آداب اللغة قبل الإسلام
(١) العصر القديم أو الجاهلية الأولى (من قبل التاريخ إلى القرن الخامس للميلاد)
لم يتصدَّ أحد للبحث في آداب اللغة العربية قبل زمن التاريخ؛ لقلة المواد المساعدة على ذلك، ولاعتقادهم أن العرب حتى في الجاهلية الثانية قبل الإسلام كانوا غارقين في الفوضى والجهالة لا عمل لهم إلا الغزو والنهب والحرب في بادية الحجاز والشام وفي نجد وغيرها من بلاد العرب، على أننا إذا نظرنا إلى لغتهم كما كانت في عصر الجاهلية، نستدل على أن هذه الأمة كانت من أعرق الأمم في المدنية؛ لأنها من أرقى لغات العالم في أساليبها ومعانيها وتراكيبها … واللغة مرآة عقول أصحابها ومستودع آدابهم … فالمتكلمون باللغة الفصحى كما جاءتنا في القرآن والشعر الجاهلي والأمثال، لا يمكن أن يكون أصحابها دخلوا المدنية أو العلم من قرن إلى قرنين فقط …؛ إذ لا يتأتى للغة من لغات المتوحشين أن تبلغ مبلغ لغات المتمدنين إلا بتوالي الأدهار، فكيف باللغة العربية الدالة على سمو مدارك أصحابها وسعة تصورهم ودقة نظرهم كما سنبينه في أماكنه.
والحمورابيون أو عمالقة العراق أقدم من أنشأ المدارس لتعليم الصغار على نحو ما هو جار الآن، وقد كشفوا في آثار زيبارا أنقاض مدرسة لتعليم الأطفال، وهذه أول مرة سمعنا بمدرسة مثل هذه في التمدن القديم أي منذ أربعة آلاف سنة، وكان فيها «رقم» أو أحجار منقوشة عليها دروس للأطفال والأحداث في الحساب والهجاء وجداول الضرب والمعجمات ونحوها، واكتشفوا كثيرًا من الكتب والرسائل المنقوشة على الأحجار أو الرقم وأكثرها لحمورابي وفيها الصكوك والعقود والمسائل الرياضية والأرصاد الفلكية والنصوص التاريخية والأدعية الدينية، ومن أكبر أدلة الرقي في ذلك العهد أن المرأة كانت متمتعة بحريتها واستقلالها مثل أرقى نساء هذا التمدن وكن يمارسن المهن القلمية، وانتظم جماعة منهن في خدمة الدواوين والمصالح الأميرية.
فإذا صح أن هذه الدولة عربية، كان العرب أسبق أمم الأرض إلى سن الشرائع وتنشيط العلم، وأنهم بلغوا في نظام الاجتماع ما لم يبلغ إليه معاصروهم، وأدركوا من الرقي الاجتماعي ما لا يزال بعض الأمم المتمدنة في هذا العصر بعيدين عنه.
ونحن في غنى عن التنبيه إلى أن قولنا: إن الدولة الحمورابية عربية ليس مثل قولنا: «دولة الإسلام عربية»، وإذا صحت عربية تلك، فلا يستلزم أن تكون لغتها مثل لغة القرآن ولا أن عاداتها ودياناتها مثل ما لعرب قريش … فإن بين الدولتين نحو ٢٥ قرنًا، والأمم تتغير عاداتها ولغاتها بتغير الأقاليم وتوالي العصور.
ولا يقتصر فضل الحمورابيين أو عمالقة العراق على ما شادوه فيما بين النهرين وما خلفوه هناك من آثار مدنيتهم وعلمهم؛ فقد نشروا آدابهم وديانتهم وشريعتهم في جزيرة العرب وخصوصًا في البقاع العامرة منها ومن جملتها اليمن ومدين والحجاز …
ويوجد تشابه بين شريعة موسى وشريعة حمورابي كما بينا ذلك في الهلال العدد الخامس سنة ١٣؛ إذ أتينا بنصوص متقابلة متشابهة في الشريعتين، وحمورابي قبل موسى بثمانمائة سنة.
