وبين جريدة علي بن عيسى لعام ٣٠٦ﻫ فإنك تجد في هذه نفقاتٍ لا ذكر لها في تلك، مثل نفقات الحرمين، ورواتب القضاة في المماليك، وولاة الحسبة، وأصحاب البريد في جميع البلاد ونفقات الثغور، فإن هذه الأبواب غير واردة في تلك؛ لأن العمال كانوا يقومون بها من خراج أعمالهم كما أشرنا إلى ذلك، فلما ضعف الخلفاء وتمرد العمال اضطرت الدولة إلى دفعها من بيت مالها.
(٢-٣) زيادة الضرائب
ولم تقتصر زيادة النفقات على نشوء إدارات لم تكن من قبل، ولكن الإدارات القديمة زادت نفقاتها عما كانت عليه في أوائل الدولة، وطبيعي أنه إذا كثرت ثروة الدولة وسعت على رجالها وزادت رواتبهم وما يجري لهم من الأرزاق فإذا كانت تلك الدولة مؤسسة على أساس ضعيف لا تلبث أن تنحط ثروتها وتبقى الرواتب كما هي، فيقصر بيت المال في تأديتها فيضطروا إلى فرض الضرائب الفادحة واستخدام العنف في تحصيلها، فتضعف همة الناس عن العمل وتزداد البلاد فقرًا.
كان المسلمون في أيام النبي ﷺ وأبي بكر يرتزقون مما يقع في أيديهم من الغنائم، فتختلف حصة كل منهم باختلاف مقدار تلك الغنائم، حتى تولى عمر بن الخطاب ووضع الديوان وجعل لكل مسلم راتبًا معينًا في السنة وميزهم باعتبار أنسابهم وقرابتهم من النبي، أو سابقتهم في الإسلام وليس باعتبار ما يؤدونه من الأعمال؛ فقد يكون أحدهم كاتبًا أو عاملًا أو قاضيًا على السواء، فلما تفرعت إدارات الدولة وتميزت لم يَرَوا بدًّا من تعيين الرواتب باعتبار المناصب، فجعلوا لكل من الجندي والعامل والكاتب والحاجب والقاضي وغيرهم راتبًا معينًا، ولما حدثت الوزارة في الدولة العباسية جعلوا لها راتبًا كما جعلوا لسواها من المناصب المستحدثة.
واختلف مقدار راتب كل من هذه المناصب باختلاف الدول والعصور، فلننظر في تاريخ أشهر تلك المناصب باعتبار رواتبها بالنظر إلى ما نحن فيه.
رواتب العمال
رواتب الكُتَّاب
وكانت رواتب الكتاب إلى أيام المأمون مثل رواتب العمال الصغار، لا يزيد مقدارها في الشهر على ٣٠٠ درهم، فزادها الفضل بن سهل كما تقدم ولم نقف على مقدار تلك الزيادة، ولكن بالقياس إلى غيرها يجب أن تكون كثيرة، فضلًا عما كانوا يستولون عليه من الأخرجة اليومية.
رواتب الوزراء
رواتب القضاة
وأما في بغداد فلم نطلع على راتب القاضي في أوائل الدولة العباسية، ولكننا رأينا في جريدة المعتضد أن راتب القاضي ١٦ وثلثَا دينار في اليوم أو ٥٠٠ دينار في الشهر — بما فيه أجور عشرة من الفقهاء وخليفة القاضي — ومع ذلك فإنه راتب كبير بالنظر إلى رواتب قضاة هذه الأيام، فإن راتب شيخ الإسلام في الأستانة لا يزيد على ٥٠٠ ليرة عثمانية في الشهر، مع اعتبار الفرق في قيمة النقود بين تلك الأيام واليوم.
رواتب الخلفاء وأهلهم
جنيه إنجليزي | |
---|---|
٦٣٠٠٠٠ | |
١١٠٠٠٠ | راتب الملك |
١٢٥٨٠٠ | راتب خدم القصر |
١٩٣٠٠٠ | نفقات القصر |
٤١٢٠٠ | نفقات أخرى وتبرعات |
٤٧٠٠٠٠ | (جملة مخصصات الملك) |
١٦٠٠٠٠ | رواتب سائر أعضاء العائلة |
جنيه مصري | |
---|---|
٢٥٥٣٦١ | |
١٠٠٠٠٠ | مخصصات الخديو |
٩٧٩٢٧ | مرتبات العائلة الخديوية |
٥٧٤٣٤ | نفقات كابينة الخديو |
ولسلطان تركيا راتب مقداره في الشهر ٧٥٠٠٠ ليرة عثمانية، أو ٩٠٠٠٠٠ ليرة في السنة ما عدا النفقات والمخصصات (عام ١٩٠٢).
