العلوم الإسلامية الشرعية
قد رأيت أن الفقه توطدت قواعده في العصر الماضي والعلوم الدخيلة لا تزال في أول نقلها، ولم تتمكن من نفوس الناس. أما في هذا العصر فكانت قد انتشرت الفلسفة والطبيعيات والمنطق، فغيَّرت كثيرًا من الآراء، وتولدت مذاهب في الفقه لم تكن من قبل، وتفرع مذهب الاعتزال، ونشأ علم الكلام أو التوحيد، وإليك تاريخ ذلك.
(١) علم الكلام أو التوحيد
هو حادث بعد الفقه، وسبب وضعه أنه ورد في القرآن وصف الإله بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل، وقد فسَّرها صاحب الشريعة الإسلامية والصحابة والتابعون على ظاهرها، وورد في القرآن أيضًا آيات أخرى تُوهِم التشبيه مرة في الذات ومرة في الصفات، ورأى الأولون ذلك الخلاف؛ فغلب في معتقَدهم تفضيل التنزيه لكثرة أدلته ووضوح دلالتها وتابعهم الأكثرون. غير أن جماعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغَّلوا في التشبيه في الذات، فاعتقدوا في الله صفات الآدميين كاليد والقدم والوجه؛ عملًا بظواهر وردت في بعض الآيات؛ فوقعوا في التجسيم الصريح، وخالفوا التنزيه المطلق، وأخذوا يكتبون ويقولون أقوالًا كثيرة مخالفة لرأي الجمهور؛ فنهض أهل السنة — وهم التابعون لأقوال الصحابة — وجاءوا بالأدلة العقلية على هذه العقائد؛ دفعًا لتلك البدع، وهو علم الكلام أو التوحيد. وفي أثناء ذلك نُقلت كتب اليونان إلى العربية، فأحبها المسلمون، وعكفوا على مطالعتها؛ فانتشرت فلسفة اليونان في الإسلام، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها؛ فتوسعوا فيما أرادوه منها من تقوية الحجة والجدال فيما كانوا فيه؛ فازداد كل منهم تمسكًا بمذهبه، وعظمت الفتنة بسبب ذلك، وانتشرت تلك المذاهب بين المسلمين انتشارًا عظيمًا، وهي إلى ذلك العهد: مذاهب القدرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، والخوارج، والرافضة، والقرامطة، والباطنية.
وما زالت الحال كذلك إلى أن ظهر أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، فسلك طريقًا وسطًا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، فمال إليه جماعة وعوَّلوا على رأيه لما فيه من التسوية بين سائر الآراء، ووافقه جماعة كبيرة من نخبة علماء تلك الأعصر — وهم الأشعرية — مما يطول بنا الكلام فيه.
(١-١) علماء الكلام
-
(١)
الإمام أبو حنيفة: أقدم من ألَّف في علم الكلام، فإن كتابه الفقه الأكبر يعد من هذا القبيل، وقد تقدم ذكره في كلامنا عن مؤلفاته في الفقه.
-
(٢)
أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال: المتوفى سنة ١٨١ﻫ، وكان من الأئمة البلغاء المتكلمين، وكان يلثغ بالراء، لكنه كان لبراعته واقتداره يخلِّص كلامه من الراء، فلا يفطن لذلك أحد. ترجمته في ابن خلكان ١٢٧ ج٢.
-
(٣)
أبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف: المتوفى سنة ٢٣٥ﻫ، وكان شيخ البصريين في الاعتزال، وكان حسن الجدال قوي الحجة كثير الاستعمال للأدلة. ومما يروى عنه من هذا القبيل أنه لقي صالح بن عبد القدوس وقد مات له ولد وهو شديد الجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: «لا أعرف لجزعك عليه وجهًا إذا كان الإنسان عندك كالزرع.» قال صالح: «يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك.» فقال له: «كتاب الشكوك ما هو يا صالح؟» قال: «هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان حتى يتوهَّم أنه لم يكن، ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم أنه قد كان.» فقال أبو الهذيل: «فشك أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات، وشك أيضًا في قراءته كتاب الشكوك وإن كان لم يقرأه.» ترجمته في ابن خلكان ٤٨٠ ج١.
