أسباب النهضة في هذا العصر
حدث في العصر العباسي الأول نهضة علمية عقبها في العصر العباسي الثاني فتور على أثر البحران السياسي الذي أخذ من نفوس رجال الدولة، حتى اشتغلوا بأنفسهم عن تنشيط العلم، فكانت المائة الثانية من الدولة العباسية فترة تَمَّ فيها تكوُّن أغراس العلم، فأقبلت المائة الثالثة وقد ظهرت ثماره ناضجة، وهي النهضة الثانية في الدولة العباسية، والفاعل الرئيسي في هذه النهضة ناموس النشوء الطبيعي ونصرة رجال الدولة.
(١) ناموس النشوء والارتقاء
اسم الدولة | مقرها | مدة حكمها | جنس مؤسسها |
---|---|---|---|
المروانية | الأندلس | من سنة ١٣٨–٤٢٢ | عربي |
السامانية | وراء النهر | من سنة ٢٦١–٣٨٩ | فارسي |
الزيارية | جرجان | من سنة ٣١٦–٤٣٤ | فارسي |
الحمدانية | بين النهرين وحلب | من سنة ٣١٧–٣٩٤ | عربي |
البويهية | العراق وفارس وغيرهما | من سنة ٣٢٠–٤٤٧ | فارسي |
الغزنوية | أفغانستان والهند | من سنة ٣٥١–٥٨٢ | تركي |
الفاطمية | مصر | من سنة ٣٥٧–٥٦٧ | عربي |
(٢) رغبة الأمراء في العلم
فهذه الدول تعاصرت في العصر العباسي الثالث، وكان لها تأثير عظيم في إحياء العلوم بمن نبغ بين ملوكها أو أمرائها أو وزرائها من محبي العلم الآخذين بناصر العلماء — والناس على دين ملوكهم — وإذا أراد الله بالناس خيرًا جعل العلم في ملوكهم والملك في علمائهم؛ لأن العلم لا يورق ولا يثمر إلا في ظل ملك أو أمير يتعهَّده ويأخذ بأيدي أصحابه.
لذلك زها الأدب في زمن عبد الملك بالعصر الأموي، وفي زمن الرشيد والمأمون في العصر العباسي الأول، ولمثل هذا السبب ظهرت ثماره ناضجة في العصر الذي نحن في شأنه، وهو في هذا العصر أكثر ثمرًا وأصح إنتاجًا؛ لأن العاملين على تعهُّده تكاثروا. وبعد أن كان نصيره الخليفة أو وزيره أو بعض عماله في بلد واحد أصبح نصراؤه في هذا العصر عدة ملوك وأمراء ووزراء في أشهر مدائن العالم الإسلامي. وقد تعاونت على استثماره قرائح العرب والفرس والترك والديلم والروم وغيرهم ممن تعرب أو انخرط في الإسلام من أمم الشرق والغرب. وأخذ الناس يتسابقون في خدمة العلم كما يتسابق ملوكهم في نصرة العلماء. وهاك أشهر أنصار العلم في ذلك العصر من الملوك أو الأمراء أو الوزراء في الدول التي تقدَّم ذكرها:
(٣) الدول التي ساعدت على هذه النهضة
(٣-١) الدولة البويهية في العراق وفارس
رجال هذه الدولة وأنصارها الديلم من الجيلان وراء خراسان، ولكن ملوكها آل بويه من الفرس، ويرتفع نسبهم إلى ملوك الفرس القدماء؛ وإنما سُمُّوا ديلم لأنهم سكنوا بلاد الديلم، وهم من الشيعة العلوية، وكان العلويون يسعون في نشر دعوتهم هناك من أيام الرشيد، وآخر من نجح في ذلك الحسن بن علي الأطروش من نسل الحسين، فدعا الديلم إلى مذهبه في أواخر القرن الثالث؛ فأجابوه.