رواتب حاشية الخليفة
درهم | ||
---|---|---|
٤٩٠٠٠٠٠ | (الجملة) | |
من بيت مال العامة | ||
١٢٠٠٠٠ | راتب نقدي | |
٦٠٠٠٠ | النزل | |
١٨٠٠٠٠ | (المجموع) | |
من بيت مال الخاصة | ||
٥٠٠٠٠ | راتب نقدي | |
٥٠٠٠٠ | ثياب قيمتها | |
٥٠٠٠٠ | هدية على عيد صوم النصارى | |
١٠٠٠٠ | هدية على يوم الشعانين (ثيابًا قيمتها هذا المبلغ) | |
٥٠٠٠٠ | هدية على عيد الفطر نقدًا | |
١٠٠٠٠ | هدية على عيد الفطر (ثيابًا قيمتها ذلك المبلغ) | |
١٠٠٠٠٠ | لفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة ٥٠٠٠٠ | |
١٠٠٠٠٠ | لشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة ٥٠٠٠٠ | |
٤٢٠٠٠٠ | (المجموع) | |
من أصحاب الرشيد نقدًا وثيابًا وأطيابًا | ||
٥٠٠٠٠ | درهم من عيسى بن جعفر | |
٥٠٠٠٠ | درهم من زبيدة أم جعفر | |
٥٠٠٠٠ | درهم من العباسية | |
٣٠٠٠٠ | درهم من إبراهيم بن عثمان | |
٥٠٠٠٠ | درهم من الفضل بن الربيع | |
٧٠٠٠٠ | درهم من فاطمة أم محمد | |
١٠٠٠٠٠ | كسوة وطيب ودواب | |
٤٠٠٠٠٠ | (المجموع) | |
من البرامكة | ||
٦٠٠٠٠٠ | من يحيى بن خالد | |
١٢٠٠٠٠٠ | من جعفر بن يحيى الوزير | |
٦٠٠٠٠٠ | من الفضل بن يحيى | |
٢٤٠٠٠٠٠ | (المجموع) | |
٨٠٠٠٠٠ | غلته من ضياعه | |
٧٠٠٠٠٠ | من فضل مقاطعته |
درهم | |
---|---|
١٢٨٦٠٠٠٠٠ | والمجموع في الأصل ٩٠٠٠٠٠ دينار و٩٠٦٠٠٠٠٠ درهم |
٢٧٦٠٠٠٠٠ | جملة نفقاته على نفسه وبيته في ٢٣ سنة بمعدل ١٢٠٠٠٠٠ درهم في السنة |
٧٠٠٠٠٠٠٠ | ثمن دور وبساتين ومتنزهات ودواب ورقيق وغيرها |
٨٠٠٠٠٠٠ | ثمن آلات وأجر وصناعات ونحو ذلك |
١٢٠٠٠٠٠ | ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته |
٥٠٠٠٠٠ | ثمن جواهر وما أعده للذخائر |
٣٠٠٠٠٠٠ | ما أنفقه في البر والصلات والمعروف |
٣٠٠٠٠٠٠ | ما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه (أي أنكروه) |
رواتب الجند
الأفشين وبابك
•••
ناهيك بما كان يرتكبه الجند العباسي من اغتصاب أموال الناس في منازلهم وحوانيتهم لأقل سبب يحدث، والخلفاء لا يعدون ذلك ذنبًا لهم، بل ربما عنَّفوا الناس لأنهم لم ينقلوا سلعهم وأمتعتهم إلى مكان لا يعرفه الجند.
