خصائص الشعر الجاهلي
(١) تمثيل الطبيعة
فُطِرَ عرب الجاهلية على البساطة والبعد عن التصنع أو التعمل في كل شيء، شأن أهل البادية؛ لبعدهم عن شوائب المدنية … فهم على الفطرة الطبيعية، وعنوانها الصدق بكل معانيه، ويدخل فيه استقلال الفكر والشجاعة الأدبية والصراحة في القول والعمل، فلا يتكلفون في لباسهم ولا طعامهم ولا شرابهم ولا يتصنعون في كلامهم، وإنما يقولون ما يخطر لهم ويصورونه كما يتمثل لمخيلتهم بلا تنميق أو تأنق، يدلك على ذلك ما ظهر من حريتهم في أقوالهم في صدر الإسلام يوم كان أحدهم يخاطب الخليفة كما يخاطب سائر الناس، وإذا رأى فيه عوجًا انتقده في وجهه والخليفة لا يرى غرابة في انتقاده.
أضف إلى ذلك تعودهم الاستقلال في شؤونهم الشخصية، ونفورهم من التقيد بشيء حتى المكان، فإنهم لا يتوطنون صقعًا بل يجعلون منازلهم على ظهور إبلهم لا يحملون ضيمًا ولا يصبرون على ظلم، فتمكنت الحرية من طباعهم حتى ظهرت في أقوالهم وأفكارهم وفي أشعارهم، فإذا طرأ لهم خيال شعري صوروه كما يتخيل لهم، خلافًا لما تقتضيه الحضارة من التكلف وغيره من ثمار الذل والانكسار؛ مما تراه في أقوال الشعراء بعد أن استبحر عمران الدولة وكثر المتملقون والمتكسبون بالنجعة والزلفى، أما الجاهليون فالقاعدة في النظم عندهم بيت شاعرهم وحكيمهم زهير بن أبي سلمى وهو:
(٢) وصف الحب
والبدوي إذا تيمه الحب وأراد التعبير عن شوقه وهيامه يصف ما يشعر به تمامًا، فإذا سمعه متيم شعر مثل شعوره … فهو لا يبالغ بضعفه من الوجد حتى يزعم أنه صار خيالًا أو طيفًا كقول المتنبي: «لولا مخاطبتي إياك لم ترني» أو قول ابن الفارض: «ما له مما براه الشوق في» ولا يبالغ في بكائه وزفيره حتى يزعم أنه غرق في بحر دمعه أو احترق بنار زفيره، ولكنه يقول قول مجنون بني عامر — وهو معدود من شعراء صدر الإسلام ولكنه بدوي في طباعه، وإن لم يصح أن المجنون اسم على مسمى كما سيأتي — فالشعر يعبر عنده عن تصور أهل البادية، ومما ينسب إليه قوله:
ومثل ذلك قول ابن الدمينة:
فلا يسمع محب هذه الأبيات وأمثالها إلا رأى الشاعر يعبر عن شعور صحيح.
(٣) في الرثاء
ويقال نحو ذلك في سائر أغراضهم من الشعر، فإذا رثى الجاهلي ميتًا لا يوهم القارئ أن السماء أطبقت على الأرض، وأن الشمس كسفت، والدنيا لبست الحداد، ونحو ذلك … ولكنه يقول قول جليلة زوجة كليب ترثيه، وقد قتله أخوها جساس:
(٤) في الهجو
وإذا أراد أن يهجو، فهجوه معقول بعيد عن البذاء والفحش، وعندهم أشد الهجاء أعفه وأصدقه، وما خرج من ذلك فهو قذف وإفحاش، ومن أشد الهجاء عندهم قول زهير بن أبي سلمى في آل حصن على سبيل التشكك والتجاهل:
وذكروا أن النابغة سأل قومه بني ذبيان بعد واقعة حسي عما قالوه في عامر بن الطفيل فأنشدوه، فقال أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك ولكنني سأقول، ثم قال:
فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شق عليه، وقال: «ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة … جعلني القوم رئيسًا وجعلني النابغة سفيهًا جاهلًا وتهكم بي».