وجدُّ آلِ بويه الأقرب الذي أسس هذه الدولة — اسمه بويه ولقبه أبو شجاع — كان له ثلاثة أولاد هم: علي ويلقب عماد الدولة، وحسن ويلقب ركن الدولة، وأحمد ويلقب معز الدولة. وكان بويه رقيق الحال؛ فانتظم أولاده بالجندية؛ لأنها كانت يومئذ بابًا من أبواب الرزق الواسعة، وكان عماد الدولة في خدمة مرداويج مؤسس الدولة الزيارية، فارتقى عنده حتى ولَّاه الكرج، ثم اتسعت أحواله فكتب إلى الخليفة العباسي — وهو يومئذ الراضي بالله المتوفى سنة ٣٢٩ﻫ — أن يقاطعه على أعمال فارس بمال يحمله إلى دار الخلافة على جاري عادتهم مع الدولة العباسية في ذلك العهد، فأجابه الراضي وبعث إليه بالخلعة. وأخوه حسن ركن الدولة تملَّك خوارزم، وجاء الأخوان واتَّحدا مع أخيهما الثالث معز الدولة في شيراز وساروا غربًا حتى أتوا بغداد في أيام المستكفي سنة ٣٣٤ﻫ، فرحب بهم وخلع عليهم ولقَّبهم الألقاب المذكورة، وجعل معز الدولة أمير الأمراء، فاستبدُّوا في المملكة، واستولوا على الخلافة وعزلوا الخلفاء وولَّوْهم؛ فرفعوا منار الشيعة، وأحيوا معالمها، وأضعفوا نفوذ الأتراك والخلافة العباسية لا تزال في بغداد. ولما أفضت إمارة الأمراء إلى عضد الدولة لُقِّب بالملك، وهو أول من خوطب بهذا اللقب في الإسلام.
وامتدت سلطة البويهيين على العراق وفارس وخراسان إلى سنة ٤٤٧ﻫ، وكانوا يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا العلماء والشعراء والكتاب، فكان أشهر أدباء ذلك العصر من وزرائهم أو عمَّالهم أو قضاتهم أو كتابهم كابن العميد والصاحب بن عباد وسابور بن أردشير المهلبي، فضلًا عن الأدباء من العمال والقضاة وكتَّاب الدولة.
على أن ملوك آل بويه أنفسهم اشتهر منهم غير واحد في الأدب والشعر أشهرهم في ذلك عضد الدولة المتوفى سنة ٣٧٢ﻫ، كان أوسعهم سلطانًا وأقواهم سطوة، وكان مشاركًا في عدة فنون من الأدب، فقرب إليه العلماء والكتاب وأحسن وفادتهم، واستحثَّهم على الاشتغال بالعلم وتأليف الكتب، فألف له أبو إسحاق الصابي كتابًا في أخبار آل بويه سمَّاه الناجي، وألَّف له أبو علي الفارسي كتاب الإيضاح والتكملة في النحو، وقصده فحول الشعراء في عصره كالمتنبي والسلامي وغيرهما، وكان مجلسه لا يخلو من الأدباء والعلماء يباسطهم ويباحثهم. ومن شغفه بالشعر تمنَّى أن يكون المصلوب بدل ابن بقية الوزير لتقال فيه قصيدة محمد بن عمران الأنباري التي مطلعها:
وكان هو نفسه ينظم الشعر الحسن، وقد ذكر صاحب يتيمة الدهر (ج٢) أمثلة من نظمه، ومن نكاته الأدبية أن أفتكين التركي صاحب دمشق كتب إليه: «إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال عنه حكم صاحب مصر، وإن قوَّيْتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم.» فكتب عضد الدولة جوابه كلمات متشابهة في الخط لا تقرأ إلا بعد الشكل والنقط والضبط، وهي: «غرَّك عزُّك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلَّك بهذا تهدا.» والبيمارستان في بغداد ينسب إليه.
