(١) جمع القرآن وتدوينه
لم يحدث في عصر صدر الإسلام علم، ولكن فيه وضعت جرثومة العلوم الشرعية بجمع
القرآن وحفظ الحديث، والقرآن لم ينزل مرة واحدة، وإنما نزل تدريجيًّا في أثناء
عشرين سنة على مقتضى الأحوال من أول ظهور الدعوة إلى وفاة النبي، بعضه في مكة
وبعضه في المدينة، فكان كلما قال آية أو سورة كتبوها على صحف الكتابة في تلك
الأيام، وهي الرقاع من الجلود والعريض من العظام كالأكتاف والأضلاع وعلى العسب
وهي قحوف جريد النخل واللخاف وهي الحجارة العريضة البيضاء، فتوفي النبي سنة ١١ﻫ
والقرآن إما مدون على أمثال هذه الصحف أو محفوظ في صدور الرجال، وكانوا يسمون
حفظته «القراء».
وكان أكثر الناس عناية بتدوينه على عهد النبي علي بن أبي طالب، وعبد الله بن
مسعود، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وثابت بن زيد، وأبيُّ بن كعب،
وغيرهم،
١ فلما قام أبو بكر بالأمر وارتد أهل جزيرة العرب عن الإسلام، بعث
جندًا لمحاربتهم فقتل من الصحابة في تلك الحروب جماعة كبيرة، وخصوصًا في غزوة
اليمامة قُتل فيها وحدها ١٢٠٠ من المسلمين فيهم ٧٠٠ من القراء، فلما بلغ ذلك
أهل المدينة فزعوا فزعًا شديدًا وخصوصًا عمر بن الخطاب رجل الإسلام والمسلمين،
فأشار على أبي بكر بجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بموت أهله، فتوقف أبو بكر
وقال: «كيف أفعل أمرًا لم يفعله رسول الله ولم يعهد إلينا فيه عهدًا» فما زال
به عمر حتى أقنعه بجمعه، فأحضر أبو بكر زيد بن ثابت لأنه كان من كتبة الوحي،
فجمع ما كان مدونًا عند الصحابة، وربما وجد السورة مكتوبة عند اثنين أو ثلاثة
أو أكثر، وقد لا يوجد من الآيات إلا نسخة واحدة كآخر سورة التوبة، فإنه لم يوجد
منها إلا نسخة واحدة عند أبي خزيمة الأنصاري،
٢ فجمعه من تلك المحفوظات ومن صدور الرجال وسلمه إلى أبي بكر … فظلت
الصحف عنده حتى توفي سنة ١٣ﻫ، فلما تولى عمر تسلمها وظلت عنده حتى توفي سنة
٢٣ﻫ، فانتقلت إلى ابنته حفصة من أزواج الرسول الكريم.
وفي أيام عثمان اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في مصر والشام والعراق وفارس
وإفريقية وفيهم القراء، وعند بعضهم نسخ من القرآن، وقد رتبها كل منهم ترتيبًا
خاصًّا، فعول أهل كل مصر على من قام بينهم من القراء، فأهل دمشق وحمص مثلًا
أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة أخذوا عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن
أبي موسى الأشعري،
٣ ومع شدة عناية القراء بحفظ القرآن وضبطه، لم ينجوا من الاختلاف في
قراءة بعض آياته.
واتفق في أثناء ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في جملة من حضر غزوة أرمينيا
وأذربيجان، فرأى في أثناء سفره اختلافًا بين المسلمين في قراءة بعض الآيات،
وسمع بعضهم يقول لبعض: «قراءتي خير من قراءتك» فلما رجع إلى المدينة أنبأ عثمان
بذلك وأنذره بسوء العقبى إن لم يتلافَ الأمرَ إلى أن قال: «أدرك هذه الأمة قبل
أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى» فبعث عثمان إلى حفصة أن «أرسلي
إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك» فأرسلتها، فدعا عثمان زيد بن
ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام،
وأمرهم أن ينسخوا القرآن ويستعينوا على القراءة بما حفظه القراء، وقال لهم:
«إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما أُنزل بلسانهم،
ففعلوا
٤ سنة ٣٠ هجرية وكتبوا أربعة مصاحف بعثها عثمان إلى الأمصار الأربعة:
مكة، والبصرة، والكوفة، والشام،
٥ واثنين أبقاهما في المدينة واحد لأهلها وواحد لنفسه وهو الذي
يسمونه «الإمام» ثم أمر بجمع ما كان قبل ذلك من المصاحف والصحف
٦ وأمر بإحراقه».