سفر أيوب
ومما يعد من قبيل آداب العرب في ذلك العصر سفر أيوب، والمرجح عند أهل التحقيق أن صاحب هذا السفر في التوراة عربي الأصل، نظم ذلك الكتاب شعرًا عربيًّا في نحو القرن العشرين قبل الميلاد على أثر نزوح الحمورابيين من بين النهرين، ثم ترجم إلى العبرانية وعد من الأسفار المقدسة، وضاع أصله العربي كما ضاع أصل كليلة ودمنة الفارسي، فإذا ثبتت عربية سفر أيوب كان العرب أسبق الأمم إلى قرض الشعر؛ لأنه نظم قبل إلياذة هوميروس بألف سنة وقبل مهابهاراتة الهند بعدة قرون.
(٢) الجاهلية الثانية أو العصر الجاهلي قبيل الإسلام (من القرن الخامس للميلاد إلى ظهور الإسلام)
إن الحكم على ما تقدم من أحوال الجاهلية الأولى مبني على الحدس والتخمين لاستغراقه في القدم وضياع أخبار تلك الجزيرة بمرور الأيام، ولعلهم إذ نشطوا للحفر والتنقيب كشفوا الستار عن هذه الظنون.
الفرق بين لغة الجاهلية الأولى والثانية
وعلى كل حال إن عرب ذلك العهد القديم يختلفون عن عرب عصر الجاهلية الثانية قبيل الإسلام لغةً ودينًا وأدبًا وخلقًا … فالحمورابيون كان أكثرهم أهل حضارة وتمدن يتوطنون المنازل والمدن، وأما عرب الجاهلية الثانية، فأكثرهم أهل بادية ونجع … وكانت لغة الحمورابيين أقرب إلى الأشورية منها إلى العربية، فلغة أيوب إذا كانت عربية فهي غير عربية مضر التي وصلت إلينا من عرب قريش وسائر الحجاز، وقد يكون الفرق بينهما كثيرًا جدًّا، أكثر من الفرق بين لغة القرآن ولغة عامة مصر أو الشام الآن …؛ لأن أهل هذين الإقليمين قيدوا أنفسهم بالمحافظة على لغة القرآن وأساليبه، فكلما ساقتهم طبيعة النشوة نحو التغيير أعادهم التقليد إلى الأصل، ولولا ذلك لكان الفرق بين لغة عامتنا واللغة الفصحى أبعد من ذلك كثيرًا.
قِسْ مقدار الفرق بين لغة مضر ولغة عمالقة العراق بالفرق الذي وجدوه بين لغة عرب الشام في أوائل القرن الرابع للميلاد مما قرأوه على قبر امرئ القيس بن عمرو ملك الحيرة وبين لغة مضر عند ظهور الإسلام؛ وذلك أنهم عثروا في أطلال النمارة في جوران على حجر عليه كتابة عربية بالخط النبطي نقشت في أوائل القرن الرابع للميلاد أي قبل الإسلام بثلاثة قرون، وهذه صورتها:
- (١)
تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو أسر التاج.
- (٢)
وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجاء.
- (٣)
يزجو (؟) في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه.
- (٤)
الشعوب ووكله لفرس ولروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
- (٥)
عكدي هلك سنة ٢٢٣ يوم ٧ بكسلول بلسعد ذو ولده.
- (١)
هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي تقلد التاج.
- (٢)
وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم وهزم مذحج إلى اليوم وقاد.
- (٣)
الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر وأخضع معدًا واستعمل بنيه.
- (٤)
على القبائل وأنابهم عنه لدى الفرس والروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
- (٥)
إلى اليوم … توفي سنة ٢٢٣ في يوم ١٧ أيلول (سبتمبر) وفق بنوه للسعادة.
وكان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون في ذلك العهد بالتقويم البصروي؛ نسبةً إلى بصرى عاصمة حوران، وهو يبدأ بدخولها في حوزة الروم سنة ١٠٥ للميلاد، فإذا أضيفت إلى ٢٢٣ كان المجموع ٣٢٨ للميلاد وهي السنة التي توفي فيها هذا الملك.