وكان عز الدولة أبو منصور بختيار بن معز الدولة شاعرًا (سنة ٣٥٦–٣٦٧)، وكذلك تاج الدولة بن عضد الدولة، وهو آدب آل بويه وأشعرهم وأكرمهم، وكان يلي الأهواز فأدركته حرفة الأدب فأدت إلى نكبته، وكذلك أبو العباس خسرو بن فيروز بن ركن الدولة، وتجد أمثلة من أشعارهم في الجزء الثاني من يتيمة الدهر للثعالبي مؤرخ أدباء ذلك العصر.
على أن تأثيرهم في هذه النهضة يتوقَّف بالأكثر على أخذهم بناصر الأدباء والعلماء، وكانوا شديدي الرغبة في ذلك، فركن الدولة بن بويه في الري وهمذان وأصبهان (سنة ٣٢٠–٣٦٦) استوزر ابن العميد الكاتب العالم المشهور، وكان ابن العميد مقصدًا للشعراء والأدباء وأهل العلم كما سترى، وبهاء الدولة بن عضد الدولة في العراق والأهواز (سنة ٣٧٩–٤٠٣) استوزر سابور بن أردشير، فأنشأ هذا الوزير في كرخ بغداد خزانة كتب وقفها على إفادة الناس. قال ياقوت: «لم يكن في الدنيا أحسن كتب منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة.» وكان سابور أيضًا شاعرًا.
ومعز الدولة بن بويه (سنة ٣٢٠–٣٥٦) استوزر الحسن المهلبي المتوفى سنة ٣٥٢ﻫ، وكان المهلبي شاعرًا أديبًا، وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
قاله وهو في أشد الضيق قبل الوزارة.
وأكثر وزراء هذه الدولة تأثيرًا في هذه النهضة الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة، ثم وزر لفخر الدولة أخيه، وكان شاعرًا عالمًا كاتبًا، وسنترجمه على حدة، وكان يجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره، وكان عظيم المنزلة عند فخر الدولة لا يرد له طلب — فكم يكون تأثيره في إحياء معالم الأدب؟ وكان له عشرات من أهل العلم والأدب يقيمون عنده وعشرات يفدون عليه، وبالجملة فإن البويهيين كانوا يختارون وزراءهم وعمَّالهم حتى كتابهم من الأدباء، ويتعاونون على نصرة الأدب.
(٣-٢) الدولة السامانية في تركستان
وخلفه ابنه نوح بن منصور (سنة ٣٦٦–٣٨٧) من محبي العلم وأهله، كان مجلسه مجتمع الشعراء، وهو أول من اقترح نظم الشاهنامة (إلياذة الفرس) في الفارسية، اقترح ذلك على شاعره الدقيقي، فنظم له بعضها ثم قتل؛ فأتمها الفردوسي بعده بإشارة السلطان محمود الغزنوي كما سيجيء، وكان نوح رغابًا في استخدام رجال العلم، فلما سمع بشهرة الصاحب بن عباد وزير البويهيين، كتب إليه سرًّا يستدعيه إلى بخارا ليفوض إليه وزارته وتدبير أمر مملكته، فاعتذر الصاحب عن ذلك بأنه يحتاج لنقل كتبه إلى ٤٠٠ جمل — ولعل له عذرًا آخر كتمه، وكان نوح هذا شديد الحرص على الكتب راغبًا في اقتنائها، فجمع مكتبة كبيرة حوت أهم المؤلفات في كل علم من الأدب والشعر والتاريخ والطب والفلسفة، ذكرها ابن سينا في حديثه عن صبوته، وقال: إنه استفاد منها، وإن منها كتبًا نادرة الوجود.
ومن أبناء الدولة السامانية منصور الساماني لم يحكم لكنه كان يحب العلماء، فألَّف له أبو بكر الرازي كتاب المنصوري في الطب كما تقدم، وبالجملة كانت بخارا مثابة المجد وكعبة الملك ومجتمع أفراد الزمان من الأدباء والعلماء والفضلاء.