ومن لطيف تجافيهم عن الهجو، ما قاله صخر بن عمرو أخو الخنساء، وقد أراد رثاء أخيه معاوية فقالوا له: أهج قتلته. فتعفف وقال:
فعبر عن الهجو بإهداء الخنى وهو تعبير جميل.
وإذا تحمس الجاهلي أو تفاخر فلا يجعل قومه آلهة وسواهم أبالسة، وإنما يقول قول قريط بن أنيف من شعراء بلعنبر:
(٥) في الوصف
وكانوا إذا وصفوا حادثة مثلوها بلا مغالاة في المجاز والكناية كما يفعل المتأخرون، وهذا وصف أبي ذؤيب لحمر الوحش وصائدها، كيف ترد الحمر وكيف يحتال الصياد في صيدها، قال:
وإذا وصف أحدهم حيوانًا أو مكانًا أو امرأة تحدى تصوير الطبيعة كما هي ولو اضطر إلى ذكر بعض الأعضاء التي يعد ذكرها من قبيل البذاء، يفعل ذلك لا تهتكًا وإنما يصف الطبيعة كما هي على عادته في سائر الأمور، وأحسن الأمثلة في وصف المرأة على النحو الذي تقدم قصيدة النابغة في المتجردة التي مطلعها:
وقصيدته اليتيمة في دعد، ومطلعها:
على أن الجاهليين لا تخلو أشعارهم من التشبيه والمجاز أو الكناية، ولكنهم يفعلون ذلك بلباقة كقول عنترة يصف ذباب الروض:
(٦) البلاغة في التركيب
إن لغة الجاهلية على الإجمال لا تزال مثال البلاغة حتى الآن لبعدها عن مفاسد العجمة، وهي معروفة بخلوها من الحشو وليس فيها من زخارف المدينة كالبديع والجناس ولا المجاز أو الكناية إلا بقدر الملح من الطعام، أما ما نجده في بعض أشعار الجاهلية من التعقيد، فسببه غرابة بعض الألفاظ على أفهامنا وبُعد بعض التراكيب عن مألوفنا، ولا بد لمن يطالع تلك الأشعار من تَفَهُّم الألفاظ والتعود على أساليبها، فإذا فعل ذلك هان عليه فهمها … فمن يقرأ قول امرئ القيس في قصيدته التي يصف بها الفراق وناقته وفرسه فيصل إلى قوله:
يجد غرابة في تركيب الألفاظ ولا يُفهم المراد، لكنه متى علم أن الأدماء الناقة أشرب سوادها بياضًا، والحرجوج الطويلة، والقتود خشب الرحل، وأبلق الكشحين حمار الوحش، والمغرب الأبيض الوجه والأشفار وذلك عيب في اصطلاحهم، أدرك مراد الشاعر من البيت الثاني وقس عليه سائر التفسير.
إن البلاغة فطرية في عرب البادية شعرًا ونثرًا … وكان العرب في صدر الإسلام يتمثلون بأقوال الأعراب المعاصرين لهم لما فيها من البلاغة والإيجاز السهل الممتنع، وقد نقل ابن عبد ربه طائفة حسنة منها في عدة صفحات بباب كلام الأعراب في الجزء الثاني من كتابه «العقد الفريد» فليراجع هناك وفي سائر كتب الأدب، فإذا طالعتها رأيت نفوسًا كبيرة وعقولًا راجحة لما فيها من الحكمة والموعظة وصدق النظر.
على أن الشعر تختلف رقته، وخشونته باختلاف الغرض منه، فشعر العاشق أرق من شعر الفارس، وشعر الحضارة ألطف من شعر البداوة.
(٧) مذاهبهم وأساليبهم
لا يتقيد الجاهلي في نظمه بمقدمة أو تمهيد كما يفعل غيره من شعراء المدنية بعد الإسلام من استهلال القصائد بالنسيب والغزل ونحوهما، لكنه يُصدر القصائد الطويلة غالبًا بذكر المنازل والأطلال ويبكي على الطلول … وذلك طبيعي عندهم؛ لأنهم أهل رحلة لا يقيمون في المكان حينًا حتى ينزحوا عنه؛ إما فرارًا من عدو؛ أو التماسًا للمرعى أو الماء أو نحو ذلك، كقول امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل».
