مزايا هذا العصر
(١) نضج العلوم وكثرة المكاتب
يمتاز هذا العصر بنضج العلم على الإجمال، وفيه تكوَّنت المعاجم اللغوية، واستقر الإنشاء على أسلوب أصبح قاعدة يتحدَّاها أهل العصور التالية بما يعبِّر عنه الإفرنج بقولهم: (كلاسيك.) ونضجت الفلسفة، وتألفت جمعية إخوان الصفا، واستقرت قواعد الطبيعيات والطب، كما ظهرت في رسائل إخوان الصفا وفي جملتها آراؤهم في أصل الموجودات وتدرجها في الخلق من البسائط إلى المركبات نحو ما يقول اليوم أصحاب النشوء والارتقاء. واتَّسَع خيال الشعراء وظهر الشعر الفلسفي المبني على المشاهد والاختبار والتفكير في الحكمة بالوجود، وتم تكوين الانتقاد الشعري أو الأدبي، واستقرت أبواب الشعر على حال، وظهرت الروايات والقصص الحماسية الخيالية، ونما فن التاريخ والجغرافيا، وتفرع منها علم معرفة الأوائل، وظهر كتاب الفهرست لابن النديم، وهو أهم مصادر تاريخ آداب اللغة إلى ذلك العهد.
وامتاز هذا العصر بكثرة المكاتب الكبرى في مصر والعراق والأندلس وغيرها تشتمل المكتبة منها على مئات الألوف من المجلدات، وفتحت أبوابها لطلاب العلم والمطالعين كمكتبة العزيز الفاطمي التي تقدَّم ذكرها كانت تحتوي على نحو مليون من كتب الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ والنجامة والروحانيات وسائر العلوم القديمة، ودار الحكمة أو دار العلم للحاكم بأمر الله، وكانت أبوابها مفتوحة للطلاب كالمدرسة الكبرى للمطالعة والنسخ — نحو ما يراد بدار الكتب الخديوية الآن، ومكتبة الحكم بن الناصر في قرطبة، وقس على ذلك مكتبة سابور بن أردشير في بغداد ومكاتب فارس وما وراء النهر وغيرها.
(٢) ظهور الموسوعات
وفيه أخذت الموسوعات (دوائر المعارف) في الظهور بعد أن وضع أساسها الفارابي كما تقدم. على أن من كتب الأدب ما يعدُّ من قبيل الموسوعات لتعدد مواضيعه ككتاب العقد الفريد الذي ذكرناه، وأقرب منه إلى هذا النوع من المؤلفات كتاب «مفاتيح العلوم» لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي، المتوفى سنة ٣٨٧ﻫ، ألفه لأبي الحسن عبيد الله بن أحمد العتبي، وقسمه إلى مقالتين:
الأولى تشتمل على ٥٢ فصلًا تجتمع في ستة أبواب وهي: (١) الفقه، (٢) الكلام، (٣) النحو، (٤) الكتابة، (٥) الشعر والعروض، (٦) الأخبار. والمقالة الثانية ٤١ فصلًا في تسعة أبواب: (١) الفلسفة، (٢) المنطق، (٣) الطب، (٤) علم العدد، (٥) الهندسة، (٦) النجوم، (٧) الموسيقى، (٨) الخيال، (٩) الكيمياء. وقد طبع هذا الكتاب في ليدن سنة ١٨٩٥ بعناية المستشرق فان فلونن في نيف وثلاثمائة صفحة، وهو عبارة عن مدخل للعلوم والفنون جامع لأوائلها فيحتوي على الموضوعات والمصطلحات العلمية، فهو أشبه بكتاب حدود العلوم وتعريفها؛ ولذلك سماه مفاتيحها، لكنه جزيل الفائدة. وقد ألف العرب كثيرًا من الموسوعات بعد هذا العصر سيأتي الكلام عليها في مكانه.
(٣) تعدد العلوم
وتعددت فروع العلم حتى زادت على ثلاثمائة علم قسمها صاحب مفتاح السعادة إلى ستة أبواب: (١) العلوم الخطية تسعة علوم، (٢) العلوم المتعلقة بالألفاظ أو العلوم اللسانية والتاريخ وغيرها ٤٤ علمًا، (٣) العلوم الباحثة عما في الأذهان من المنقولات خمسة، (٤) العلوم المتعلقة بالأعيان ويدخل فيها الطبيعيات والرياضيات والطب والتاريخ الطبيعي والفراسة، وهي ١٢٢ علمًا، (٥) العلوم الحكمية العلمية ثمانية علوم، (٦) العلوم الشرعية كعلوم القراءة والتفسير والحديث وأصول الدين، ويزيد عددها جميعًا على نيف ومائة علم، ولولا ضيق المقام لأتينا بأسمائها، وفي كل علم من هذه العلوم مؤلِّفون ومؤلفات تعدُّ بالمئات والألوف شاع أكثرها، وعلينا أن نذكر ما بقي منها.