(٣-٣) الدولة الزيارية في طبرستان
كان مقر هذه الدولة في جرجان بطبرستان أول ملوكها مرداويح بن زيار. تولى الملك سنة ٣١٦ﻫ، وأشهرهم بنصرة العلماء شمس المعالي قابوس بن وشمكير (سنة ٣٦٦–٤٠٣)، وكان شاعرًا أديبًا كاتبًا من أبلغ كتاب العربية، وله معرفة بالفلسفة والنجوم والنجامة، وقد ألَّف في العربية رسالة في الأسطرلاب أطنب أبو إسحاق الصابي في مدحها. ومن شعره الأبيات المشهورة التي مطلعها:
وذكر له صاحب يتيمة الدهر أمثلة من الإنشاء البليغ، وكان يراسل الصاحب بن عباد، ووزيره أبو العباس الغانمي يراسل أبا نصر العتبي مؤرخ السلطان محمود الغزنوي.
(٣-٤) الدولة الغزنوية بأفغانستان والهند
مقرها غزنة وملوكها من الأتراك، أولهم ألبتجين تولى سنة ٣٥١ﻫ، لكن أشهرهم وأعظمهم السلطان محمود (سنة ٣٨٨–٤٢١) صاحب الفتوح العظيمة في الهند، وناشر الإسلام فيها، وكان يلقب بيمين الدولة، فتح بخارا وخلف الدولة السامانية فيها سنة ٣٨٩ﻫ وغلب على الزياريين وغيرهم، وامتدت سلطته على أفغانستان وتركستان وخراسان وطبرستان وسجستان وكشمير وشمالي الهند، وورث ما كان هنالك من أسباب الأدب والعلم، وأصبح مجلسه آهلًا بالشعراء كما كانت العادة عند ملوك ذلك العصر، فاقترح عليهم إتمام الشاهنامة التي بدأ بنظمها الدقيقي كما تقدَّم، فأتمَّها الفردوسي وقد نظم معظمها — ولذلك فهي تنسب إليه.
(٣-٥) الدولة الحمدانية في حلب والموصل
هي دولة عربية من قبيلة تغلب بجوار الموصل، جدها حمدان كان له شأن كبير بأخبار تلك الديار، واستولى ابنه محمد بن حمدان على ماردين فأخرجه منها الخليفة المعتضد، وتولى أخوه أبو الهيجاء بن حمدان أميرًا على الموصل وما يليها سنة ٢٩٢ﻫ، واشتد ساعده، وزادت قوة الحمدانيين في ذلك الحين وصاروا دولة حكم منها أربعة أمراء في الموصل وخمسة في حلب حتى خرجت الموصل منهم إلى البويهيين سنة ٣٨٠، واستولى الفاطميون على حلب سنة ٣٩٤.
أشهرهم في نصرة العلم والأدب سيف الدولة أبو الحسن علي صاحب حلب (من سنة ٣٣٣–٣٥٦) ممدوح المتنبي — وكان سيف الدولة أديبًا شاعرًا نقَّادًا للشعر يحب جيده ويطرب لسماعه، وفي شعره صبغة التشبيهات الملوكية كقوله:
وفي يتيمة الدهر طائفة حسنة من شعره وأخباره (٨ ج١)، وكان يقرب الشعراء وأهل الأدب حتى قيل: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، وكان يجالس الشعراء وينتقد أشعارهم نقدًا يدل على شاعرية وعلم، ويبذل لهم الجوائز السنية. وأخباره مع المتنبي مشهورة، وكذلك مع السري الرفاء والنامي والببغاء والواواء وتلك الطبقة.
واشتهر من آل حمدان غير واحد من الشعراء أشعرهم أبو فراس الحمداني الشهير، وسيأتي ذكره، ومنهم أبو زهير وأبو وائل وغيرهما، كما اشتهر منصور وأحمد ابنا كيغلغ من أمراء الشام.
(٣-٦) الدولة المروانية بالأندلس
وكانت الأندلس في هذا العصر في إبان مجدها في ظل عبد الرحمن الناصر (سنة ٣٠٠–٣٥٠) وابنه الحكم (٣٥٠–٣٦٦)، وهما أشهر من أن نبين حبهما العلم والعلماء، وفي غصن الأندلس الرطيب عشرات من الشعراء كانوا يحضرون مجالسهما فضلًا عن علماء الفقه والأدب.