أما رواتب الجند العباسي، أي ما كانوا يتقاضونه قدرًا معينًا في العام، فقد تبين من قائمة نفقات الدولة في أيام المعتضد — على ما مر في هذا الكتاب — أن أرزاق الجند من الفرسان والمماليك ونحوهم لا تزيد على ١٥٠٠٠٠٠ دينار أو ٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم، ثم استفحل أمر الجنود الأتراك بتوالي الأعوام وتعددت فرقهم، وتزايدت رواتبهم مما لا يمكن حصره؛ لأنه يختلف باختلاف الأزمان والأحوال فضلًا عن سكوت المؤرخين في هذا الشأن إلا ما قد يتناولونه عرضًا.
رواتب الجند الآن
على أننا إذا اعتبرنا رواتب الجند الإسلامي على اختلاف عصوره من أيام الراشدين إلى أواخر الدولة العباسية، وقسناها برواتب جنود هذه الأيام (سنة ١٩٠٣) رأيناها تزيد عليها زيادة فادحة، فقد رأيت أن راتب الجندي في أيام الراشدين تراوح بين ٣٠٠ و٥٠٠ درهم في السنة، ثم صار أيام بني أمية ألف درهم، وتقلب في أيام العباسيين حتى صار في أيام المقتدر ١٤٤٠ درهمًا للراجل، و١٢٠٠٠ درهم للفارس في السنة، تلك رواتب أفراد الجند (الأنفار) عندهم مع أن راتب النفر في الدولة الإنجليزية للراجل شلن وللفارس شلن و٩ بنسات في اليوم، ومقدار ذلك في السنة نحو ٤٥٥ درهمًا (حوالي ١٩٩٠ قرشًا مصريًّا) للراجل و٣٥ جنيهًا مصريًّا للفارس، على أن رواتب الجند عندهم تختلف في كل من المشاة والفرسان باختلاف الفرق، ولكنها في كل الأحوال عظيمة بالنظر إلى رواتب الجند في الدول الأخرى، وأما بالنظر إلى الدولة العباسية فإنها صغيرة وخصوصًا إذا اعتبرنا قيمة النقود في الحالتين.
المشاة | الفرسان | |||||
---|---|---|---|---|---|---|
بنس | شلن | جنيه | بنس | شلن | جنيه | |
٨ | ٨ | الجنرال (المشير) | ||||
١٠ | ٥ | ١٠ | ٥ | الفريق | ||
٣ | ٣ | اللواء | ||||
١٨ | ٦ | ١ | ١ | أميرالاي | ||
١٨ | ٦ | ١ | ١ | قائمقام | ||
٧ | ١٣ | ١٥ | بكباشي | |||
٧ | ١١ | ١٣ | يوزباشي | |||
٦ | ٦ | ٦ | ٧ | ملازم أول | ||
٣ | ٥ | ٨ | ٦ | ملازم ثانٍ | ||
١ | ٩ | ١ | النفر |
رواتب الجند العثماني في الشهر (سنة ١٩٠٣) | رواتب الجند المصري في الشهر (سنة ١٩٠٣) | ||
---|---|---|---|
قرش عثماني | قرش مصري | ||
٢٥٠٠٠ | المشير | المشير (لا يوجد) | |
١٠٠٠٠ | الفريق | ٧٥٠٠ | الفريق |
٦٠٠٠ | اللواء | ٦٥٠٠ | اللواء |
٢٠٠٠ | أميرالاي | ٤٧٠٠ | أميرالاي |
١٨٠٠ | قائمقام | ٣٠٠٠ | قائمقام |
١٢٠٠ | بكباشي | ٢٥٠٠ | بكباشي |
٧٠٠ | قولاغاسي | ١٥٠٠ | صاغقو لاغاسي (هو الصاغ اليوم) |
٥٠٠ | يوزباشي | ٩٠٠ | يوزباشي |
٢٥٠ | ملازم أول | ٦٠٠ | ملازم أول |
٢٠٠ | ملازم ثانٍ | ٥٠٠ | ملازم ثانٍ |
٢٠ | نفر | ٣٠ | نفر |
رواتب أخرى
كانت سياسة الملك في تلك العصور تقتضي استرضاء بعض الناس ممن يخاف الخلفاءُ أقلامَهم أو ألسنتَهم أو أحزابَهم؛ لأن المملكة لم تكن تخلو من دعاة يطلبون الخلافة لأنفسهم من العلويين أو الخوارج أو غيرهم، والملك لا يخلو من حُسَّاد يترقبون فرصةً للانتقام، وكان للخطابة والحماسة يومئذ تأثير على الرأي العام أكثر مما للصحافة في هذه الأيام، فالخلفاء العقلاء كانوا يؤثرون ملافاة شرور المقاومين بالإحسان إليهم أو الرفق بهم، فيقطعون ألسنتهم بالجوائز الوقتية أو بالرواتب الجارية، كما يفعل ملوك هذه الأيام بالصحافة، فإن بعضهم يدفع الرواتب السنوية إلى أرباب الصحف في مقابل سكوتهم عنه، والبعض الآخر يبتاع مساعدتهم في إنهاض الهمم أو جمع كلمة الأحزاب، فالشعراء والخطباء ونحوهم كان شأنهم في تلك الأيام مثل شأن الصحافة اليوم، فلا غرابة إذا بذل الخلفاء الأموال لاسترضائهم.
