العلوم الشرعية
ونريد بالعلوم الشرعية العلوم المستخرجة من القرآن والحديث، وأهمها علوم القرآن والحديث والفقه، ولكل منها فروع تولدت بتوالي الأجيال، وكانت في العصر الأموي في دور تكوينها، وهي يومئذ القراءة «قراءة القرآن» والحديث «ضبط الحديث» والفقه، وقبل التقدم إليها نمهد بالكلام في البصرة والكوفة.
(١) البصرة والكوفة
هما من المدن الإسلامية التي اختطها العرب لأنفسهم. وكانوا قبل الإسلام أهل ماشية وخيام وخيل يكرهون الإقامة داخل الأسوار، وينفرون من الانحصار في المدن، فلما تأيد الإسلام واجتمع العرب على فتح الأمصار في العراق والشام ومصر، كانوا في بادئ الرأي إذا ساروا إلى غزو أو فتح اصطحبوا نساءهم وعيالهم … فإذا فتحوا بلدًا أقاموا في ضواحيه بخيامهم وأخبيتهم وهو معسكرهم. وكان عمر بن الخطاب يشترط على جنده المقيمين في الأمصار ألا يقيموا في مكان يحول الماء فيه بينهم وبينه، حتى إذا أراد أن يركب راحلته إليهم ركب، كذلك فعل عمرو بن العاص في الفسطاط، وسعد بن أبي وقاص في الكوفة والبصرة، وكانت كلها مضارب لجند العرب الفاتحين يعبرون عنها بالرباط أو المعسكر، فإذا طال بهم المقام اختطوا الأسواق وبنوا المنازل والقصور، ذلك كان شأنهم في صدر الإسلام، فبنوا البصرة والكوفة على هذه الصورة.
على أنهم ظلوا نازعين إلى البداوة بعد تخطيط البصرة لأول عهدها، فبنوا مسجدها ودار إمارتها بالقصب، وكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب وحزموه، وحفظوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان، واعتبر ذلك في الكوفة أيضًا … التماسًا لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة، وهم يختارون أقربها إلى البادية بلدهم القديم … فالبصرة والكوفة أوفق البلاد لهم لأنهما على الحدود بين جزيرتهم والعراق …
فأول من عمر البصرة والكوفة الفاتحون وأهلهم، ثم اتسعت الفتوح الإسلامية شرقًا وغربًا، ورسخت دولة المسلمين حتى نزح العرب بأهلهم وخيلهم …
المربد أو عكاظ الإسلام
انتقل العرب إلى هذين البلدين ونقلوا معهم عاداتهم الجاهلية وأخلاقهم العربية، فانقسموا فيها قبائلَ وبطونًا: عرب اليمن في أحد طرفي البلد، وعرب الحجاز في الطرف الآخر، وانقسمت المنازل في كل جانب حسب البطون والأفخاذ، وأقاموا فيها أسواقًا أدبية مثل أسواقهم في الجاهلية للمفاخرة والمناضلة والمناشدة: أشهرها «المربد» في البصرة وكان سوقًا من أسواقها يُعرف بسوق الإبل، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس وأقاموا بها مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء، ويدلك على سعته وسعة البصرة أن المربد كان في زمن ياقوت بالقرن السادس للهجرة بعد انحطاط دولة العرب، كالبلد المنفرد، وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك عامرًا، فتأمل …
وكان الأشراف يخرجون أيضًا إلى المربد للمذاكرة أو المناشدة، وكذلك كان يفعل أشراف الكوفة يخرجون إلى ضواحيها لمثل هذا الغرض … لكن المربد غلب على سائر الأسواق كما غلبت عكاظ في الجاهلية.
