مقدمات تمهيدية
(١) ما هو المراد بآداب اللغة؟
آداب اللغة علومها … والمراد بتاريخ آداب اللغة تاريخ علومها أو تاريخ ثمار عقول أبنائها ونتائج قرائحهم، فهو تاريخ الأمة من الوجهة الأدبية والعلمية، ولكل أمة تاريخ عام يشمل النظر في كل أحوالها، ويتفرع إلى تاريخ سياسي وآخر اقتصادي وآخر أدبي أو علمي، فالتاريخ السياسي يبحث فيما مر على الأمة من الفتوح والحروب، وما توالى عليها من الدول وأنواع الحكومات ونحو ذلك، والتاريخ الاجتماعي يبين الأدوار التي تقلبت فيها تلك الأمة من حيث عاداتها وأخلاقها، والتاريخ الاقتصادي يتناول النظر في تاريخ مالية تلك الأمة وثروتها وأحوالها الزراعية والصناعية وغيرها، وقس على ذلك سائر ضروب التاريخ، ومنها التاريخ الأدبي أو العلمي، وهو يبحث في تاريخ الأمة من حيث الأدب والعلم … فيدخل فيه النظر فيما ظهر فيها من الشعراء والأدباء والعلماء والحكماء، وما دونوه من ثمار قرائحهم أو نتاج عقولهم في الكتب، وكيف نشأ كل علم وارتقى وتفرع عملًا بسنة النشوء والارتقاء.
والتاريخ العام إن لم يشمل تاريخ آداب اللغة، كان تاريخ حرب وفتح وسفك وتغلب واستبداد؛ إذ لا يستطاع الوصول إلى فهم حقيقة الأمة أو كنه تمدنها أو سياستها إلا بالاطلاع على تاريخ العلم والأدب فيها … فهو شارح للتاريخ يعلل الأسباب والحوادث بعللها الحقيقية، فإذا قرأنا تاريخ أمة وعرفنا ما توالى عليها من الأحوال السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، واستخرجنا أسباب تمدنها ورقيها أو تقهقرها وسقوطها … مهما علمنا من ذلك كله، فإن الأسباب لا تزال غامضة حتى نعلم تاريخ علوم الأمة، وهو تاريخ عقولها وقرائحها، فتنجلي لنا العوامل الأصلية في أسباب رقيها أو سقوطها، فإن ما تخلفه من الآثار الأدبية ينمُّ عما كانت عليه من الارتقاء العقلي أو الميل القلبي وسائر أحوالها من الاعتدال أو العفَّة أو التهتك، ومن الهمَّة أو الخمول، إلى غير ذلك من الآداب والأطوار — وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت — على أن تاريخ آداب اللغة لا يكون وافيًا إن لم يوضح بالتاريخ السياسي.
وأهل التمدن الحديث يجعلون البحث في آداب اللغة من أهم الوسائل لتفهم تاريخها السياسي، ويقسمون ذلك التاريخ إلى أطوار على مقتضى ما تقلب عليها من الأحوال الأدبية، ويقيسون ما تبينوه من الأطوار الماضية على ما سيكون … فيتنبئون بمستقبل الأمة متى عرفوا الطور الذي بلغت إليه في أيامهم، وبالقياس على الماضي، يقولون: إن هذه الأمة هي الآن في دور الحماسة الشعرية مثلًا، ولا تلبث أن تنتقل إلى العصر الأدبي، ثم العلمي فالفلسفي … إلخ.
فتاريخ آداب اللغة هو تاريخ عقول أبنائها، وما كان من تأثير ذلك في نفوسهم وفي أخلاقهم، ويدخل فيه تعيين ما بلغت إليه الأمة من الرقي العلمي وامتازت به عن سواها … وبيان تاريخ كل علم وما تقلب عليه من الأحوال ووصف ما خلفوه من الآثار المكتوبة من حيث فوائدها، وكيفية تفرعها أو تخلفها بعضها عن بعض.