عدد أيام الشهور
شرعت الدولة العباسية في زيادة الرواتب في إبان ثروتها، ولم تكن تشعر بثقل تلك الزيادة لوفرة الأموال الواردة على بيت المال، ثم ما لبثت أن رأت الجباية تتناقص ولم يعد في إمكانها إنقاص الرواتب بعد أن تعوَّدَ أصحابُها الإسرافَ والبذخَ واقتناءَ الخدمِ والمماليكِ اقتداءً بخلفائهم، ولم يعد في الإمكان كذلك إقالتهم خوفًا من غضبهم، فعمد الوزراء إلى حيلة حسنة اقتصدوا بها شيئًا كثيرًا من المال، وذلك أنهم جعلوا الرواتب مياومة، فإذا أرادوا تخفيض بعضها وكان مقدار الراتب ألف دينار في الشهر مثلًا، فبدلًا من أن يجعلوه ٨٠٠ دينار يبقونه على ما كان ويزيدون أيام ذلك الشهر فيجعلونها أربعين يومًا أو خمسين، فأصبح لكل فئة من الموظفين تقريبًا شهر خاص يختلف عدد أيامه عن أيام أشهر الآخرين.
فقائمة نفقات المعتضد المنشورة في هذا الجزء يختلف شهر كل من أصحاب الرواتب فيها عن شهر غيره، فالغلمان الذين أعتقهم الناصر كانت أيام شهورهم أربعين يومًا، فأساءوا الأدب في مطالبة كانت منهم فجعلها خمسين يومًا، ثم لما تولى المعتضد جعلها ستين يومًا، والفرسان الأحرار والمميزون كانت شهورهم خمسين يومًا فجعلها تسعين ونسبوا إلى التسعينية، ثم جعل شهور بعضهم ١٢٠ يومًا، وأشهر المختارين سبعون يومًا، وأشهر الفرسان المثبتين ١٢٠ يومًا، وكذلك المرتزقة برسم الشرطة بمدينة السلام والسقايين وقس عليهم سائر الموظفين في هذه القائمة وغيرها، فالذي راتبه ألف دينار في الشهر إذا جعل شهره ١٢٠ يومًا كأنه تنزل إلى الربع، وكثيرًا ما كان يعجز بيت المال عنها ويقصر عن تأديتها شهرًا بعد شهر حتى يثور الجند، فإما أن يخلعوا الخليفة، أو يقتلوه، ويفوز بالخلافة صاحب المال.
(٢-٤) النفقة على البيعة
•••
(٢-٥) استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم
ووشى بعض الناس إلى المهدي بذلك فاستدعاه، وقبض عليه وسجنه وظل في سجنه أعوامًا طوالًا.
وكان الوزراء يزدادون نفوذًا واستئثارًا بالمال بزيادة ضعف الخلفاء، حتى صارت معظم الأموال إليهم.
الوزراء
ومن غريب ما يحكى عن ارتشاء الوزراء أن الخاقاني وزير المقتدر بلغ من سوء سيرته في قبول الرشوة أنه ولَّى في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة، فانحدروا واحدًا واحدًا حتى اجتمعوا جميعًا في بعض الطريق، فقالوا: «كيف نصنع؟» فقال أحدهم: «ينبغي إن أردتم النصفة أن ينحدر إلى الكوفة آخرنا عهدًا بالوزير، فهو الذي ولايته صحيحة؛ لأنه لم يأتِ بعده أحد.» فاتفقوا على ذلك فتوجه الرجل الأخير نحو الكوفة وعاد الباقون إلى الوزير ففرقهم في عدة أعمال، وهجاه بعض الشعراء بقوله:
وكانت الأموال ترد على الوزراء من العمال وغيرهم من موظفي الدولة ضريبة في كل عام بصفة هدية استبقاء لرضاهم.