مدينة السياسة ومدينة العلم
وفي عصر صدر الإسلام كانت المدينة عاصمة المسلمين ومقر علمائهم، وهم يومئذ القراء والحفاظ من الصحابة، ثم أفضت الدولة إلى بني أمية، وانتقلت عاصمة الإسلام إلى دمشق واختلفت الأحزاب وتحصن ابن الزبير في مكة وأخرج بني أمية وأنصارهم من المدينة وسائر الحجاز، وقد علمت رغبة الأمويين في استيفاء الطبائع العربية البدوية، فنشطوا الآداب الجاهلية ولا سيما الشعر لأسباب سيأتي تفصيلها، فوجدوا في البصرة والكوفة ما ينوب عن مكة والمدينة من هذا القبيل، وإن ظلوا مضطرين إلى الحجاز لأن فيه الكعبة وقبر الرسول وسائر مناسك الحج …
وكان في المدينة على عهد معاوية طائفة من أبناء الصحابة يخشى قيامهم للمطالبة بالخلافة، كما فعل عبد الله بن الزبير فأعماهم معاوية بالعطايا وقيدهم بالإحسان ووسعهم بالحلم، فركنوا إلى التمتع بالدنيا من طعام وشراب وسماع … ينفقون في ذلك الأموال وهي تتدفق عليهم من خزائن الشام، فلما تولى عبد الملك بن مروان «سنة ٦٥ﻫ» كانت المدينة قد أصبحت مسرحًا للهو والغناء، ونبغ فيها طائفة من المغنين وتكاثر فيها المخنثون وأهل القصف إلا مَن كان فيها من الحفاظ والقراء، فعلم عبد الملك أن أعداءه هناك لا يخشى بأسهم لاشتغالهم بأنفسهم وملاذهم، فجعل همه صرف أذهان أهل الأدب والعلم عن بلاد العرب إلى البصرة … فجعلها ملجأ الشعراء والأدباء وغيرهم، وكانت في أيامهم لا تزال كالبادية يقيم العرب حولها في المضارب قبائلَ وبطونًا … فأصبحت الشام في أيامه دار الملك والبصرة دار العلم، ولم ينبغ شاعر أو خطيب في بلاد العرب كلها إلا جاء البصرة والكوفة فازدحمت الأقدام فيهما، وبعد زمن يسير خلت جزيرة العرب من أهل الأدب إلا اليمامة وبعض الحجاز …
سكان البصرة والكوفة
وتقاطر إلى البصرة والكوفة أيضًا أهل المدن المجاورة في العراق والشام وفارس من طلاب الرزق للاستفادة من تلك النهضة السياسية بالتجارة أو الصناعة أو غيرهما، فاجتمع في تلك البقعة لفيف من أمم شتى مصيرهم إلى التعريب …؛ لأن العربية كانت قد أصبحت لغة الدولة والدين، ولا بد منها لمن أقام في تلك الديار من المسلمين وغيرهم بعد أن تحولت دواوينها إلى العربية كما تقدم، فاشتدت الحاجة إلى ضبطها وجمع ألفاظها، غير ما بعث إلى ذلك من الأسباب الأخرى، ونظرًا لرغبة الأمويين في الاحتفاظ بالبداوة شجعوا آداب الجاهلية على الخصوص، فاشتغل الناس بتدوينها ونبغ الرواة والأدباء وغيرهم.
وبعد أن مهدنا للكلام بوصف البصرة والكوفة، نتقدم إلى العلوم الشرعية الإسلامية وأساسها القرآن، وقد ذكرنا كيفية جمعه وتدوينه في عصر صدر الإسلام …
(٢) قراءة القرآن الكريم (في العصر الأموي)
هي أقدم العلوم الشرعية الإسلامية، وكان للقراء شأن في صدر الإسلام عظيم يومئذ فسموا الذين كانوا يحفظون القرآن «قراء»؛ تمييزًا لهم عن سائر المسلمين لأنهم كانوا أميين، وقد تقدم أن السبب الذي حمل عثمان على جمع القرآن وكتابته ما بلغه من اختلاف الصحابة في قراءته، على أنه لم يمضِ على إرسال مصاحفه إلى الأمصار زمن قصير، حتى أصبح لأهل كل مصر قراءة خاصة يتبعون فيها قارئًا يثقون بصحة قراءته وتنوقل ذلك واشتهر، ثم استقر منها سبع قراءات تواتر نقلها بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها فصارت هذه القراءات السبع أصولًا للقراءة، ويعدها بعضهم عشرًا.