(٢) أسبق الأمم إلى العلم
من هو أول من قال شعرًا أو أول من رصد الكواكب، أو اخترع الكتابة أو وضع الأعداد؟ من قسم السنة إلى أشهر، والأشهر إلى أسابيع، وهذه إلى الأيام فالساعات؟ نعرف مثلًا أن أول من رصد الكواكب الكلدانيون، ولكن من هو الرجل الذي بدأ بالرصد؟ إن ذلك ذهب في ثنايا القرون المتباعدة، كما ذهبت أسماء مكتشف الملح ومخترع النار وصانع الإبرة والمغزل ونحوهما من الأدوات القديمة، والسبب في ذهاب تلك الأخبار أن الإنسان عاش أدهارًا قبل اختراع الكتابة ولم يكن يدون أعماله وآثاره، مع أن بعضها عظيم الأهمية بالنظر إلى التاريخ.
وللعلم بهذا الاعتبار تاريخان: أحدهما قبل اختراع الكتابة، والآخر بعدها، ولا دخل لآداب اللغة فيما هو قبل الكتابة؛ لأن معول أصحاب هذا العلم على ما بين أيديهم من مدونات العلوم والآداب … فأي أمة دونت العلم أولًا؟ …
لا خلاف في أن الشرق أسبق إلى تدوين العلم من الغرب … فقد نظم المشارقة الشعر، وعالجوا الأمراض، ووضعوا الشرائع، ورصدوا الكواكب، وعينوا أماكنها وسموها بأسمائها، والغرب في غفلة وظلام دامس … فأي أمم الشرق أسبق إلى العلم؟
يفسر الجواب على ذلك جوابًا قاطعًا؛ لأن أكثر آثار الشرق لا تزال مدفونة تحت الرمال أو الأتربة في مصر والشام وما بين النهرين واليمن والحجاز وآسيا الصغرى وفارس والهند، وفيها آثار الفراعنة والفينيقيين والأشوريين والبابليين والمعينيين والحميريين والحثيين وغيرهم، ولم ينتبه العلماء إلى أهمية هذه الآثار إلا في القرن الماضي، فتألفت الجمعيات وجمعت الأموال للتنقيب واستخراج الأحافير وحل الكتابات، فحلوا الخط الهيروغليفي بمصر، والمسماري فيما بين النهرين، والمسند في اليمن، والنبطي في الحجاز، والفينيقي في فينيقية، وقرأوا ما اكتشفوه من الأحافير، فاطلعوا على كثير من أحوال تلك الأمم، لكن أعمال التنقيب لا تزال في أولها، ولا يزال معظم الآثار مدفونًا وخصوصًا فيما بين النهرين وآسيا الصغرى واليمن وسائر بلاد العرب … أما مصر فإن حظها من التنقيب أكثر من حظ سواها.
(٢-١) وادي النيل
وقد تبين من قراءة الآثار حتى الآن، أن وادي النيل ووادي الفرات أسبق بلاد المشرق إلى الاشتغال بالعلم والأدب، وقد قضيا أدهارًا وهما مزدهران منيران بالعلم، وسائر العالم في ظلام، نبغ العلماء والأطباء والشعراء بمصر في عهد الأسرة الثالثة من الدولة المصرية الأولى قبل بناء أهرام الجيزة أي منذ نحو ستة آلاف سنة، ويفتخر أحد كتاب الدولة في عهد الأسرة السادسة بمصر أنه كان متوليًا إدارة الكتب، فطلب إلى ذويه أن ينقشوا ذلك على قبره، منذ نيف وخمسة آلاف سنة.
ويدل ذلك طبعًا على وجود الكتب من ذلك الحين، وإن لم يصل إلينا شيء منها، ولكننا سمعنا ببعضها، وربما كان أهم ما وصلنا خبره منها «كتاب الموتى» وهو كتاب الطقوس، وفيه شعر وأدب وتاريخ وعقود وعهود وأغان، وبعضها قديم جدًّا، ربما كان قبل عهد الملك مينا أول فراعنة مصر … وهو يشبه كتب الدين عند سائر الأمم القديمة، كالفيدا عند البراهمة، والزاندافستا عند الفرس، والكنغ عند الصينيين، والتلمود عند اليهود، لكنه أقدم منها كلها.