•••
وأما الأبواب التي كان وزراء الدولة العباسية يتكسبون منها تلك الأموال فكثيرة، من جملتها قبول الرشوة في التوظيف كما تقدم، وما يرد عليهم من هدايا العمال للسبب نفسه، ومنها اغتصاب الضياع بما لهم من النفوذ فيستولون على ما شاءوا بغير حساب، ناهيك بما كانوا يمدون إليه أيديهم من أموال الخراج الواردة إلى الديوان، وقد تقدم أن طرق دفاتر تلك الأيام لم تكن تمنع الاختلاس أو تظهره.
تلك كانت حال الوزراء وفي أيديهم الحل والعقد، ومع ذلك فالخلفاء هم المطالبون بأرزاق الجند، وقد علمت ما كان من أمر الأتراك واستبدادهم بالخلفاء ومطالبتهم بالأموال لأرزاقهم ونفقاتهم، فلم يكن يرى الخلفاء سبيلًا إلى ذلك إلا بمطالبة الوزراء، فإذا لم يدفعوا أخذوا المال منهم بالقوة وهو ما يعبرون عنه بالمصادرة، وكانت رائجة في عصر التقهقر، إذ لم يكن من سبيل إلى سد نفقات الدولة إلا بها، ولا يكاد يتولى وزير إلا انتهت وزارته بالمصادرة أو بالقتل أو بهما جميعًا.
المصادرة
ولما تسنم العباسيون منصة الخلافة كان معظم العمال في أوائل الدولة من إخوتهم وأعمامهم، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى الاستخراج أو المقاسمة ولو ساءت سيرة بعضهم، ثم انتقلت الأعمال إلى رجال الدولة من غير أهلهم، فجنح العمال إلى الطمع والعنف في استخراج الأموال، فعمد الخلفاء إلى مصادرة أموالهم لاسترجاع ما استولوا عليه من غير وجه الحق.
ومما نبه الخلفاء إلى مظالم العمال أن الوزراء كانوا يباشرون الأعمال نيابة عن الخلفاء، وكان هؤلاء يستشيرونهم فيمن يولونه من العمال، فربما استمعوا إليهم وربما خالفوهم، وخصوصًا البرامكة فإنهم كانوا إذا استشارهم الخليفة في ولاية عامل بيَّنوا له ما يعلمونه من أمره، ويتركون الأمر للخليفة بعد ذلك يقضي فيه بما يريد، ومن هذا القبيل أن الرشيد استشار وزيره يحيى بن خالد في تولية علي بن عيسى بن ماهان على خراسان فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد وولاه إياها، فلما شخص علي إليها ظلم الناس وجمع مالًا كثيرًا ووجه إلى الرشيد هدايا من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال لم ير مثلها قط، فلما وصلت الهدايا إلى الرشيد أعجب بها وكان يحيى إلى جانبه فقال له الرشيد: «يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه فكان في خلافك البركة!» فقال: «يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فإني أحب أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى وفراسته أثقب وعلمه أكثر من علمي، إن لم يكن وراء ذلك ما يكره، إن هذه الهدايا ما اجتمعت لهذا العامل حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلمًا وتعديًا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفيها الساعة من بعض تجار الكرخ.»
وقد رأيت أن الطمع تطرق إلى العمال، حتى في أيام الزهو العباسي، ولكن البرامكة أخلصوا المشورة فغلوا أيدي العمال عن الظلم، فلما نكب البرامكة كان فيمن جاء بعدهم من الوزراء المخلص وغير المخلص، فأطلقت أيدي العمال وأحرزوا الأموال لأنفسهم، وكانوا يسترضون الوزراء بالرشوة — كما تقدم — حتى استفحل أمرهم واكتنزوا الأموال الطائلة.