- (١) عبد الله بن كثير توفي سنة ١٢٠ﻫ في مكة، وهو من الموالي أصله من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى بالسفن إلى اليمن حيث طرد الحبشة عنها، وكان شيخًا كبيرًا أبيض الرأس واللحية طويلًا جسيمًا أسمر أشهل العينين، يغبر شيبته بالحناء.٦
- (٢) عاصم بن أبي النجود توفي سنة ١٢٧ﻫ في الكوفة، وهو مولى بني جذيمة أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش.٧
- (٣)
عبد الله بن عامر اليحصبي من الطبقة الأولى من التابعين، توفي بدمشق سنة ١١٨ﻫ.
- (٤)
علي بن حمزة أبو الحسن الكسائي الذي انتهت إليه رياسة الإقراء بالكوفة، توفي سنة ١٨٩ﻫ.
- (٥)
حمزة بن حبيب الزيات، توفي بحلوان العراق سنة ١٥٦ﻫ، وهو مولى آل عكرمة.
- (٦)
أبو عمرو بن العلاء من تميم، توفي سنة ١٥٥ﻫ بالكوفة، وهو العلم المشهور في علم القراءة واللغة العربية، وسيأتي ذكره مرارًا في تاريخ آداب اللغة …
- (٧) نافع بن أبي نعيم، توفي سنة ١٦٩ﻫ بالمدينة، وهو مولى، وكان أسود شديد السواد وأصله من أصبهان، ويظهر من تأخر وفاته عن زمن انتقال الدولة إلى العباسيين أنه كان في العصر الأموي صغيرًا.٨
القراءات الشاذة
كتب القراءة
- (١)
كتاب الإيضاح في الوقف والابتداء لمحمد بن قاسم الأنباري المتوفى سنة ٣٢٨، منه مجلد ناقص في دار الكتب المصرية بخط قديم يشبه أن يكون من خطوط القرن الرابع للهجرة، ومنه نسخة في المتحف البريطاني وفي مكتبة كوبريلي بالأستانة.
- (٢)
كتاب التيسير في القراءات السبع لابن الصيرفي من أهل دانية بالأندلس، توفي سنة ٤٤٤ﻫ، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية.
- (٣)
جامع البيان في القراءات السبع لابن الصيرفي المذكور.
- (٤)
مفردات القراءات السبع لابن الصيرفي المذكور، أتى فيه على الاختلاف بين أصحاب نافع الأربعة الذين أخذوا عنه القراءات وبين غيرهم من أصحاب الأئمة السبعة، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية.
- (٥)
حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، وهو منظومة لمحمد ابن فيره الشاطبي المتوفى سنة ٥٩٠ﻫ، وتعرف بمتن الشاطبية، وقد طُبعت في الهند وغيرها ومنها عدة نسخ خطية في دار الكتب المصرية.
- (٦)
المقدمة الجزرية في علم التجويد منظومة لابن الجزري المتوفى سنة ٨٣٣ﻫ، منها عدة نسخ في دار الكتب المصرية، وقد طُبعت مرارًا.
(٣) التفسير
كان العرب عند ظهور الدعوة كلما تُليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت كالقرائن تسهل فهمها … وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا الرسول ﷺ فكان يبين لهم المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ، فحفظ أصحابه عنه ذلك وتناقلوه فيما بينهم، وعنهم أخذ من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين.