وكان الفراعنة يطلبون العلم ويتفاخرون به، ويقال: إن توسرتسن أحد ملوك هذه الأسرة كان عالمًا بالطب، فوضع فيه كتابًا تداوله الناس إلى القرن الأول للميلاد، ولا ريب أن الرياضيات في عهد الأسرة الرابعة بناة الأهرام كانت من أرقى العلوم، وقد نبغ الشعراء بمصر من أقدم أزمانها، وكان منهم طائفة كبيرة يجتمعون في مجلس تحتمس الثالث ورمسيس الثاني، كما اجتمع بندار وزملاؤه من شعراء اليونان بعد ألف سنة في مجالس ملوك اليونان، وكما اجتمع شعراء العرب بعد ألف وخمسمائة سنة أخرى في مجالس الرشيد وسيف الدولة والصاحب بن عباد وغيرهم، وكان شعراء الفراعنة ينظمون القصائد في كل نصر أو فتح، يمتدحون ملوكهم ويسمونهم أبناء الشمس وأصحاب التاجين.
(٢-٢) وادي الفرات والسومريون والأكاديون
ويقال نحو ذلك عن أهل بابل وأشور في وادي الفرات ودجلة، فإن العلم عندهم قديم، وقد تعاصر البابليون والمصريون وتبادلوا المعارف، ولكن ظهر من الاكتشافات الأثرية في بابل، أنه كان هناك قبل تمدن البابليين أمتان سبقتا البابليين إلى أسباب المدنية أو العلم: هما الأكاديون والسومريون، جاءوا وادي الفرات من عهد بعيد وعندهم العلم والكتابة وهي الأحرف المسمارية، فاقتبسها البابليون منهم وطبعوا بها أخبارهم على آثارهم، وكان السومريون عند قدومهم الفرات أهل شريعة ودين وصناعة يبنون المدن والقلاع وينسجون الأنسجة، نزل السومريون والأكاديون وادي الفرات نحو القرن الخامس والأربعين قبل الميلاد أي منذ نحو ٦٥٠٠ سنة ومعهم العلم والصناعة، وما زالوا نبراسًا يستضاء بهم إلى أوائل القرن العشرين ق.م، أي نحو ٢٥ قرنًا، وهم يختلفون عن سائر سكان ذلك الوادي لغة وشكلًا، كما يظهر من صورهم المنقوشة على الآثار، وقد اقتبس أهل الشام والعراق عنهم كثيرًا من أسباب العلم واستدل بعض العلماء على آثار ذلك في مزامير داود.
(٢-٣) أقدم مكتبة في العالم
وعاصر هذه الأمةَ في وادي الفرات غيرُ دولة من أصل سامي، وعثر المنقبون في العراق على رقيم (حجر أو لوح) عليه كتابة مسمارية فيها قائمة بأسماء ملوك، حكم بعضهم منذ أكثر من أربعين قرنًا، ويدل ذلك على قدم التمدن في ذلك البلد المبارك، وفي جملة أولئك الملوك ملك اسمه «شرجينا» كان محبًّا للعلم والعلماء راغبًا في العمارة، أنشأ مكتبة في «وركاء» من أعمال العراق سماها مدينة الكتب، وعهد إلى رجال من خاصته في جمع الكتب قديمها وحديثها، وأن يفسروا بعضها بالترجمة أو التعليق، واستعان بالعلماء من سائر الأقطار لينقلوا علوم الآخرين إلى لسانهم وتدوين علومهم، واشتغل آخرون بالشرح والتعليق … كما فعل بطليموس فيلاذلفوس بالإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكسرى أنوشروان في جند يسابور في القرن الخامس للميلاد، وكما فعل الرشيد والمأمون في بغداد في القرنين الثاني والثالث للهجرة، وقد دون شرجينا هذه العلوم بالحرف المسماري نقشًا على الطين وهي الرقم المسمارية المعروفة …
فكانت مكتبة «وركاء» هذه مملوءة بالكتب اللغوية والفلكية والشرعية والأدبية وغيرها … ثم نسخت بعد إنشائها بخمسة عشر قرنًا بأمر أمير أشوري، وحفظت في دار خاصة بها كما تحفظ المكاتب اليوم، وعثر المنقبون على بقايا هذه المكتبة بين النهرين ونقلوها إلى المتحف البريطاني في لندن …
على أن هذه البقايا نتف أكثرها محطم لا ينتفع به، أما أقدم أثر علمي بقي سالمًا كاملًا إلى هذا العهد، فهو شريعة حمورابي … فإنها دونت في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وقد رجحنا في كتابنا «العرب قبل الإسلام» أن دولة حمورابي عربية، وأنها أقدم دول العرب … فإذا صح استدلالنا هناك، كان أقدم الآثار العلمية الباقية كاملة عربي الفكر.