انظر إلى الفرق بين الأصل وتفسيره، والمدة بين هذين العصرين ثلاثة قرون، فكيف تكون وبينهما بضعة وعشرون قرنًا؟ والتغيير طبيعي في كل لغة؛ عملًا بناموس النشوء … اعتبر ذلك في الفرق بين اللغة اللاتينية الأصلية وما تخلف عنها من الإيطالية والإسبانية وبين اللغة الإنجليزية القديمة والحديثة وغير ذلك.
فآداب العرب في جاهليتهم الثانية يراد بها آدابهم قبيل الإسلام وهم أهل بادية لا يقرأون ولا يكتبون … وإنما جمعت هذه الآداب بعد الإسلام بالأخذ عن الأفواه كما سيأتي:
(٣) درجة ارتقاء عقول العرب
وقد يتبادر إلى الأذهان أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة وهمجية؛ لبعدهم عن المدن وانقطاعهم للغزو والحرب … ولكن يظهر مما وصل إلينا من أخبارهم أنهم كانوا كبار العقول أهل ذكاء ونباهة واختبار وحنكة، وأكثر معارفهم من ثمار قرائحهم، وهي تدل على صفاء أذهانهم وصدق نظرهم في الطبيعة وأحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة، فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
لا يقل شيئًا عن أحكام أكابر الفلاسفة … وإنك تجد كثيرًا من أمثال ذلك في أشعارهم، كأن الشعر وصلهم ناضجًا بعد أن عولج قرونًا متطاولة ذهبت أخبارها … فهم لذلك يشكون من أن أسلافهم لم يتركوا لهم معنًى لم يطرقوه كقول عنترة:
وقول زهير:
ارتقاؤهم في السياسة والعمران
على أنك إذا نظرت في لغتهم تبين لك أن أصحابها من أرقى الأمم سياسيًّا واجتماعيًّا وإن عرفناهم بدوًا رحالة … واللغة دليل أخلاق الأمة ومرآة آدابها وسائر أحوالها … ومن المقرر الثابت أن اللغة لا تتولد فيها كلمة إلا للتعبير عن معنى حدث في أذهان أصحابها … فإذا وجدنا لغة من اللغات اسمًا لنوع من اللباس، نحكم حكمًا قاطعًا بأن أصحابها عرفوه أو لبسوه، أو نوعًا من الأطعمة عرفنا أنهم أكلوه، وبعكس ذلك خلوها من أسماء بعض الأدوات، فإنه يدلنا على جهلهم إياها …
وقس على ذلك الألفاظ المعنوية التي تدل على المعاني المجردة كالعواطف والفضائل، فإن وجودها في اللغة يدل على أن أصحابها عرفوا تلك العواطف والفضائل وعانوها … ولذلك كانت لغات الأمم المتوحشة خالية من هذه الألفاظ وأمثالها …
ومن أنواع الكتب: القمطر: كتاب الأعمال، المدرس: الصك، الزبور، الرقيم، والسفر: الكتاب الكبير، والضبار: الكتب بلا واحد، الرهنامج: كتاب الطريق وهو الكتاب الذي يسلك به الربابنة البحر ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها، الوصيرة: الصك للسجلات، وقس على ذلك.