فأصبح المعول في المصاحف على ما كتبه عثمان، واشتغل المسلمون في الأمصار
باستنساخ تلك المصاحف … فنسخوا منها شيئًا كثيرًا في مدة قليلة، ذكر المسعودي
في عرض كلامه عن واقعة صفين بين علي ومعاوية وما كان من ظهور علي وما أشار به
عمرو بن العاص من رفع المصاحف: «ورُفِعَ من عسكر معاوية نحو من خمسمائة
مصحف»،
٧ وليست هذه كل مصاحف المسلمين، فاعتبر هذا العدد وبين كتابة مصحف
عثمان وواقعة صفين سبع سنين.
ومع تشديد الصحابة في التعويل على مصحف عثمان دون سواه، فقد ظل عند بعض
المسلمين نسخ من مصاحف أخرى أشهرها مصحف علي. ويعتقد الشيعة أن عليًّا أول من
خط المصاحف عند وفاة النبي، وتنوقل مصحفه في شيعته وبقي عند أهل جعفر، وقد ذكر
ابن النديم في كتاب الفهرست أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسني مصحفًا بخط علي
يتوارثه بنو حسن
٨ ومنها مصحف عبد الله بن مسعود وأبيِّ بن كعب، ولكل منها ترتيب خاص
في سورة.
٩
(٢) الخط العربي وتاريخه
بمناسبة كلامنا على جمع القرآن في زمن الخلفاء الراشدين، نأتي بتاريخ الخط،
وإن تجاوزنا في تاريخه ما بعد هذا العصر؛ استيفاء للكلام في موضوع واحد،
فنقول:
ليس في آثار العرب بالحجاز ما يدل على أنهم كانوا يعرفون الكتابة إلا قبيل
الإسلام، مع أنهم كانوا محاطين شمالًا وجنوبًا بأمم من العرب خلفوا نقوشًا
كتابية كثيرة، وأشهر تلك الأمم حمير في اليمن، كتبوا بالحرف المسند، والأنباط
في الشمال كتبوا بالحرف النبطي، وآثارهم باقية إلى هذه الغاية في ضواحي حوران
والبلقاء، وقد عثر المنقبون على آثار كتابية في الحجاز لكنها بالخط المسند،
والسبب في ذلك أن الحجازيين أو عرب مضر كانت البداوة غالبة على طباعهم،
والكتابة من الفنون الحضرية.
على أن بعض الذين رحلوا منهم إلى
العراق أو الشام قبل الإسلام تخلقوا بأخلاق الحضر واقتبسوا الكتابة منهم على
سبيل الاستعارة، فعادوا وبعضهم يكتب العربية بالحرف النبطي أو العبراني أو
السرياني، ولكن النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف
عن الأول الخط النسخي (الدارج) وعن الثاني الخط الكوفي؛ نسبة إلى مدينة الكوفة
… وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة … وهي مدينة عرب
العراق قبل الإسلام، وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها …
ومعنى ذلك أن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام عن الخط السرياني
في جملتها قلم يسمونه «السطرنجيلي» كانوا يكتبون به أسفار الكتاب
المقدس
١٠ فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام، وكان من أسباب تلك
النهضة عندهم، وعنه تخلف الخط الكوفي وهما متشابهان حتى الآن …
واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب، والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه … وذلك أن
رجلًا منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة
الجندل تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية
أخت أبي سفيان، فعلم جماعة من أهل مكة، فكثر من يكتبه من قريش
١١ عند ظهور الإسلام، أما الخط النبطي فكتبوا به اللغة العربية قبل
ذلك ببضعة قرون.
والخلاصة على كل حال أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجارتهم
إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبيل الإسلام بقليل، وظل الخطان
معروفين عندهم بعد الإسلام، والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معًا: الكوفي
لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية، كما كان سلفه السطرنجيلي يُستخدم عند
السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات
والمكاتبات الاعتيادية. ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي، فضلًا
عن شكله، أن الألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة تُحذف، وتلك قاعدة مطردة في
الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعًا في أوائل الإسلام وخصوصًا في القرآن …
فيكتبون «الكتب» بدل «الكتاب» و«الظلمين» بدل «الظالمين».