ويلي المصريين والبابليين في التمدن القديم الفينيقيون في سوريا والحثيون فيها وفي آسيا الصغرى والفارسيون والهنود والصينيون وغيرهم …
(٢-٤) اليونان
ظلت الآداب زاهرة في الشرق، وهو وحده مبعث العلم والمعرفة والمدنية، حتى كان تقهقره على مقتضى سنة العمران … فانتقلت الرياسة منه إلى الغرب، وأسبق الأمم الغربية إلى ذلك اليونان؛ لأنهم أقرب إلى الشرق من سواهم، وعنهم أخذ الرومان وأنشأوا التمدن الروماني، ولكل من هاتين الأمتين كتب خاصة في تاريخ آدابها، والمرجع في ذلك إلى تاريخ آداب اللغة اليونانية فإنها أساس آداب سائر لغات أوربا حتى الحديثة منها إلى اليوم، ولما نشأت الدول الحديثة وتمدنت وظهر فيها العلماء والأدباء واستقلت كل أمة بلغتها وآدابها، صار لكل منها تاريخ خاص لآداب لسانها، وقد ألف في آداب كل لغة منها عدة كتب وهي أشهى ما يقرأ من تواريخ تلك الأمم.
على أن الآداب اليونانية كانت أيضًا أساسًا لآداب أكثر الأمم التي ظهرت بعد اليونان في الشرق ومن جملتهم العرب، فالتمدن الإسلامي مدين لآداب اليونان في أكثر العلوم الطبيعية، وكذلك الفرس في نهضتهم أيام الأكاسرة.
ثم إن الآداب العربية كانت أساسًا لآداب كل أمة ظهرت في أثناء التمدن الإسلامي، أو بعده … حتى في أوربا، فالإفرنج في نهضتهم الأخيرة استعانوا على إنشاء تمدنهم بما خلفه العرب من كتب العلم والفلسفة.
فالعلم نشأ في الشرق وأثمر أولًا في وادي النيل ووادي الفرات، وانتشر منهما في سائر المشرق … ثم انتقل إلى الغرب، فتناوله اليونان واستثمروه وعالجوه حتى صار خاصًّا بهم، ومنهم أخذه الرومان في الغرب والفرس والسريان والعرب في الشرق، وانتقل من الرومان إلى أمم أوربا في الأجيال الوسطى وحفظ في الكنائس والأديار.
أما في الشرق فانتقل علم اليونان أخيرًا إلى المسلمين، فدرسوه وأضافوا إليه ما اقتبسوه من علوم الفرس والهند وتوسعوا في ذلك كله من عند أنفسهم، وقد ملأوا العالم مؤلفاتٍ وعلماءَ وأرصادًا ومدارسَ ومكاتبَ في نحو ألف سنة، فلما نهضت أمم أوربا لإنشاء التمدن الحديث، اقتبسوا كثيرًا من آداب العرب ونقلوا مئات من كتبهم إلى ألسنتهم فكانت أساسًا لتمدنهم الحديث.
(٣) مصادر آداب اللغة بوجه عام
الأمم تتشابه بطبائعها ومداركها من أكثر الوجوه وإن اختلفت في مواطنها، ولذلك جاءت آدابها متشابهة، في موضوعاتها ومصادرها ومناحيها وتأثيرها، مع تباين في كل أمة تمتاز به عن سواها … فآداب اللغة عند كل الأمم قديمًا وحديثًا مؤلفة من الشعر والنثر، والشعر يقسم إلى موضوعات كثيرة من الحماسة والغزل والفخر والرثاء والمدح، والنثر يقسم إلى التاريخ والأدب والفقه والفلسفة والعلم على أنواعه، ولم تخلُ أمة من الشعراء والخطباء والعلماء والفلاسفة على تفاوت في الإجادة واختلاف في الأسلوب … ولو دونت الأمم القديمة آدابها لوجدت التشابه أكثر وضوحًا، ولكنهم لم يفعلوا … فلم يتيسر للمحدثين العثور عند أكثرها على ما يصح جمعه ودرسه، وأقدم الأمم التي دونت تاريخ آدابها وعلومها على نحو ما نحن فاعلون في هذا الكتاب اليونان؛ فقد ألفوا في آداب اللغة اللاتينية، ثم آداب كل لغة من اللغات الأوربية الحية، وجروا على مثل ذلك في تدوين آداب اللغات السامية، فألفوا في آداب لغة الهند والفرس والسريان والعرب.