العمال
•••
مصادرة الوزراء
على أن مصادرة العمال لم يطل أمرها لاستقلالهم بأعمالهم بعد قليل، فأصبح المطلوب منهم لبيت المال في الغالب مالًا معينًا في العام على سبيل الضمان ونحوه، وتحولت الثروة المغتصبة إلى الوزراء، وفسدت النيات فلم يجد الخلفاء سبيلًا لسد عوز بيت المال إلا بمصادرتهم، وكان الخلفاء لا يرون في ذلك جورًا ولا شدة لاعتبارهم ما في أيديهم مختلسًا من حقوق بيت المال.
•••
فأصبحت المصادرة بتوالي الأيام المرجع الرئيسي في تحصيل المال، فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، على أن الخلفاء لم يكونوا يعمدون إلى المصادرة إلا عند حاجتهم إلى المال لأرزاق الجند أو لغيرها من نفقات الدولة، كما تعمد دول أوربا اليوم إلى عقد القروض لسد ما يعرض لها من النفقات اللازمة لحرب أو مشروع كبير.
وكان الخلفاء يعتبرون أموال أولئك الوزراء أو العمال حقًّا لبيت المال قد اغتصبوه، فاسترجاعه لا يُعَدُّ جورًا أو إجحافًا، وقد نجاهم ذلك من أثقال الدين الأهلي الذي تئن تحت عبئه معظم دول العالم المتمدن اليوم، فيذهب نحو ربع دخلها أو ثلثه في وفائه أو استهلاكه، وتضطر إلى استنباط الضرائب من أجل ذلك حتى أصبحت تلك الدول — وخصوصًا إنجلترا — تكلف الناس جعلًا على كل عمل يرجون به كسبًا.
الكُتَّاب
وهناك فئات أخرى من موظفي الدولة كانوا يستأثرون بأموالها، ومنهم كتاب الخراج ويهون ذلك عليهم؛ لأنهم يباشرون مصادر الجباية رأسًا.
ولم يكن الغنى خاصًّا بكتاب الدواوين، بل كان يتناول كل كاتب من كتاب أهل الخلفاء وغيرهم، وكانت أكثر أموالهم تؤخذ بالرشوة والاختلاس، حتى اشتهروا بالظلم كما اشتهر الوزراء، وهجاهم الشعراء كما هجوا هؤلاء، من ذلك قول بعضهم وهو يمدح أحد الأمراء بالحزم والسهر على مصلحة الدولة:
وقال ابن حبيبات الشاعر الكوفي يهجو الوزير والكاتب معًا:
الحجاب
(٣) الخلاصة
وخلاصة ما تقدم أن الدولة العباسية لما غلب الجند على أمرها واستبد قواد الأتراك بها، تحولت ثروتها من بيت مالها إلى أيدي رجالها ممن ينوبون عن الخليفة أو يتوسطون بينه وبين الرعايا، كالعمال، والوزراء، والكتاب، والحجاب، ونحوهم، وأصبح الخلفاء لا يستطيعون استبقاء حكومتهم إلا باغتصاب أموال أولئك الموظفين، فكانوا كالذي يغتذي بأكل لحمه فآل ذلك إلى انحلال أمر الخلافة بعد أن بلغت غاية الضعف.
وقد يتبادر إلى الأذهان أن لثقل الضرائب دخلًا كبيرًا في سقوط الدولة العباسية، وقد رأيت أن الضرائب كانت ثقيلة في عصر الازدهار العباسي، عصر الثروة والعلم، ولم يكن الناس يشكون ثقلًا، بل ساءت حالهم منذ خفضت الضرائب، ولم يكن ذلك لأن تخفيض الضرائب يسوء الناس، ولكن تخفيضها في تلك الأيام قلل مصادر الثروة الواردة إلى بيت المال فزادت حاجة أصحاب المطامع من رجال الدولة، وكانت الأحوال قد اختلت بفساد النيات للأسباب التي ذكرناها، فزال الأمن واختل النظام العام، فتقاعد الناس عن العمل وقلت إيراداتهم وعجزوا عن إشباع مطامع رجال الدولة، فعمد هؤلاء إلى العنف في استخراج الأموال، فتعاظم الاضطراب وتضاعف الضيق في الناس حتى سئموا الحياة في دولة لا يأمنون فيها على أرواحهم ولا أموالهم.