وقد عالجوا ألفاظ لغتهم معالجة الاستثمار فأكثروا فيها من المترادفات التي يدل عشرات أو مئات منها على معنى واحد أو معان متشابهة، وتوسعوا في مدلول اللفظ الواحد حتى تعددت معانيه … فعندهم للفظ العين بضعة وعشرون معنى، ومثلها أو أكثر منها للفظ العجوز، وعشرات من المعاني لألفاظ الخال والخمر والدين والركن والغرب والحر وغيرها، وأقل من ذلك لكثير من الألفاظ مما لا مثيل له في أرقى لغات البشر، وهو يدل على تصرف أصحاب هذه اللغة بالمعاني والمباني؛ لخصب عقولهم وسعة مداركهم …
ارتقاؤهم في التجارة والاقتصاد
ومما يدل على توسعهم في المسائل الاقتصادية كثرة الألفاظ الدالة على المال … فإن منها بضعة وعشرين اسمًا لكل منها معنى من المعاني الاقتصادية التي ترجع إلى الاستثمار وغيره؛ منها: التلاد: المال الموروث، الركاز: المال المدفون، الضمار: المال لا يرجى، الطارف: المال المستحدث، التالد: المال القديم، ونحو ذلك من أسماء النقود وأنواعها من الذهب والفضة، وعندهم للذهب وحده أكثر من عشرين اسمًا كل منها لنوع منه، وفي اللغة العربية مئات من الألفاظ للدلالة على أنواع الأرض والتربة والطين باختلاف الخصب والجدب ونحو ذلك، ومن الأدلة على توسعهم في التجارة والأسفار كثرة أسماء السفن عندهم، وهي عشرات لكل منها معنى خاص لشكل خاص من السفن، ويلحق بذلك أسماء الرياح وهي تزيد على المائة، ولكل منها معنى يدل على نوع الريح وجهتها كقولهم: «إذا وقعت الريح بين الريحين فهي النكباء، فإذا هبت من جهات مختلفة فهي المتناوحة، فإذا ابتدأت بشدة فهي النافجة، فإذا حركت الأغصان وقلعت الأشجار فهي الزعزاع» … وقس على ذلك سائر أسمائها، وهي تدل على توسعهم في معرفة الظواهر الجوية، ومن هذا القبيل أسماء الطرق وأنواع البقاع وغيرها مما يطول بنا شرحه، ومن قبيل المواد التجارية الموازين، فإنها كثيرة، واعتبر ذلك في كثرة أسماء أدوات الصناعة وأواني الأطعمة والرياش والأثاث واللباس مما لا يكاد يحصر، وتجد منه أمثلة كثيرة في المخصص وفقه اللغة ولطائف اللغة وغيرها …
تعقلهم وآراؤهم
ولك في أمثالهم والكنايات في عباراتهم وما نشأ عندهم من الفنون العقلية التي تحتاج إلى تفكير كالأحاجي والألغاز وفتيا العرب أدلة أخرى على ارتقاء أذهانهم وسمو مداركهم، واعتبر ذلك أيضًا في مذاهبهم في الوجود؛ فإنها تدل على تفكيرهم، وقد كان فيهم من ذلك العهد البعيد من يقول بمذهب اللاأدرية، فكان جندب بن عمرو يقول: «إن للخلق خالقًا لا أعلم ما هو»، وهو قول جماعة من فلاسفة اليونان، وإليه يذهب كثير من المفكرين في هذا العصر.
ولا يبعد أن العرب اقتبسوا ذلك وأمثاله من مخالطة بعض العلماء الوافدين عليهم أو في أثناء وفودهم على الشام أو العراق وفيهما العلماء والفلاسفة، ومن هذا القبيل قول الأعشى — وكان نصرانيًّا:
وهو مذهب فلسفي يراد به رفع التبعة عن الإنسان، والمظنون أن الأعشى أخذ ذلك من بعض العباديين بالحيرة …
وترى أقوالهم المأثورة لا تخلو من كناية وخيال شعري وصدق نظر في الأمور، كالأقوال المنسوبة إلى أكثم بن صيفي وغيره من حكمائهم، ويؤيد ذلك أن المسلمين لما تمدنوا وأنشأوا العلوم جعلوا أساس علومهم اللسانية والأدبية والاجتماعية آداب العرب الجاهلية، وما زالوا في كثير منها مقصرين عن إدراك الشأو الذي بلغ إليه أولئك البدو عشراء الجمال وسكنة الصخور والرمال، فالشعراء والخطباء والكتاب وأهل الأدب في الإسلام عمدتهم في إتقان صناعتهم الرجوع إلى ما كان منها قبل الإسلام، والآداب الجاهلية أساس الآداب الإسلامية في إبان التمدن الإسلامي، كما كانت الآداب اليونانية والرومانية أساس الآداب العصرية في التمدن الحديث.