ونبغ من ملوك الطوائف بعدهم جماعة أحبوا الأدب، ونصروا أهله، منهم إسماعيل بن ذي النون المتوفى سنة ٤٣٥ﻫ، وكان عالمًا بالأدب.
(٣-٧) الدولة الفاطمية بمصر
استولى الفاطميون على مصر سنة ٣٥٧ﻫ في أواسط العصر الذي نحن في صدده، ونبغ منهم خليفتان نشطا العلم وأهله هما العزيز بالله (سنة ٣٦٥–٣٨٦) والحاكم بأمر الله (سنة ٣٨٦–٤١١)، فأنشآ خزائن الكتب فيها مئات الألوف من المجلدات في العلوم على اختلاف مواضيعها — أنفقوا في ذلك الأموال الطائلة. وقد وصفنا خزانة العزيز بالله وما فيها من أنواع الكتب وعنايته بتعهُّدها والإنفاق عليها في تاريخ التمدن الإسلامي ج٣، ووصفنا أيضًا مكتبة الحاكم التي سمَّاها دار الحكمة أو دار العلم، وما أباحه من المناظرة بين المترددين إليها، ومقدار ما فيها من كتب، والتسهيل على الناس للمطالعة والنسخ. ولم يكن اشتغالهم قاصرًا على خدمة علوم الأدب والفقه، ولكنهم خدموا علم النجوم بالمراصد التي أنشئوها كالرصد الحاكمي (المرصد) الذي بناه الحاكم على جبل المقطم ما زال عمدة الراصدين حتى بنى نصير الدين الطوسي مرصده في مراغة بتركستان سنة ٦٥٧ﻫ، ونبغ من الأسرة الفاطمية غير واحد من الشعراء.
(٤) الوجهاء والعلم
فرغبة السلاطين والملوك في العلم حبَّبه إلى سائر الوجهاء وأهل الدولة، فاشتهرت غير أسرة من بيوتات الشرف بالانتماء إلى العلم منهم آل الميكالي في خراسان وأصلهم من فارس، لكنهم تعرَّبوا وأغرموا بآداب العرب؛ فنبغ منهم الشعراء والأدباء كأبي الفضل الميكالي وأبي محمد الميكالي وغيرهما، وآل المأموني من نسل الخليفة المأمون، وآل الواثقي من نسل الواثق وكلاهما في بخارا. وبالجملة فقد كانت العلوم رائجة وأصحابها في عز وثروة يؤلِّفون الكتب للملوك أو الأمراء أو الوزراء، وينالون عليها الجوائز السنية، وربما ألف الواحد منهم كتابًا للملك البويهي وكتابًا للساماني وآخر للغزنوي، كما فعل أبو منصور الثعالبي؛ فإنه ألَّف كتابه لطائف المعارف للصاحب بن عباد، والمبهج والتمثُّل والمحاضرة لشمس المعالي قابوس بن وشمكير، وسحر البلاغة وفقه اللغة لأبي الفضل الميكالي، والنهاية في الكناية ونثر النظم واللطائف والظرائف للمأمون صاحب خوارزم وقس على ذلك. فلا عجب إذا كثر المؤلفون، وتعددت المؤلفات، وحدث تغيير في أكثر أبواب العلم كما ستراه في مكانه.
وقد رأيت مما تقدم أن أكثر الدول المعاصرة من غير العرب كالسامانية والزيارية والغزنوية والبويهية وأكثرها فارسية الأصل، وكان الفرس قد أخذوا في إعادة مجدهم قبل الإسلام بعد أن دانوا للعرب نحو ثلاثة قرون، فأنشئوا الدول وهم فرس في بلاد فارسية، وأخذوا في إحياء آداب أسلافهم؛ فنبغ فيهم الشعراء ونَظَمُوا الشاهنامة وغيرها — ومع ذلك لم يروا بدًّا من التعويل على اللغة العربية وجعلها لغة العلم والسياسة والأدب والدين.