-
(٤)
أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي: توفي سنة ٣٠٣ﻫ، وكان إمام المتكلمين في عصره. أخذ علم الكلام عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة، وله مقالات في مذاهب العلماء، ترجمته في ابن خلكان ٤٨٠ ج١.
-
(٥)
أبو الحسن الأشعري: توفي ببغداد سنة ٣٣٣ﻫ. سمع زكريا الساجي، وأبا خليفة الجمحي، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب المقري، وعبد الرحمن بن خلف الضبي المصري. وروى عنهم في تفسيره كثيرًا، وتلمذ لزوج أمه أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، واقتدى برأيه في الاعتزال عدة سنين حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيًّا ونادى بأعلى صوته: «من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أعرِّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الرد على المعتزلة مبين لفضائحهم ومعايبهم.» وأخذ من حينئذ في الرد عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القطان، وبنى على قواعده، وصنَّف خمسة وخمسين تصنيفًا منها كتاب اللمع، وكتاب الموجز، وكتاب إيضاح البرهان، وكتاب التبيين على أصول الدين، وكتاب الشرح والتفصيل، وكتاب الإبانة، وكتاب تفسير القرآن، يقال إنه في سبعين مجلدًا، وغيرها، وأكثرها ضاع. وكانت غلته من ضيعة وقفها بلال بن أبي بردة على عقبه، وكانت نفقته في السنة سبعة عشر درهمًا، وكانت فيه دعابة ومزح كثير. قال مسعود بن شيبة في كتاب التعليم: كان حنفي المذهب معتزليَّ الكلام؛ لأنه كان ربيب أبي علي الجبائي، وهو الذي رباه وعلمه الكلام، وذكر الخطيب أنه كان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزي الفقيه في جامع المنصور. وقال أبو بكر بن الصيرفي: «كان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري؛ فحجزهم في أقماع السماسم.»
العقيدة الأشعرية
وجملة عقيدته «أن الله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر، وأن صفاته أزلية قائمة بذاته تعالى لا يقال هي هو ولا هي غيره ولا لا هي هو ولا غيره، وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصح وجوده، وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص، وكلامه واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه راجعة إلى اعتبارات في كلامه لا إلى نفس الكلام، والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي، فالمدلول — وهو القرآن المقروء — قديم أزلي، والدلالة — وهي العبارات وهي القراءة — مخلوقة محدثة».
وترجمته في ابن خلكان ٣٢٦ ج١، والمقريزي ٣٥٩ ج٢.
وهناك طائفة من المتكلمين أغضينا عن ذكرهم على أن بعضهم سيأتي ذكره في الأبواب الأخرى.
(٢) الحديث
(٢-١) أصحاب الكتب الستة
في هذا العصر نضج علم الحديث، ووضعت فيه الكتب الستة المشهورة، وهي عمدة المحدثين، وأصحابها ثقة حتى الآن، وهاك تراجمهم حسب سني الوفاة:
البخاري (توفي سنة ٢٦٥ﻫ)
هو أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن إسماعيل البخاري. ولد في بخارا سنة ١٩٤ﻫ، وتوفي سنة ٢٥٦ﻫ. كان مغرمًا في طلب الحديث؛ فرحل لسماعه إلى كثير من الأمصار والمدن، وشهده له معاصروه بعلم الرواية والدراية، وهو صاحب كتاب «جامع الصحيح» المشهور بصحيح البخاري أول الكتب الستة في الحديث، وأفضلها على المذهب المختار، وفي شهرته غنى عن وصفه. طبع على الحجر بمصر سنة ١٢٧٩ﻫ، وطبع بالحروف بمصر مرارًا، وله شروح كثيرة بعضها مطبوع، منها شرح العيني طبع بمصر في ١١ مجلدًا، وفي المكتبة الخديوية نسخ كثيرة منه مكتوبة بخطوط مختلفة في أزمنة مختلفة.