وقوله: «ألا عِمْ صباحًا أيها الطللُ البالي».
أما المولدون أو المحدثون فإنهم يصدرون قصائد المدح وغيرها بذكر الحبيب والشوق والوجد والوصل، وليس هناك حبيب ولا وجد كما سنبين ذلك …
والجاهلي إذا عمد إلى النظم في الفخر بدأ به أو ذكر المنازل وتخلص له، ويندر فيهم من يفعل غير ذلك كقصيدة عنترة الفخرية التي يبدأ فيها بذكر الصبا واللهو والغزل والأعين النجل في بيتين، ثم يتخلص إلى الفخر كقوله:
ولكن هذه القصيدة يغلب أنها موضوعة بعد الإسلام.
وقد يستهل الجاهلي شعره بمخاطبة خليله في بيت أو شطر، ثم يستطرد إلى الموضوع الذي يريده … أو يبدأ بطلب الأخبار بدون أن يذكر الخليل، كقول امرئ القيس قبيل وفاته في سفح جبل عسيب:
وقوله بمكان آخر:
وقد يتكلم بالمثنى كأنه يخاطب اثنين كقول عبد يغوث:
ومن مذاهبهم طرد الخيال وهو مذهب كثيرين منهم، ولكن طرفة بن العبد أول من طرقه فقال:
وفي مقدمة ابن خلدون أمثلة كثيرة من ابتداءات الجاهلية في النظم، مَن أراد التوسع في الأمثلة فليراجعها هناك (صفحة ٥٠١).
ولكن الغالب في نظمهم أن يبدأوا بالغرض المراد رأسًا، فإن كان فخرًا فبالفخر، حماسة فبالحماسة، أو غزلًا فبالغزل، أو رثاءً فبالرثاء.
ومن مراثي المهلهل لأخيه كليب قصيدة مطلعها:
ومرثية أخرى مطلعها:
وقس عليه غيره من الأغراض … على أن بعضهم يستهل بالحكم؛ ليتخلص للمدح أو الرثاء، وبعضهم يتغزل أو يشبب وهم قليلون، ولهم أسماء إناث يتغزلون بها يسمونها عرائس الشعر كقطام وهند ودعد وغيرهن.
(٨) أبواب الشعر عندهم
إن أبواب الشعر اليوم تُعد بالعشرات، ولم يكن منها في الجاهلية إلا الفخر والحماسة والتشبيب والمديح والهجاء … وتفرع من المديح الرثاء وهو مدح الميت، والأصل في المديح والهجاء الدفاع عن القبيلة والطعن في أعدائها … ذلك كان غرض الجاهليين من المديح والهجاء، فأكثر مدحهم في قبائلهم ورؤسائها وفرسانها ليس على سبيل الاستجداء إلا قليلًا، وكانت قصائدهم في ذلك قصيرة، وقلما رثوا غير إخوتهم وأخواتهم أو أبنائهم أو بعض أهلهم مدفوعين بالشعور الطبيعي، ولذلك كان لرثائهم وقع في النفس كقول تلك الأعرابية في رثاء ابنها:
أما المدح فأمدحُ الجاهليين زهير والأعشى، فمن أمثلة مدح زهير بالكرم قوله:
وقد يبالغون ولكنهم لا يخرجون عن المعقول كقول زهير في هرم بن سنان:
وقس على ذلك سائر الأغراض …
على أن في منظوماتهم كثيرًا من الشعر الوصفي، وأكثره في وصف حيواناتهم ومنازلهم وأدواتهم، وفي وصف أخلاقهم ومناقبهم ومثالبهم ومفاخرهم ووقائعهم، وفيهم طبقة من الوصافين اشتهروا بوصف الخيل خاصة، وآخرون بوصف الناقة أو حمار الوحش أو القطا أو غيرها، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكانه.