(٣-١) خصائص الأمم
وإذا طالعت تواريخ آداب هذا اللغات اتضح لك وجه الشبه بينها، لكنك تجد لكل أمة خصائص في مشاعرها ومداركها تمتاز بها عن سواها … فاليونان يظهر من تاريخ آداب لسانهم أنهم يمتازون عن سواهم بسعة التصور وقوة العارضة والجنوح إلى الفلسفة، ويمتاز الرومان في السياسة والنظام والتشريع، ويمتاز العرب بدقة الإحساس في نفوسهم وسرعة الخاطر وسعة الخيال … ويمتاز الهنود باستغراقهم في الخيالات والأوهام، وقس على ذلك.
وقد ترتب على هذا التفاوت في المواهب امتياز كل أمة بآداب أجادت فيها وتناقلتها سائر الأمم عنها، كامتياز اليونان بالفلسفة والشعر القصصي والتمثيل، وعنهم أخذها سائر الأمم، وامتاز الرومان بوضع الشرائع والنظم السياسية والاجتماعية التي هي أساس شرائع أوربا ونظامها الاجتماعي إلى اليوم، وامتاز الهنود بوضع القصص الخرافية على ألسنة الحيوانات مثل كليلة ودمنة وعنهم أخذها سائر الناس، وأما العرب فقد ملئوا الدنيا شعرًا وأدبًا وفقهًا وتاريخًا وهم قدوة الناس في المعاجم العلمية والتاريخية وفلسفة التاريخ.
وهكذا الأمم الأوربية الحديثة … فإن لكل منها مزية في شيء من آداب اللغة، فالفرنسيون أهل فصاحة وطلاقة في الكلام والإنشاء … اشتهروا بذلك من أقدم أزمانهم، قال يوليوس قيصر لما نزل بلادهم قبيل الميلاد: «إن الغاليين أهل ذوق في الحرب والكلام»، وأيد ذلك كثرة من ظهر فيهم من الكتاب والمنشئين والخطباء في الأدب بالقياس إلى سائر أمم أوربا، والألمان يمتازون بأبحاثهم الفلسفية العويصة وتتبع الموضوعات إلى أقصى جزئياتها ونقدها وتوسعهم في قواعد اللغة، أما الإنجليز فيمتازون بجنوحهم إلى الحقيقة المحسوسة في آرائهم فلا يبنون أبحاثهم إلا على الواقع، وترى ذلك ظاهرًا في أعمالهم وأخلاقهم، والإيطاليون معروفون بتبريزهم في الفنون الجميلة، فهم شديدو التأثر بأعمال الطبيعة وظواهرها.
على أن تفوق بعض الأمم في بعض الآداب، لا يمنع تشابه تلك الأمم في سائر الآداب … ويحسن بنا قبل التقدم إلى الكلام عن آداب اللغة العربية، أن نذكر أنموذجًا من آداب اللغات الأخرى، وقد تقدم أن الأمم الشرقية القديمة لم تجمع آدابها، وليس لدينا منها ما يصح اتخاذه مثالًا لنا، والأمم المتمدنة الآن في أوربا وأمريكا ترجع آداب لغاتها إلى اللغة اللاتينية أي لغة الرومان، وهؤلاء اقتبسوا أكثر آدابهم عن اليونان … فآداب اللغة اليونانية خير مثال لآداب لغات العالم المتمدن؛ لأنها أساسها كلها من حيث الأدب والشعر والفلسفة وسائر العلوم القديمة، وما من أدب أو علم أو فلسفة في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية أو غيرها إلا وله أصل أو أساس في اللغة اليونانية — وأكثر مؤلفات تلك الأمم ومنظومات شعرائهم في الأجيال الوسطى صور أو ظلال لما كان عند اليونان — وبالمثل أمهن اللاتينية فإن الأنياد في اللغة اللاتينية لفرجيل، إنما هي نسخة من إلياذة هوميروس، وكذلك فردوس ملتُن وجحيم دانتي وتلمساك فنيليون وغيرهم …
فأفضل نموذج لآداب العالم المتمدن آداب اللغة اليونانية وهي أهمها جميعًا، ولها تاريخ طويل يرجع إلى قرون عدة قبل الميلاد وهاك أقسامها:
(٣-٢) آداب اللغة اليونانية
- (١) العصر الخرافي: ويراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلا القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم، مما يسمى في اصطلاح الإفرنج ميثولوجيا Mythology وهو يبدأ قبل زمن التاريخ وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وأسماء رجاله وشعرائه خرافية.