وكان للعرب في جاهليتهم ألقاب يلقبون بها النابغين منهم، كما كان لسائر الأمم المتمدنة قديمًا وحديثًا … فإذا نبغ أحدهم في الشعر سمَّوه «الشاعر» ونسبوه إلى قبيلته، فقالوا: «شاعر تميم» أو عامر أو نحو ذلك، فيكون هذا اللقب مميِّزًا له عن سواه وكذلك الخطيب، وإذا امتاز أحدهم بالحكمة والفصل في الخصومة سموه «الحكم» مثل عامر بن الظرب ونحوه، وكان لهم لقب لا يعطى إلا لمن أحرز كل الآداب والفضائل، وهو لفظ «الكامل» فكانوا يلقبون به الرجل إذا كان شاعرًا شجاعًا كاتبًا سابحًا راميًا وهو يشبه لقب «علَّامة» اليوم ولقب «فيلسوف» عند اليونان القدماء وقد لقبوا به أرسطو، ولعل العرب اقتبسوه منهم.
فبناء على ذلك لا ينبغي لنا أن نستخف بآداب العرب قبل الإسلام ونحسبها قاصرة على الشعر والخطابة واللغة بل هي أكثر من ذلك، ولكن أكثرها ضاع؛ لأنها لم تدون، فذهبت بذهاب الحفاظ بالحروب واشتغال الناس بالإسلام … فنستدل بما بقي على ما كان.
(٤) المرأة في الجاهلية
ومن أكبر الأدلة على رقي العرب في جاهليتهم ارتقاء نسائهم … فقد كان للمرأة عندهم رأي وإرادة، وكانت صاحبة أنفة ورفعة وحزم … فنبغ غير واحدة منهن في السياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة، ولا سيما في أوائل الإسلام على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول، فاشتهرت جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال وأكثرها في المدينة مقر الخلافة الإسلامية في ذلك العهد.
الشهيرات في الشجاعة
فاللواتي اشتهرن في الجاهلية وشدة البطش أو قوة النفس، منهن سلمى بنت عمرو إحدى نساء بني عدي النجار … فإنها كانت امرأة شريفة لا تتزوج الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا رأت من الرجل شيئًا تركته، على أن الغالب في نساء الجاهلية أن يخيرن قبيل الزواج فلا يزوِّج الرجل ابنته إلا بعد أن يشاورها … واشتهرت التيميات من نساء قريش بحظوتهن عند رجالهن وكبريائهن وقسوتهن عليهم، ناهيك بما اشتهرن منهن بالبسالة في أثناء الغزوات، ففي معركة أحد وقع لواء قريش في ساحة القتال، فلم يزل صريعًا حتى أخذته امرأة منهم اسمها عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لهم فلاذوا بها، وفعلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان في تلك المعركة ما لم يفعله الرجال وهي تنشد في تحريض قومها على الثبات، ولما انتهت الواقعة، خرجت مع النسوة تمتار جثث الموتى فوجدت بينها جثة حمزة عم النبي فمثلت بها … ثم علت صخرة وأنشدت أشعارًا تفخر بالفوز على المسلمين …
ونساء الجاهلية كن يصحبن الرجال إلى ساحة القتال، فيداوين الجرحى ويحملن قرب الماء، وممن اشتهرن بالشجاعة أم عمارة بنت كعب الأنصارية، وأم حكيم بنت الحارث، والخنساء الشاعرة أخت صخر وغيرهن …
الشهيرات في الرأي والحزم
الشهيرات في الشعر والأدب
وكان للمرأة في الجاهلية شأن في الشعر والأدب وسائر العلوم، فنبغ منهن عدة شواعر أشهرهن الخنساء وخرنق، ولهما أشعار مطبوعة ومنشورة على حدة … وهناك عشرات من النساء الشواعر ذهبت أشعارهن إلا قليلًا جاءنا عرضًا في بعض الأخبار … منهن كبشة أخت عمرو بن معدي كرب، وجليلة بنت مرة امرأة كليب الفارس المشهور، ولها فيه مراثٍ لم ينظم أحسن منها، وميسة بنت جابر امرأة حارثة بن بدر، وقد رثت زوجها، وأميمة امرأة ابن الدمينة فقد قالت شعرًا في عتابه لم يقل في العتاب أحسن منه، وسيأتي خبر ذلك في ترجمته، وغيرهن مما يطول شرحه، وكان أبو نواس يروي لستين شاعرة من العرب.