(٩) التمثل بحيواناتهم وعاداتهم
قد صور عرب الجاهلية عاداتهم وحيواناتهم وأدواتهم في أشعارهم، كما صورها المصريون والآشوريون واليونان والرومان على قصورهم ومعابدهم، وكما استخرج علماء الآثار عادات تلك الأمم وأخلاقها من آثارها المنقوشة أو المحفورة، فالباحث في شعر الجاهلية يستخرج منه عادات العرب وآدابهم وأخلاقهم وطبائعهم وسائر أحوالهم، ولذلك قال ابن خلدون: «إن الشعر ديوان علوم العرب وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصل يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم» ونزيد على ذلك «أنه مستودع عاداتهم وأخلاقهم وأدواتهم وصنائعهم» وقد درس هذا الموضوع جرجي يني الطرابلسي صاحب المباحث، ونشر فيه مقالة ضافية في «المقتطف» سنة ١٣ و١٥ بعنوان: «العرب قبل التاريخ» ودرسه أيضًا محمد المويلحي وله مقالة في «رموز العرب وتخيلاتهم» نُشرت في «المقتطف» سنة ١٩ استخرج فيها عاداتهم ومعتقداتهم من أشعارهم.
والعرب يتغزلون بحيواناتهم ويتمثلون بها، وخصوصًا الناقة والفرس والقطا والحمام، ويغلب فيهم أن يذكروا الحمام في الغزل، والناقة في السفر، والخيل في الحرب.
(١٠) المفاخرة والمعاظمة والمقارعة
(١١) الأنفة والعفة
ولم يكن أشد منهم غيرة على العرض، وفي أخبارهم ما لا يحصى من الدفاع عن المرأة وعرضها، وكثيرًا ما نشبت الحرب في هذا السبيل، وقد كان سبب الحرب التي قُتل فيها زهير بن جذيمة العبسي، أن ابنه شأسًا اغتسل بجانب أبيات لبني غنى بماء لبني عامر فناداه رجل غنوي أن يستتر فلم يحفل به فرماه بسهم فقتله، وجر ذلك إلى حرب قُتِلَ فيها زهير المذكور وغيره.
وكانوا يفتخرون بالعفة خلافًا لما صارت إليه طبائعهم حين امتزجوا بالموالي من الأمم الأجنبية، وتمثيلًا للفرق بين الحالين، قابل ما قاله عنترة بما قاله أبو نواس الفارسي … قال عنترة:
وقال أبو نواس:
(١٢) لا يستجدون
الجاهلي لا ينظم التماسًا للعطاء وإنما ينظم لداعٍ يحركه، إما دفاعًا عن عرض، أو تحمسًا لحرب، أو تشكيًا من الفراق، أو بكاءً على فقيد، أو نحو ذلك، وقد يمدح ولكن مدحه يكون على الغالب شكرًا على صنيع لا استدرارًا لجائزة، كما صار إليه الشعراء في الإسلام بالتقرب والتزلف، وكان موضوع مدائح الجاهليين شيوخهم وأمراءهم، كهرم بن سنان، وعامر بن الظرب، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن وغيرهم.
فقد مدح زهير هرمَ بن سنان ومدح غيره لا للاستجداء، على أن بعضهم انتجع بشعره، وأول من فعل ذلك الأعشى … ونظم بعض الجاهليين في مدح المناذرة أو الغساسنة أو بعض أمرائهم، وأشهر المداحين في الجاهلية الأعشى والربيع بن زياد والنابغة الذبياني والمنخل اليشكري وأبو زبيد الطائي ومعن بن أوس وزهير بن أبي سلمى والحطيئة، وسنأتي على أخبارهم في أماكنها.
(١٣) منزلة الشاعر في الجاهلية
وكانوا يتخذون الشعراء واسطة في الاسترضاء أو الاستعطاف أو يجعلونهم وسيلة لإثارة الحروب، فيكون الشاعر لسان حال القبيلة يعبر عن غرضها وينطق بلسانها شأن الصحف الرسمية اليوم … فإن الصحيفة الرسمية إذا قالت قولًا، علم الناس أن الحكومة تريده … وهذا هو سبب ما كان يظهر من تأثير الشعر في السياسة، ولذلك فالقبيلة مطالبة برعاية شاعرها والقيام بما يحتاج إليه وإكرامه وتقديمه.
