اللغة والإنشاء في عصر صدر الإسلام
وكان لظهور الإسلام تأثير كبير في اللغة العربية وأساليبها وألفاظها لتشرب قرائح المسلمين روح القرآن، وحفظهم كلامه وإعجابهم به، وطبيعي أن الكاتب تتكيف ملكة اللغة فيه على مقتضى محفوظه من أشعارها وأمثالها وأساليبها، فلا غرو إذا ظهرت أساليب القرآن وألفاظه في لغة المسلمين: شعرًا ونثرًا، كتابة وخطابة، ويرجع ذلك التغيير إلى قسمين: تغيير في الأسلوب، وتغيير في الألفاظ.
(١) التغيير في الأسلوب
أما الأسلوب الإنشائي فلا يمكننا تعيين مقدار التغيير الذي أصابه إلا بالرجوع إلى ما وصلنا من إنشاء الجاهليين، والفرق بينه وبين أسلوب القرآن كالفرق بين الثريا والثرى … أين قول طريفة كاهنة اليمن حين خاف أهل مأرب سيل العرم وعليهم مزيقياء عمرو بن عامر، فإنها قالت لهم: «لا تؤموا مكة حتى أقول وما علمني ما أقول إلا الحكم المحكم رب جميع الأمم من عرب وعجم إلخ» من أساليب القرآن؟
وتولد في صدر الإسلام ضرب من الإنشاء من أبلغ ما يكون، وأحسن الأمثلة عليه مخاطبات الخلفاء والقواد، وكلها من السهل الممتنع … ككتاب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص لما بعث به إلى فتح مصر، ثم تخوف فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عليه سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئًا من أرضها … فامض واعلم أني ممدك».
وكتب ابن الخطاب إلى ابن العاص يستنجده في مجاعة بقوله: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاص سلام، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي فيا غوثاه ثم يا غوثاه» فكتب إليه عمرو: «إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بِعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي والسلام».
ذلك أسلوبهم فيما يكتبونه أو يقولونه من المخابرات السياسية أو الخطب الحماسية أو العهود أو العقود … حتى إنك إذا قرأت لهم رسالة تبينت أسلوب صدر الإسلام فيها، فيهون عليك التفريق بين الصحيح والموضوع منها …
وتجد أمثلة من المخابرات السياسية والخطب ونحوها على أسلوب صدر الإسلام في كتب الفتوح والغزوات، كفتوح الشام للواقدي، وفتوح البلدان للبلاذري، ومنها جانب كبير في خطط المقريزي عن فتوح مصر، وتجد معظمها مجموعًا في كتاب فتوح الشام للشيخ أبي إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدي البصري من أهل أواسط القرن الثاني للهجرة طُبع في كلكته سنة ١٨٥٤، وقد شاهدنا فيه ما لم نشاهده في غيره مما وصل إلينا من كتب الفتح … فإنه عبارة عن مجموع المخابرات السياسية أو الأوامر الرسمية التي جرت بين الخلفاء الراشدين وقوادهم أو ما تكاتب به القواد أو ما كتبوه إلى كبراء الروم وغيرهم، أو ما عقدوه من العهود في أثناء حروبهم في الشام إلى فتحها وفتح أجنادها … كأنها الأصول التي أخذت أخبار الفتح عنها.
(٢) التأثير في الألفاظ
أما تأثير القرآن الكريم في ألفاظ اللغة فضلًا عن الأسلوب، فظاهر فيما دخلها من الألفاظ الإسلامية مما اقتضاه الإصلاح الديني أو الشرعي، وأكثر هذه الألفاظ كانت موجودة في اللغة قبل الإسلام، لكنها كانت تدل على معانٍ أخرى فتحولت للدلالة على ما يقاربها من المعاني الجديدة، فلفظ «مؤمن» مثلًا كان معروفًا في الجاهلية، ولكنه كان يدل عندهم على الأمان أو الإيمان وهو التصديق … فأصبح بعد الإسلام يدل على المؤمن وهو غير الكافر، وله في الشريعة شروط معينة لم تكن من قبل، وكذلك المسلم والكافر والفاسق ونحوها، ومما حدث من المصطلحات الشرعية الصلاة وأصلها في العربية الدعاء، وكذلك الركوع والسجود والحج والزكاة … فقد كان لهذه الألفاظ وأشباهها معانٍ تبدلت بالإسلام وتنوعت.
وقس على ذلك المصطلحات الفقهية، كالإيلاء والظهار والعدة والحضانة والنفقة والإعتاق والاستيلاد والتعزير واللقيط والآبق والوديعة والعارية والشفعة والفرائض والقسامة وغيرها.
وفي كتابنا «تاريخ اللغة العربية» بحث ضاف فيما دخل اللغة من الألفاظ والأساليب قبل الإسلام وبعده.