- (٢) عصر الأبطال والحروب: وهو يشمل القرنين التاسع والثامن (سنة ٩٠٠–٧٠٠ق.م) وفيه ظهر أقدم الشعر الوصفي أو القصصي … نعني منظومات هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وفيه جرت حروب طيبة وحصار طروادة الذي وصفه هوميروس في إلياذته، ولم يبق من آداب هذا العصر غير الشعر القصصي، ولم يعرف من شعرائه غير هوميروس وهسيود، أما هوميروس فهو أبو الشعراء ورب الشعر القصصي، وقد عاش اسمه بإلياذته التي نقلت إلى سائر لغات العالم وبأوديسته، أما هسيود فإنه جاء بعد هوميروس وخلف شعرًا في نشيدين أحدهما ألف بيت، ذكر فيه أنساب الآلهة والآخر ثمانمائة بيت وصف فيه الطبيعة ويسمى «الأعمال والأيام» ونسبوا إليه نشيدًا ثالثًا مؤلفًا من أربعمائة بيت وصف به درع هركيل.
- (٣) العصر الثالث: (سنة ٧٠٠–٥٠٠ق.م) … وفيه تحضر اليونان وعمروا المدن ووضعوا الشرائع وأنشأوا المستعمرات حول البحر المتوسط والبحر الأسود واتسعت تجارتهم، وقامت الفتن بينهم في التنازع على السلطان فقام مثل هذا التنازع في آداب لسانهم ونشأ الشعر التمثيلي واستقر في أثينا، وانتشر الشعر على الإجمال ونبغ الشعراء في بلاد اليونان بأوربا وآسيا وفي الجزائر وصقلية وفي إسبارطة وطيبة، وظهر فيها الشعر الغنائي أو الموسيقي وهو المعبر عن الشعور كالمدح والفخر والحماسة والغزل مثل الشعر العربي، ونبغ في كل قوم أو بلد شاعر أو غير شاعر ينصر قومه أو يعبر عن شعائرهم، وتكاثر الشعراء وأخذوا يتمادحون ويتهاجون ويتفاخرون كما كان العرب في الجاهلية يفعلون، ولذلك سموا هذا العصر عصر الشعر الغنائي Lyric.
فمن شعراء هذا العصر الهجائين أرشيلوك الفاروسي من أهل القرن السابع ق.م، ولم يبقَ من شعره إلا نتف مبعثرة، وسيمونيد الأمارغوسي كان معاصرًا لأرشيلوك، ولم يبق من شعرة إلا ١٨ بيتًا في وصف المرأة، وهيبونكس الأفسسي من أهل أواسط القرن السادس ق.م … كان ظهوره في آخر التنازع بين الأشراف والعامة ولم يعرف عنه إلا القليل.
ومن شعراء هذا العصر الحماسيين غالينوس الأفسسي وتيرتيه، ومن أصحاب السياسة صولون استخدم الشعر في السياسة وهو مشهور، ومن أهل الهجاء والحكمة ثيوغنيس الميغاري نبغ في سنة ٦٥٠ق.م، وشعره أدبي حكمي ولا يزال باقيًا من منظومه إلى الآن ١٢٠٠ بيت.