(١٤) تأثير الشعر في نفوس العرب
قد علمت مما تقدم أن طبيعة العرب شعرية؛ لأنهم ذوو نفوس حساسة وشعور دقيق تقعدهم الكلمة وتقيمهم، شأن صاحب الفروسية والنجدة المعبر عنهما عند الإفرنج بالشفاليري. وكان العرب على الإجمال أهل حافظة إذا أعجبهم البيت حفظوه وتناقلوه … فيشيع على ألسنتهم كبارًا وصغارًا ويتحدثون به في أنديتهم ومجتمعاتهم، فإذا كان هجوًا سقط المقول فيه، وإذا كان مدحًا اشتهر اسمه، ولكن الهجو كان غالبًا عليهم، وقد وُفق بعض الشعراء إلى شيوع أشعارهم لخفتها، وكان الأعشى من أسير الناس شعرًا، وكذلك زهير والنابغة وامرؤ القيس.
فالقبيلة إذا هجاها شاعر فحل، حط الهجو منها خصوصًا إذا كان الهجو مطابقًا للواقع، وإلا رد شاعرها عنها فتعود إلى مقامها، وليس في العرب قبيلة إلا هُجيت، فمن القبائل التي لم يؤثر الهجو فيها قبائل تميم وبكر ووائل وأسد وأمثالها، ومن القبائل التي أثر فيها الهجاء مع مقامها في الشجاعة أحياء من قيس منهم غنى وباهلة ومحارب وأحياء من أد بن طابخة منهم تيم وعكل وغيرهما، وهناك قبائل كان حظها من الشعراء المديح، كبني مخزوم من قريش.
ومن أمثلة تأثير هجو الشعراء في القبائل شعر حط من قدر الحبطات وهم بطن من تميم، فقال الشاعر فيهم:
وهل أهلك ظليم البراجم إلا قول الشاعر:
وقد أهلك بني العجلان قول الشاعر:
ويشبه ذلك بيت جرير في بني نمير من عامر بن صعصعة في الدولة الأموية، فإنه جعل كل نميري إذا سُئل عن نسبه قال: إنه عامري، وهذا هو البيت:
وبعكس ذلك ما أصاب بني أنف الناقة من الرفعة؛ فقد كان الرجل منهم إذا سُئل عن نسبه قال من بني قريع وهو نسب آخر لهم، حتى قال الحطيئة فيهم:
فأصبحوا يفاخرون بقبيلتهم …
وكان لشعر الأعشى تأثير كبير في النفوس، ويحكى من هذا القبيل أن رجلًا من كلاب اسمه المحلق كان له ثلاث بنات لم يزوجهن، وكان معسرًا، وجاء الأعشى يقصد مكة فسمعت امرأة المحلق به، فحثت زوجها أن يدعوه للضيافة قبل سواه ويذبح له لأنه إذا قال شعرًا شاع، فدعاه المحلق ونحر له ناقة، وبالغت المرأة في إكرامه وإكرام رفاقه وكان في عصابة قيسية … فلما جرى الشراب في عروقه سأل المحلق عن عياله فشكا له حال بناته، ولما وافى سوق عكاظ أنشد قصيدة مطلعها:
(١٥) أشعر شعراء الجاهلية
ما برح العرب منذ صدر الإسلام مختلفين فيمن هو أشعر شعرائهم، ولهم في ذلك أقوال كثيرة … على أن تقسيم الشعراء إلى طبقات قد يُعد حكمًا إجماليًّا في ذلك، ويستدل منه أن أصحاب المعلقات هم أشعر الشعراء في حكمهم، وأشعر هؤلاء ثلاثة: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة. وقد أجمعوا تقريبًا على تفضيلهم، وإنما اختلفوا فيمن هو أشعرهم اختلافًا كثيرًا … قال أبو عبيدة: «أشعر الناس أهل الوبر خاصة وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، فإن قال قائل: إن امرأ القيس ليس من أهل نجد فلعمري إن هذه الديار التي ذكرها في شعره ديار بني أسد بن خزيمة، وفي الطبقة الثانية الأعشى ولبيد وطرفة»، وقيل: إن الفرزدق قال: «امرؤ القيس أشعر الناس»، وقال جرير: «النابغة أشعر الناس»، وقال الأخطل: «الأعشى أشعر الناس»، وقال ابن أحمر: «زهير أشعر الناس»، وقال ذو الرمة: «لبيد أشعر الناس»، وقال ابن مقبل: «طرفة أشعر الناس»، وقال الكميت: «عمرو بن كلثوم أشعر الناس» والقول الراجح ما قال أبو عبيدة: «امرؤ القيس، ثم زهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة».