وللبخاري كتاب خلق أفعال العباد مطبوع في دلهي بالهند سنة ١٣٠٦ مع كتاب العلم للذهبي، وله كتاب الأدب خط في كتب الشنقيطي.
وترجمة البخاري في ابن خلكان ٤٥٥ ج١، والفهرست ٢٣٠.
مسلم القشيري (توفي سنة ٢٦١ﻫ)
هو الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. توفي سنة ٢٦١ﻫ في نيسابور، وكان من الأئمة الحفاظ وأعلام المحدِّثين. رحل إلى الحجاز والشام ومصر لاستماع الحديث، وألَّف فيه كتابًا سماه «الجامع الصحيح» منه نسخ عديدة خطية في المكتبة الخديوية، وقد طبع في الهند سنة ١٢٦٥، وفي مصر في تسعة أجزاء.
وترجمة القشيري في ابن خلكان ٩١ج٢، والفهرست ٢٣١.
ابن ماجه (توفي سنة ٢٧٣ﻫ)
هو محمد بن يزيد بن ماجه القزويني المتوفى سنة ٢٧٣ﻫ. كان إمامًا في الحديث عارفًا بعلومه، ارتحل في طلبه إلى البصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر، وألَّف فيه كتاب «السنن» منه في المكتبة الخديوية بضع نسخ كتبت في أزمنة مختلفة، وطبع في دلهي على الحجر سنة ١٢٨٢، وبمصر سنة ١٣١٣، ويعرف بسنن ابن ماجه.
وترجمته في ابن خلكان ٤٨٤ ج١.
أبو داود (توفي سنة ٢٧٥ﻫ)
هو أبو داود سليمان الأشعث الأزدي السجستاني المتوفى في البصرة سنة ٢٧٥ﻫ، وكان أحد حفاظ الحديث. ألَّف كتابًا في الحديث سماه «السنن»، وتعرف بسنن الإمام أبي داود. طبع في مصر سنة ١٢٨٠ﻫ، وفي لكناو الهند سنة ١٨٨٨ مع فهرس أبجدي، وفي غيرهما، وترجمته في ابن خلكان ٢١٤ ج١.
الترمذي (توفي سنة ٢٧٩ﻫ)
هو الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى الضحَّاك الترمذي الضرير، له كتاب «الجامع الصحيح»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. وقد طبع بمصر سنة ١٢٩٢ﻫ، وله شروح كثيرة، وترجمة الترمذي في ابن خلكان ٤٨٤ ج١.
النسائي (توفي سنة ٣٠٣ﻫ)
هو أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي. توفي بمكة سنة ٣٠٣ﻫ. وهو صاحب كتاب السنن المعروف باسمه، طبع بمصر في مجلدين سنة ١٣١٢ وغيرها.
وترجمته في ابن خلكان ٢١ ج١.
وهناك كتب حديث ظهرت نحو ذلك الزمن لا بأس بها، منها سنن الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن المتوفى سنة ٢٥٥ﻫ، طبع في كنبور الهند سنة ١٢٩٣.
(٣) التفسير
ونضج في هذا العصر أيضًا علم التفسير، فظهر فيه التفسير الكبير لأبي جعفر بن جرير الطبري، ويسمى جامع البيان في تفسير القرآن، جمع فيه أقوال الصحابة والتابعين. ويمتاز بأن صاحبه يبيِّن فيه ترجيح بعض الأقوال على البعض، طبع بمصر سنة ١٩٠٤ في ٣١ جزءًا، وهو من أجل التفسير، وله قيمة خصوصية لسبقه سواه، وفيه كثير من الفوائد التاريخية والأدبية واللغوية، فضلًا عن التفسير، وقد ترجمنا الطبري في باب التاريخ.