وأقدم شعراء الشعر الغنائي عندهم ترباندر ويقال: إنه هو الذي اخترع العود ذا السبعة الأوتار واسمه Lyre وإليه ينسب هذا النوع من الشعر؛ لأنهم كانوا يغنونه، وخلفه أريون والسيي وسافو، ونبغ أيضًا شواعر من تلامذته منهن أريني، ومن قبيل الشعر الغنائي الشعر الديني الذي كانوا يغنونه في الصلوات.وأشهر شعراء اليونان في الشعر الغنائي بندار فهو مثل هوميروس في الشعر القصصي، ولد سنة ٥٢٢ق.م، وله آثار كثيرة لا تزال باقية إلى الآن ومنها قصائد مدح بها الظافرين كما كان يفعل المتنبي في مدح سيف الدولة، والأخطل في مدح عبد الملك.
وفي هذا العصر ظهر فيثاغورس الفيلسوف الرياضي المشهور وزينوفون وبرمنيدس وإمبيدقليس وطاليس وأنا كسميندر وأناكساغورس وغيرهم.
- (٤) العصر الذهبي أو الأثيني: (سنة ٥٠٠–٣٢٣ق.م)؛ نسبةً إلى أثينا؛ لأن أكثر أدباء هذا العصر نبغوا هناك، وفيه نضج الشعر التمثيلي والفلسفة والخطابة وظهر التاريخ، وأقدم شعراء التمثيل تسبس وفرينيكوس وبراتيناس وأشهرهم إسكيلوس وسفوكلس وبوربيدس للتمثيل المحزن (تراجيدي) وإرستوفانس، وأشهر مؤرخيه هيكاتس وهيرودوتس أبو التاريخ وتوسيديد، ومن الخطباء بريكليس والسيبياد وكوراكس وتيسياس وبراتاغوراس وأنتيفون وأندوسيد وليكورغوس وهينريد وديناك وديموستين، ومن الفلاسفة سقراط وزينوفون وأفلاطون وأرسطو وثيوفراست.
- (٥) العصر الإسكندري: (٣٢٣–١٤٦ق.م) وفيه انتقل العلم من أثينا إلى الإسكندرية على عهد البطالسة، فزهت هذه المدينة بالعلماء والفلاسفة، وكانت هي وحدها مسرح العلم ومبعث العلماء، ومن مشاهير هذا العصر في الرياضيات أوقليدس وأرخميدس، وفي التاريخ مانيثون، ومن الجغرافيين ديسيارك وأراتوستن، ومن الشعراء المعلقين كليماك وأبولونيوس الرودسي ويوفوريون، ومن شعراء التمثيل ليكوفرون وتيمون ومنيب وثيوكريت وشهرته ترجع إلى شعره الرعوي، ومن الفلاسفة ليسيوس وإبيكوروس.
- (٦) العصر اليوناني الروماني: (١٤٦ق.م–٥٥٠ب.م) وكانت بلاد اليونان قد سقطت وذهبت دولتها ودخلت في حوزة الرومان فذهب علمها وخملت قرائح أهلها — والذل يذهب بالقرائح — فضعفت آداب اللغة فيها، ولكن النصرانية أحدثت تغيرًا في تلك الآداب فأدخلت فيها بعض الأساليب الشرقية، ومن مشاهير أدباء هذا العصر في التاريخ والأدب بوليبس ولوسيدونيوس ونيقولاس وسترابو وديونيس وديودورس ويوسيفوس وبلوتارخس وأريان وأبيان وباوسانيس وهدريان، وفي الشعر أرخياس وأبولودورس، ومن الفلاسفة فيلون وأناسيديمس وكريسوستوم وغيرهم …
- (٧) العصر البيزانطي: (من سنة ٥٥٠–١٤٥٣ب.م) زهت فيه بيزانس (القسطنطينية) وكانت مركز الآداب اليونانية، وما زالت مرجع العالم اليوناني حتى فتحها العثمانيون سنة ١٤٥٣م، فانقضت دولة الروم وتشتت علماؤها في أوربا، وكانوا في جملة من أعانها على نهضتها في إنشاء التمدن الحديث، ومن علماء هذا العصر هيمريوس وتمستس وليبانيوس وجوليان وهليودورس وأشيل تايتوس وتريفيودور وجماعة كبيرة من رجال الكنيسة.
هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقس عليها تواريخ آداب سائر اللغات الأوربية … فإنها كثيرة الشبه بها من حيث تناسق عصورها بالنظر إلى نشوء العلوم فيها، فإن أقدم آدابها دائمًا الشعر الديني يليه الشعر القصصي والتمثيلي فالغنائي، ثم ينشأ الأدب والخطابة والتاريخ وتضبط اللغة وقواعدها ثم الفلسفة والعلم الطبيعي، ثم تستغرق الأمة في المبالغات والتفاصيل الخارجة عن المعقول ويقل فيها الاستنباط وتبلى جدة الشعر وتضعف القرائح بالذل والتقهقر.
(٣-٣) آداب اللغة العربية وأقسامها
وإذا نظرنا إلى آداب اللغة العربية وأخواتها الساميات، رأيناها تنطبق على ما تقدم بوجه إجمالي، أما عند التفصيل، فإننا نجد بين آداب هذه اللغات وتلك فرقًا كالفرق بين طبائع الأمتين … فالشعر عند الساميين أقدم آدابهم لكن أكثره غنائي، وليس فيه من الشعر القصصي إلا نتف قليلة، أما التمثيل فيظهر لأول وهلة أنه بعيد عن آداب العرب، وسترى أنه موجود فيها … ولا غرو إذا امتازت اللغات الأوربية بالشعر القصصي والتمثيلي، فإن اللغة العربية وأخواتها تمتاز بنوع من الآداب كبير الأهمية ليس منه في لغات الإفرنج إلا نتف نعني «الأمثال» فإنها جزء مهم من آداب اللغات السامية ولا سيما العربية والعبرانية، وتندر في سواهما …
وآداب اللغة العربية — التي هي موضوع هذا الكتاب — أغنى سائر الآداب السامية، بل هي على الإجمال أغنى آداب سائر لغات العالم؛ لأن الذين وضعوا آدابها في أثناء التمدن الإسلامي أخلاط من أمم شتى جمعهم الإسلام أو الدولة الإسلامية، وفيهم العربي والفارسي والتركي والهند والسوري والعراقي والمصري والرومي والأرمني والبربري والزنجي والصقلبي وغيرهم … وكلهم تعربوا ونظموا الشعر العربي وألفوا الكتب العربية في الأدب والنحو والتاريخ والطب والعلم والفلسفة، فاحتوت آداب اللغة العربية بسبب ذلك على أحاسن القرائح وشتات الأخلاق والآداب والطبائع، وأدخلوا فيها كثيرًا من أساليب ألسنتهم الأصلية بدون قصد أو تعمل.
ونريد بتاريخ آداب اللغة العربية بسط ما تقلبت عليه اللغة وآدابها من أقدم أزمانها إلى الآن … فهي بهذا الاعتبار تقسم إلى أطوار لكل منها شأن يمتاز عن سواه، وقد لاحظنا في تقسيم هذا التاريخ ما توالى على الأمة من الانقلابات السياسية أو الأدبية وما كان من تأثير ذلك على المواهب والقرائح …
أقسام تاريخ آداب اللغة العربية
ويمكن تقسيم تاريخ آداب اللغة العربية حسب علومها وآدابها أو حسب الأعصر التي توالت عليها، ونريد بتقسيمها حسب العلوم أن نستوفي الكلام في كل علم على حدة من نشأته إلى الآن، على أن نبدأ بأقدمها ونتدرج إلى أحدثها فنبدأ بآداب الجاهلية، فنذكر تاريخ الشعر مثلًا وتراجم الشعراء من نشأته وما تقلب عليه من الأدوار في الجاهلية والإسلام إلى اليوم، ونفعل مثل ذلك في الخطابة وغيرها من آداب الجاهلية، وبالفقه والتفسير والأدب والنحو واللغة وغيرها من الآداب الإسلامية … هكذا نفعل بالعلوم الدخيلة منذ دخولها وما تقلب عليها إلى الآن …
- (١)
عصر صدر الإسلام.
- (٢)
العصر الأموي.
- (٣)
العصر العباسي.
- (٤)
العصر المغولي.
- (٥)
العصر العثماني.
- (٦)
العصر الحديث.
وقسمنا العصر العباسي إلى أطوار بحسب التقلبات السياسية كما ستراه في مكانه.