على أننا نرى في الحكم على شاعر أنه أشعر أهل زمانه على الإطلاق حيفًا؛ إذ قد ينفرد كل شاعر بمزية تفضله على سواه … فيجيد شاعر في الحماسة، وآخر في المديح، أو الغزل، أو غير ذلك من أغراض الشعر، وعلى ذلك قالوا: «أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا غضب».
(١٦) رواة الشعر
(١٧) شعراء الجاهلية من حيث أغراضهم
تقدم ما للشعر الجاهلي من الخصائص التي يمتاز بها على الإجمال، ولكن هذه الخصائص تختلف باختلاف أغراض الشعراء … وينقسم الشعراء من هذا الوجه إلى مجاميع، لكل منها غرض أو أسلوب أو منحى خاص، وسنتوخى في تقسيمهم غير ما نراه في كتب القدماء، فنقسم الشعراء بالنظر إلى أغراضهم في النظم.
وقد علمت أن الشعراء الجاهليين الذين بلغتنا أخبارهم نحو مائة شاعر وبعض المائة من القبائل على اختلاف أصولها … وكلهم عرب إلا واحدًا كان عبدًا لبني الحسحاس وهو أعجمي، فلا عجب إذا خلص الشعر الجاهلي من العُجمة لفظًا وتركيبًا، خلافًا لما آلت إليه حال الشعراء بعد الإسلام؛ إذ نبغ فيهم طبقة من الموالي غير العرب، كما سيجيء … فالشعراء الجاهليون كلهم عرب، وأكثرهم من عدنان كما تقدم … ومعظمهم أهل بادية ورحلة متشابهون في أخلاقهم وأغراضهم، وأهمها في القرنين الأخيرين قبل الإسلام: الحرب فيما بينهم، يوم كان البدوي يبيت وسيفه أو رمحه ضجيعه، كأنه يتحفز للنهوض في الصباح للغزو؛ التماسًا للرزق أو الفخر أو للثأر، فيقضي أيامه في الحرب أو يتأهب للحرب، والشاعر لسان حال قبيلته أو مرآة أخلاقها وآدابها، فلذلك كان أكثر شعراء الجاهلية من أهل الحرب الفرسان الشجعان، وقد اشتهر جماعة منهم في وقائع مشهورة نظموا فيها قصائد الحماسة والفخر، وإذا اعتبرنا عدد شعراء الجاهلية مائة، كان نصفهم من الفرسان وأهل الحرب، وأكثر أشعارهم في الحماسة والفخر … وبينهم طائفة من الملوك والأمراء، أي كانت لهم الرياسة في قبائلهم وهي أكبر المناصب السياسية في ذلك العصر، ومنهم طائفة من الحكماء وأهل التعقل والعلم والحكمة، وطائفة أخرى من العشاق المتيمين الذين هاج العشق شاعريتهم، وآخرون يدخلون في صف الفرسان، لكنهم يختصون بصفة مشتركة هي العدو والغزو، ويسمونهم الصعاليك، ومنهم طائفة تجمعها طبيعة الهجو ففيهم ميل إلى المهاجاة، وآخرون اختصوا بوصف الخيل وغيرهم بالغناء، ومن الشعراء من يجمعهم المذهب، وأخيرًا النساء الشواعر وهناك طائفة لا تدخل في إحدى هذه الطبقات.
