الخطابة في عصر صدر الإسلام
والفرق بين الخطابة في الجاهلية وفي الإسلام أن الإسلام زادها بلاغة وحكمة بما
كان يتوخاه الخطباء من تقليد أسلوب القرآن واقتباس الآيات القرآنية، وقد كان للقرآن
نحو هذا التأثير في الشعر أيضًا، ولكن الخطابة أوسع مجالًا للاقتباس، فأخذ الخطباء
يرصعون خطبهم بالآيات القرآنية تمثلًا أو إشارة أو تهديدًا حتى لقد يجعلون الخطبة
برمتها مجموع آيات، كما فعل مصعب بن الزبير لما قدم العراق وأراد أن يحرض أهله على
الطاعة لأخيه عبد الله، فصعد المنبر وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم
طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (وأشار بيده نحو الشام)
وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين، (وأشار بيده نحو الحجاز)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ، (وأشار
بيده نحو العراق)».
١
وزادت الخطابة بعد الإسلام قوة ووقعًا في النفوس بنهضة العرب للحروب وانتصارهم في
أكثر مواقعها، فازدادوا أنفة وسمت نفوسهم فسما بها ذوقهم في البلاغة وشحذت قرائحهم
بما شاهدوه في البلاد الجديدة والأمم الجديدة والألسنة الجديدة، فبلغت الخطابة
عندهم مبلغًا قلما سبقهم فيه أحد من الأمم التي تقدمتهم بلاغة وإيقاعًا وتأثيرًا …
حتى اليونان والرومان، ولا ننكر ما كان من تفوق هاتين الأمتين في الخطابة وما نبغ
بين رجالهما من الخطباء الذين لا يشق لهم غبار: كديموستنيس، وبروتاجوراس، وبريكليس،
من خطباء اليونان، وشيشرون، ويوليوس قيصر، من خطباء الرومان، ولكن العرب لم يأتوا
بأقل مما أتى به أولئك بلاغة ووقعًا، وربما كان الخطباء في الإسلام أكثر عددًا،
وخطبهم أوفر وأبلغ مع اعتبار الفرق بين الأمتين لغةً وخلقًا وأدبًا.
فقد ذكروا لديموستنيس أخطب خطباء اليونان ٦١ خطبة نصفها منسوب إليه خطأ، وهذه خطب
الإمام علي تُعد بالمئات، وأما في كثرة الخطباء فالعرب كانوا في صدر الإسلام من
أكثر الأمم خطباء؛ لأن خلفاءهم وأمراءهم وقوادهم كان معظمهم من الخطباء حتى النساك
والزهاد.
٢
ولا غرابة في ذلك لأن العرب أهل خيال وذوو نفوس حساسة، وللبلاغة تأثير شديد في
عواطفهم تقعدهم وتقيمهم، وقد كان ذلك من جملة ما ساعد على نشر الإسلام بينهم،
وكثيرًا ما توقف فتح البلد أو الحصن على خطاب يتلوه القائد على رجاله فتثور فيهم
النخوة وتسري في عروقهم الحماسة، فيستميتون في الدفاع أو الهجوم، وفي أخبار الفتوح
أدلة كثيرة لا يساعد المقام على إيرادها، وكثيرون من القواد إنما ساعدهم على النصر
قوة عارضتهم وتأثير خطبهم في نفوس رجالهم.
وإذا رجعت إلى حوادث الفتح أو جمع الأحزاب أو إخماد الثورات، رأيت عجبًا، وأول
ثورة كادت تهب في الإسلام ثورة أهل المدينة لما بلغهم موت الرسول، فهاجوا حتى خاف
الصحابة سوء العاقبة، فقام أبو بكر خطيبًا فقال: «أيها الناس إن يكن محمد قد مات
فإن الله حي لم يمت … وتلا الآية الكريمة:
وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ٣ فهذه الكلمات القليلة كانت كافية لإخماد تلك الثورة، وقس على ذلك خطب
السقيفة وخطب من تولى بعده من الخلفاء الراشدين.
وأعظم الخطباء في عصر صدر الإسلام الرسول والخلفاء والقواد، وترى أمثلة من
أقوالهم متفرقة في السيرة النبوية وكتب الغزوات والفتوح والتاريخ، وفي العقد الفريد
وغيره من كتب الأدب، وكلها مطبوعة مشهورة، وأشهر خطباء ذلك العصر الإمام علي بن أبي
طالب؛ فقد جمعت خطبه في كتاب «نهج البلاغة» جمعها الشريف المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ﻫ،
ولا نظن كل ما حواه من الخطب له، وقد شرح نهج البلاغة غير واحد، وطبع مرارًا في
الشام ومصر، ومنها شرح مطول لعبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي طبع في طهران في
عشرين جزءًا، وفيه فوائد جمة عن تاريخ الإسلام وتمدنه.
هوامش