تنقل العلم في المدائن الإسلامية
رأيت فيما تقدم أن العلوم الإسلامية نشأ معظمها في البصرة والكوفة، ثم تحولت إلى بغداد بعد استبحار عمرانها في العصر العباسي الثاني، فأصبحت بغداد في ذلك العصر كعبة العلم وحجَّ العلماء كما كانت رومية في إبان التمدن الروماني، حتى إذا تولى المعتصم واستكثر من الأتراك وظهرت منهم الإساءة لأهل بغداد نفر الناس وتباعدت القلوب، ولكن المعتصم كان على مذهب أخيه المأمون في الاعتزال وإكرام الشيعة، فظلت بغداد على نحو ما كانت عليه في أيام المأمون، وكان الواثق يتشبه بالمأمون في حركاته وسكناته، وكان يعقد المجالس مثله للمباحثة بين الفقهاء والمتكلمين في أنواع العلوم العقلية والسمعية في جميع الفروع.
فلما توفي الواثق سنة ٢٣٣ﻫ خلفه أخوه جعفر المتوكل، وكان شديد الانحراف عن الشيعة والمعتزلة، حتى أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل ومنع الناس من إتيانه، وكان كثير الاستهزاء بعلي يجالس من اشتهر ببغضه، وخالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، فأبطل القول بخلق القرآن، ونهى عن الجدل والمناظرة في الآراء وعاقب عليه، وأمر بالرجوع إلى التقليد ونصر السنة والجماعة، وأمر الشيوخ والمحدثين بالتحديث، فانحطَّ علم الكلام بعد أن بلغ رونقه في أيام الرشيد وخلفائه، فأخذ في التقهقر في أيام المتوكل؛ لأنه كان شديد الوطأة على أصحاب الرأي وأصحاب الفلسفة وسائر العلوم الدخيلة، وأخذ منذ تولي الخلافة في مناوأتهم؛ فأهلك جماعة من العلماء وحطَّ مراتبهم، وعادى العلم وأهله. ولاقى أهل الذمة منه الشدائد بتغيير زيهم وتذليلهم وإهانتهم. ومن أشهر حوادث نقمته على خدمة العلم أنه غضب على بختيشوع الطبيب وقبض ماله ونفاه إلى البحرين، وقتل ابن السكيت النحوي كما تقدم، وسخط على عمر بن مصرح الراجحي، وكان من عِلْيَة الكُتَّاب، وأخذ منه مالًا وجواهر، وأمر أن يصفع في كل يوم.
ومات المتوكل مقتولًا سنة ٢٤٧ﻫ، قتله رجاله؛ فاضطربت أحوال الخلافة، واستفحل شأن الأتراك، فنفرت قلوب طلبة العلم وأكثرهم من الفرس والعرب، فتفرَّقوا من بغداد رويدًا رويدًا إلى أنحاء المملكة الإسلامية شرقًا وغربًا؛ ولذلك كان أكثر من ظهر من العلماء بعد نضج العلم في القرن الرابع للهجرة فما بعده نبغوا خارج بغداد، وفيهم الأطباء والفلاسفة والمنجِّمون والمهندسون والمتكلِّمون وأصحاب المنطق والفقهاء واللغويون والمحدِّثون والمؤرخون وغيرهم.
فكان مركز الطب والطبيعيات والفلسفة عند ظهور الإسلام في الإسكندرية، ثم انتقل في أيام عمر بن عبد العزيز في آخر القرن الأول للهجرة إلى أنطاكية، والعلوم الإسلامية انتقلت من البصرة والكوفة إلى بغداد، وانضمت إليها العلوم الدخيلة، فأصبحت بغداد أم المدائن في العلم والأدب والفلسفة والطب وسائر العلوم العقلية والنقلية، فلما اضطربت أحوال الخلافة في أيام المتوكل ثم نشأت الدول الجديدة في أنحاء المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب على مقتضى ناموس الارتقاء، تفرَّق العلماء، وأصبح للعلم مراكز كثيرة قد يتفاضل بعضها على بعض، وتدرَّج الانتقال من بغداد شرقًا إلى العراق العجمي فخراسان فما وراء النهر، وغربًا إلى الشام ومصر فالمغرب فالأندلس.
فأقبل العصر العباسي الثالث وقد نبغ المفكرون والمشتغلون في العلم والأدب من الشعراء والأدباء والمنشئين والمؤرِّخين والجغرافيين واللغويين والفلاسفة في مدائن كثيرة من المملكة الإسلامية من أقصى تركستان في الشرق إلى أقصى الأندلس في الغرب، ويدخل في ذلك ما وراء النهر وأفغانستان وطبرستان وخوارزم وفارس وما بين النهرين والمغرب والأندلس ومصر والشام وغيرها.
وزاد انتساب العلماء إلى مواطنهم، فكثرت أسماء البخاري والنيسابوري والرازي والبغدادي والأندلسي، بعد أن كان أكثر انتسابهم إلى أصولهم كالحميري والمازني والقرشي والفارسي ونحوها، أو إلى صنائعهم كالنحَّاس والزجاج.