ولما صار الإسلام دولة واحتاجوا إلى الأحكام والقوانين كان القرآن مصدر استنباطها، فزادت العناية بتفسيره وأصبح القراء والمفسرون مرجع المسلمين في استخراج تلك الأحكام وهم الفقهاء لأول عهد الإسلام، وكانوا يتناقلون التفسير شفاهًا إلى أواخر القرن الأول.
(٤) الحديث
وضع الأحاديث
- (١) ابن أبي مليكة: هو عبد الله بن أبي مليكة التيمي المكي، من كبار تلامذة ابن عباس توفي سنة ١١٩ﻫ.
- (٢) الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو: محدث الشام وفقيهها، أخذ عنه كثيرون، منهم عبد الله بن المبارك وابن زياد وأبو العباس الوليد بن مسلم، توفي سنة ١٥٩ﻫ.
- (٣) الحسن البصري: واعظ البصرة المشهور، وفقيهها، ومحدثها، ومِن أقدم من تكلموا في مسائل القدر توفي سنة ١١٠ﻫ.
- (٤) الشعبي: هو أبو عمرو عامر بن شرحبيل توفي بالكوفة سنة ١٠٤ﻫ.
وأكثر المحدثين نبغوا في العصر العباسي الأول، وهم كثيرون ذكرهم ابن قتيبة في كتاب المعارف (صفحة ١٧٢–١٧٩).
وليس بين هؤلاء من دوَّن كتابًا. وأقدم من دوَّن الأحاديث مالك بن أنس الإمام المشهور في كتاب الموطأ، رتبه على أبواب الفقه وهو مطبوع ومشروح، وسيذكر في باب الفقه، وذكر بعضهم أن ابن جريج دوَّن الحديث، لكن لم يصلنا منه شيء.
وفي العصر العباسي نضج علم الحديث وضُبطت كتبه على أيدي الأئمة المحدثين.
(٥) الفقه
لما صار الإسلام دولة احتاج أمراؤه إلى ما يقضون به بين رعاياهم في أحوالهم الشخصية ومعاملاتهم المدنية فرجعوا إلى القرآن والحديث، فاستخرجوا منهما شريعة نظموا بها حكومتهم وحكموا بها بين رعاياهم … وذلك طبيعي في الدول الكبرى، فاليونان قلما عنوا بوضع الشرائع والأحكام الدولية أو القضائية لأنهم لم يكونوا أهم دولة كبيرة إلا زمنًا قصيرًا فانصرفت قرائحهم إلى الفلسفة وفروعها، وأما الرومان فقد اتسعت مملكتهم كما اتسعت مملكة العرب وامتد سلطانهم وقويت شوكتهم، فلم يكن لهم بد من وضع الشرائع، لكنه لم يتم نضجها إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة عشر قرنًا على يد يوستنيان صاحب القانون المشهور سنة ٥٣٣م، وهي عبارة عن عادات واعتبارات واعتقادات تجمعت بتوالي الأحقاب من الشعب اللاتيني والصابني وغيرهما ممن دانوا لرومية بالتدريج حتى صارت شريعة كاملة على عهد يوستنيان المذكور.
وأما المسلمون فإنهم استخرجوا أحكامهم من القرآن والحديث. ولم يمضِ عليهم قرنان والثالث حتى نضجت شريعتهم وتكون فقههم، وهو من أفضل شرائع العالم، وقد أسرعوا في ذلك مثل سرعتهم في تأسيس دولتهم ونشر دينهم …
قلنا: إن القرآن أساس الفقه الإسلامي، وكان المسلمون في عهد النبي يتلقون الأحكام منه وهو يبينها لهم شفاهًا … فلم يكن ذلك يحتاج إلى نظر أو قياس، فلما توفي رجع الصحابة إلى القرآن والسنة، فأصبح القراء أول فقهاء المسلمين أو حاملي شريعتهم، وكانوا يرجعون إليهم في الفتيا والأحكام لقلة الذين يقرأون في الصدر الأول، فلما عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب وكمل الفقه وأصبح صناعة بدلوا باسم الفقهاء والعلماء …