فجاء الإسلام والكتابة معروفة في الحجاز ولكنها غير شائعة، فلم يكن يعرف
الكتابة في مكة إلا بضعة عشر إنسانًا أكثرهم من كبار الصحابة وهم: علي بن أبي
طالب، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان وأبان ابنا سعيد بن خالد بن
حذيفة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي،
وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزى،
وأبو سفيان بن حرب وولده معاوية، وجهيم بن الصلت بن مخرمة، ثم تعلم غيرهم من
الصحابة، ومنهم خرج كتاب الدواوين للخلفاء الراشدين وكتاب الرسائل وكتاب
القرآن، فكتبوا القرآن بالكوفي أيام الراشدين وأيام بني أمية، وفي أيامهم تفرع
الخط المذكور إلى أربعة أقلام اشتقها بعضها من بعض كاتب اسمه قطبة كان أكتَب
أهل زمانه، وكان يكتب لبني أمية المصاحف، ثم اشتهر بعده الضحاك بن عجلان في
أوائل الدولة العباسية، فزاد على قطبة، ثم زاد إسحاق بن حماد وغيره، فبلغت
الأقلام العربية إلى أوائل الدولة العباسية ١٢ قلمًا، وهي: قلم الجليل، قلم
السجلات، قلم الديباج، قلم أسطورمار الكبير، قلم الثلاثين، قلم الزنبور، قلم
المفتح، قلم الحرم، قلم المدامرات، قلم العهود، قلم القصص، قلم الحرفاج، وفي
أيام المأمون تنافس الكتاب في تجويد الخط، فحدث القلم المرصع وقلم النسخ، وقلم
الرئاسي — نسبة إلى مخترعه ذي الرئاستين الفضل بن سهل — وقلم الرقاع وقلم غبار
الحلبة.
١٢
فزادت الخطوط على عشرين شكلًا، وكلها تُعد من الكوفي، وأما الخط النسخي أو
النبطي؛ فقد كان شائعًا بين الناس لغير المخطوطات الرسمية حتى إذا نبغ ابن مقلة
المتوفى سنة ٣٢٨ﻫ، فأدخل في الخط المذكور تحسينًا، جعله على ما هو عليه الآن
وأدخله في كتابة الدواوين، والمشهور عند المؤرخين أن ابن مقلة نقل الخط من صورة
القلم الكوفي إلى صورة القلم النسخي، والغالب في اعتقادنا أن الخطين كانا
شائعين معًا من أول الإسلام، الكوفي للمصاحف ونحوها، والنسخي (أو النبطي)
للرسائل ونحوها كما تقدم، وأن ابن مقلة إنما جعل الخط النسخي على قاعدة جميلة
حتى يصلح لكتابة المصاحف. وقد شاهدنا في معرض الخطوط العربية القديمة في دار
الكتب المصرية رقوقًا وقطعًا من البردي عليها كتابات بالخط النسخي بعضها من
أواخر القرن الأول للهجرة، ورأينا عقد نكاح مكتوبًا في أواسط القرن الثالث
للهجرة سنة ٢٦٤ﻫ على ورق مستطيل في أعلاه صورة العقد بالقلم الكوفي المنتظم
وتحتها خطوط الشهود بالقلم النسخي بغاية الاختلال … فابن مقلة حسَّن هذا الخط
تحسينًا وأدخله في كتابة المصاحف.
ثم تفرع الخط النسخي المذكور بتوالي الأعوام إلى فروع كثيرة، وأصبحت الأقلام
الرئيسية في اللغة العربية اثنين: الكوفي والنسخي، ولكل منهما فروع كثيرة اشتهر
منها بعد القرن السابع للهجرة ستة أقلام هي: الثلث، والنسخي، والتعليقي،
والريحاني، والمحقق، والرقاع، واشتهر من الخطاطين جماعة كبيرة ألفوا فيه الكتب
والرسائل، بعضها في أدوات الخط كالأقلام وطرق بريها وأحوال الشق والقط والدواة
والمداد والكاغد وغير ذلك، وما زال الخط يتفرع إلى اليوم ولن يزال إلى ما شاء
الله؛ عملًا بسنة النشوء والارتقاء.
وفي آخر الجزء الأول من كتاب صبح الأعشى للقلقشندي (طبع دار الكتب المصرية)
باب خاص في الكتابة وأدواتها، وتوابعها يدخل في ٣٠ صفحة كبيرة (من صفحة
٥٤٦–٥٧٦) وتجد أقوالًا تتعلق بالخط العربي في كشف الظنون ٤٤٦ ج١، وابن خلكان
٣٤٦ ج١، والعقد الفريد ١٦٢ ج٢، وابن خلدون ٢٠٥، و٣٤٨ ج١، والأغاني ١٩ ج٢، ١٠٦
ج٤، و٥٠ ج٧، وفي المزهر ١٧٧ ج٢.
أما ما يلحق الخط من الحركات والإعجام ونحوهما من العلامات، فسيأتي الكلام
عليها في العصر الأموي.