ولو كانت كثرة الضرائب تخرب المماليك لكانت إنجلترا من أقرب الدول إلى الخراب؛ لما فيها من أصناف الضرائب التي لم يحلم بها العرب ولا خطرت ببالهم؛ لأنها فضلًا عن ضرائبها على المحصولات والواردات على اختلاف أصنافها، تقاسم الناس أرباحهم فتأخذ ضريبة على الإيراد وجعلًا على أية مهنة يريد الناس تعاطيها حتى المحاماة والطب في مقابل الإذن لهم في الاشتغال بها، والجعل المذكور ثقيل يختلف فيمن ينال أية رتبة من رتب القضاء من خمسين جنيهًا إلى عشرين، وقس على ذلك رسوم الأطباء والصيادلة والمحامين حتى الخطباء والوعاظ، وهناك ضرائب أخرى على معاملات المصارف وعلى أوراقها وعقودها وعلى الزواج والطلاق، وغير ذلك فيجتمع لها من هذه الرسوم أموال كثيرة.
وأما ضرائب الإيراد عند الإنجليز فإنها تشمل كل عمل يتكسب منه الناس حتى الوعاظ والخطباء، فكيف بأصناف التجارات والصنائع والبنوك وغيرها؟ والدولة الإنجليزية كلما احتاجت إلى مال عدلت ميزانيتها بزيادة الضرائب وخصوصًا على الإيراد، وأكثر ما تكون حاجتها إلى المال في حالة الحرب كما فعلت بميزانية سنة ١٩٠١ في أثناء حرب الترنسفال، فقد قدرت دخلها لذلك العام بمبلغ ١١٧٠٠٠٠٠٠ جنيه، وخرجها بمبلغ ١٥٤٠٠٠٠٠٠، والفرق بينهما ٣٧٠٠٠٠٠٠ سددت معظمه بزيادة الضرائب، وكانت ضريبة الإيراد ثمانية بنسات على الجنيه أي نحو ٣ وثلث في المائة، فجعلتها شلنًا في كل جنيه أي خمسة في المائة، فكان مقدار ما اجتمع لها من تلك الزيادة نحو ٩٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفرضت ضريبة إضافية على البيرة بلغت حصيلتها ١٧٥٢٠٠٠ جنيه، وضريبة على سائر الخمور حصيلتها ١٠١٥٠٠٠ جنيه، وعلى التبغ ١١٠٠٠٠٠، وعلى الشاي ١٨٠٠٠٠٠جنيه وغير ذلك، فلما انقضت الحرب عمدت الحكومة إلى رفع تلك الإضافات، فخفضت ضريبة الإيراد أربعة بنسات أي أنها أرجعتها إلى ما كانت عليه، فقلَّت حصيلة الحكومة من الإيراد ٨٥٠٠٠٠٠ جنيه، وخفضت أيضًا ضرائب القمح وغيره.
وجملة القول أن إنجلترا مع كثرة ضرائبها وما أثقل كاهلها من الديون، فإنها تعد من أثبت الدول قدمًا وأوفرها ثروة، فتخفيض الضرائب لا شك أنه رحمة للناس، ولكن زيادتها لا تدعو إلى الخراب، وإنما يدعو إلى خراب الممالك «الظلم»؛ فإنه يقوض أركان الدول بما يدعو إليه من تقييد الأيدي عن العمل فيقعد الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ولا مال إلا إذا اشتغل هؤلاء، ولذلك قالوا: «العدل أساس الملك!»
•••
فالدولة العباسية لما أصبحت بعد المعتصم غنيمة للأجناد الغرباء يحملون أموالها إلى بلادهم، وأصبح الوزراء والعمال إنما يعملون لحشد الأموال، وأمسى الخليفة لا سلطان له حتى في قصره، وبين غلمانه وجواريه، تجمعت تلك الأثقال على رؤوس الرعية؛ لأن الجباية منهم، فطالبوهم بها بدون أن يساعدوهم على استغلالها فساءت حالهم كما علمت، أما دول هذه الأيام فأساس نظامها الحرية الشخصية، والمبادئ الاقتصادية، فلا يطالب أحد من الناس إلا بما يقتنع هو أنه حق صريح، وإلا فإنه يتظلم وظلامته مسموعة، وسنعود إلى هذا البحث في بعض الأجزاء التالية.