وكان عندهم خطيبات، اشتهر منهن هند بنت الخس وهي الزرقاء وجمعة بنت حابس، وكان فيهن طبيبات أشهرهن زينب طبيبة بني أود كانت تعرف الطب وتعالج العين والجراح، غير من كن يرافقن المحاربين ويضمدن الجراح في ساحة الحرب.
وهناك طبقة من النساء شغفن بالشعر وحفظنه للمذاكرة به في المجالس، فإن عائشة أم المؤمنين كانت تحفظ كل شعر لبيد، ومنهن من كان الشعراء يتقاضون إليها لتحكم في أيهما أشعر، كما فعلت جندب زوجة امرئ القيس؛ إذ حكمها زوجها بينه وبين علقمة الفحل، فحكمت حكمًا يدل على ذكاء ومعرفة كما سيجيء في ترجمة علقمة.
وهناك جماعة نبغن في صدر الإسلام وفيهن مناقب الجاهلية … كن يعقدن المجالس للمذاكرة في الشعر وانتقاده، كما كانت تفعل سكينة بنت الحسين فإنها كانت تجمع الشعراء إليها وتحادثهم وتنتقدهم، وأخبارها مشهورة، وكذلك عائشة بنت طلحة، وكانت أديبة عالمة ولها مجالس أدب وشعر، وكان في مكة امرأة جزلة اسمها خرقاء عندها سماطان من الأعراب تحدثهم وتناشدهم بلا ريب ولا سوء ظن، ومثلها عمرة امرأة أبي دهبل الشاعر؛ فقد كانت جزلة يجتمع إليها الرجال للمحادثة وإنشاد الشعر قبل أن يتزوجها، ومن هناك عرفها وتزوجها.
فاجتمع الرجال والنساء للمحادثة والمذاكرة على هذه الصورة بلا ريبة ولا سوء ظن، لم يبلغ إليه الناس إلا في الأمم الراقية وفي أرقى جماعاتهم.
وبالجملة فالأمة التي تكون هذه حال نسائها وينبغ فيها مثل من تقدم ذكرهن في الشجاعة والأدب والشعر والرأي أمة راقية.
(٥) أقسام آداب العرب قبل الإسلام
تقسم آداب العرب قبل الإسلام إلى علوم عربية أصلية اقتضتها اللغة العربية وأساليبها وقرائح أهلها ونسميها العلوم العربية … وعلوم رياضية وأخرى طبيعية ونحوها، وأكثرها دخيل، على هذه الصورة:
العلوم العربية | العلوم الطبيعية | العلوم الرياضية | ما وراء الطبيعة |
---|---|---|---|
اللغة | الطب | الفلك | الكهانة |
الشعر | البيطرة والخيل | الميثولوجيا | العيافة |
الخطابة | مهاب الرياح | التوقيت | القيافة |
النسب | تعبير الرؤيا | ||
الأمثال | الزجر | ||
الأخبار | الخط في الرمل | ||
مجالس الأدب | |||
الأسواق |
فالعلوم العربية الأصلية أهمها كلها … وهي التي كانت مطمح طلاب الأدب بعد الإسلام ولا تزال، فإن بلاغة الجاهلية وشعر الجاهلية وأمثال الجاهلية لا يزال الأدباء يتحدونها وينسجون على منوالها إلى اليوم، أما العلوم الطبيعية فقد حوروها بما أخذوه عن اليونان والفرس، وكذلك الرياضيات، أما علوم ما وراء الطبيعة فبعضها انقرض كالكهانة والقيافة والزجر، وبعضها تبدل وتقدم كتعبير الرؤيا وخط الرمل، فنقدم الكلام في الأهم منها.