عدد الشعراء | |
---|---|
١٢١ | المجموع |
١٠ | أصحاب المعلقات |
١٤ | الشعراء الأمراء |
٢٨ | الشعراء الفرسان |
٤ | الشعراء الحكماء |
٨ | العشاق |
٧ | الصعاليك |
١ | المغنون |
٤ | النساء الشواعر |
٤ | الهجاءون |
٤ | الوصافون للخيل |
١ | الموالي |
٣٦ | سائر الشعراء |
هؤلاء شعراء الجاهلية وعددهم ١٢١ شاعرًا، وليس هم كل من قال شعرًا في الجاهلية؛ إذ لم يوجد بينهم ذكي لم يقل الشعر؛ لأنه كان سجية في العرب كما تقدم، وإنما وصلنا من أخبار أولئك نخبتهم وأشعرهم، ولم نذكر كل من وصلنا أخبارهم وإنما اخترنا أكثرهم شعرًا وأقواهم شاعرية، وإلا ففي ديوان الحماسة وجمهرة أشعار العرب والمفضليات وأشعار الهذليين والأغاني وسائر كتب الأدب واللغة أسماء مئات من الشعراء لم يصلنا من أقوالهم إلا بيت أو بضعة أبيات.
ومن الذين اخترنا ذكرهم نفر أدرك الإسلام وعاش في أيام الراشدين، وقد عددناه جاهليًّا؛ لأنه نشأ على طبائع الجاهلية وأما المؤرخون فيسمونهم مخضرمين.
لكل طبقة مزية
ولكل طائفة من هؤلاء الشعراء صبغة في أشعارهم حسب غرضها … فالشعراء الأمراء أو الملوك تمتاز أشعارهم بأنفة المُلك وعِزِّه، فيفتخرون بالسيادة أكثر من السيف والرمح والقبيلة … فمن أقوال أحدهم وهو الأفوه الأودي:
ويعد هذا البيت من حكمة العرب، وإذا مدحوا لا نجد في مدحهم تزلفًا أو استجداءً، وإنما يكون للشكر على خدمة سلفت كقول امرئ القيس يمدح بني ثعل:
وترى في تشابيههم عند الوصف ذكر آنية الترف الذي يألفها الملوك والأمراء، فامرؤ القيس لما أراد وصف عين فرسه شبهها بالمرآة وهي من آنية الترف عندهم، وقال:
ووصف بعض حمر الوحش، فشبه ألوانها بأنواع الوشي الجميلة، ولما وصف قروحه شبهها بنقش الخواتم.
ولا يخلو شعر الأمراء من ذكر المجد السالف، ويشيرون إلى مواليهم وأعوانهم وغير ذلك مما ستراه في مكانه.
ويقال نحو ذلك في شعراء سائر الطبقات، فإن كلًّا منها تختص بأسلوب أو بشيء يميزها عن الطبقات الأخرى … فشعر العشاق المتيمين أكثره في التشبيب وشكوى الغرام والهجران، وشعر الحكماء أكثره حكم وعظات وعِبَر، ولا يمنع ذلك أن يشترك الشاعر في غير غرض من هذه الأغراض، أي أن يكون متحمسًا وحكيمًا وعاشقًا وغير ذلك، فإن كثيرين من الفرسان عشقوا وهاموا، وإنما جعلناهم من طبقة الفرسان؛ لغلبة ذلك عليهم.
وقد آن لنا أن نصف أشهر هؤلاء الشعراء وأشعرهم وفيهم المكثر من الشعر والمقل، وبعضهم نظموا كثيرًا، ولم يصلنا من أشعارهم إلا القليل، ولا فائدة لطالب تاريخ آداب اللغة من إيراد تراجم هؤلاء … وإنما نختص بالوصفِ الشعراءَ الذين كانوا قدوة لسواهم أو خلَّفوا آثارًا يمكن الحصول عليها ومطالعتها، ونكتفي في الآخرين بذكر المآخذ التي يمكن الرجوع إليها في مطالعة أخبارهم لمن أراد.