(٤) التدبير المنزلي
وبين هذه العلوم فروع لم يتصل إلى مثلها أهل التمدن الحديث إلا بعد أن نضج تمدنهم في القرن الماضي، وقد عرفها العرب وألَّفوا فيها منذ ألف سنة أو نحوها، كعلم «تدبير المنزل»، وهو عندهم فرع من الحكمة العملية وحده «معرفة اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدامه، وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال»، وموضوعه «أحوال الأشخاص المذكورة من حيث الانتظام»، وحاصله «انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكن من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبينهم»، ومن المؤلفات في هذا الموضوع كتاب تدبير المنزل لبروسن، ذكره صاحب الفهرست وقد ضاع، ومن الكتب المنزلية التي تدخل في راحة العائلة، وقد ظهر كثير منها في العصر العباسي الأول والثاني فضلًا عن الثالث: كتب الطبخ، منها «كتاب الطبخ» لإبراهيم بن المهدي، وغيره لابن ماسويه، ولإبراهيم بن العباس الصولي، ولعلي بن يحيى، ولأحمد بن الطبيب، ولجحظة، والرازي وغيرهم، قد ضاعت. ويظهر من أسماء مؤلفيها أنها كانت مبنية على العلم، ومنها كتب العطريات وأشباهها، وهي كثيرة، وتدخل في باب تدبير المنزل.
(٥) كتب السياسة
وألفوا أيضًا في السياسة، وهي من فروع الحكمة العملية، تحدوا بها ما نقلوه عن أرسطو. والسياسة عندهم ضروب منها السياسة الشرعية والمدنية. وقد ألَّف في السياسة على إجمالها أبو زيد البلخي — المؤرخ الجغرافي المتقدم ذكره — كتابين الكبير والصغير، وألف في السياسة المدنية أبو نصر الفارابي الفيلسوف كما تقدم. ومن هذا القبيل كتاب سياسة الملك للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ﻫ، ومن الكتب الهامة في هذا الموضوع كتاب «سياسة المالك في تدبير الممالك» لابن أبي الربيع، جاء في مقدمته أنه ألَّفه للمعتصم العباسي (المتوفى سنة ٢٢٧ﻫ)، وقد ذكرنا في محل آخر من هذا الكتاب أنه متأخر عن ذلك التاريخ لأسباب بيَّنَّاها هناك ووصفنا الكتاب، وهو جليل جدًّا لم يغادر بحثًا من أبحاث العمران والسياسة والأخلاق إلا طرقه ورتَّبه، وأوضح مسائله بشكل المشجرات حتى الطب والفلسفة. ومن هذا القبيل كتاب «سراج الملوك» للطرطوشي و«نهج السلوك في سياسة الملوك» للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، قدمه لصلاح الدين الأيوبي، وقد طبع بمصر سنة ١٣٢٦.
(٦) الاقتصاد السياسي
واشتغلوا أيضًا في علم الاقتصاد السياسي، وهو من العلوم التي يعدها أهل زماننا من محدثات هذا التمدن، لكنه قديم في آداب لغتنا لا يتجاوز تاريخه العصر الذي نحن في صدده، بل هو أقدم من ذلك، فإن جماعة ألَّفوا في المواضيع التجارية الاقتصادية في العصر العباسي الثاني، لكن مواضيعهم كانت خاصة في صنف أو بضعة أصناف، ككتاب «الجواهر وأصنافها» لمحمد بن شاذان الجوهري، ألَّفه للمعتضد المتوفى سنة ٢٧٩ﻫ، وكتاب «أجناس الرقيق» لرجل من أهل مصر، وكتاب «مزاجات الجواهر وعمل الفولاذ» ونحوها مما يتوسَّم فيه فن الاقتصاد السياسي، وإن لم نقف على شيء من تلك الكتب لأنها ضاعت، لكننا عثرنا على كتاب شامل في هذا الموضوع، نعني به كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة» للشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي، لا يُعرف زمن وفاته، لكن يعرف من بعض القرائن أن تأليفه لا يتجاوز العصر العباسي الثالث، والكتاب نفيس يبحث في معرفة جيد الأعراض ورديئها وغشوش المدلسين، وفصول في حقيقة المال وأنواعه واستثماره والكشف عن رديئه وفاسده من الأحجار الكريمة والأفاويه والأنسجة والأبسطة والمحصولات الموسمية والأقوات كالزيت والدقيق، وفي الدواب كالخيل والبغال والماشية، وفي الكتاب فصول في حصول الأموال واكتسابها بالمغالبة أو الاحتيال، ووصايا نافعة للتجار على اختلاف طبقاتهم، والكتاب مطبوع بمصر سنة ١٣١٨.
(٧) علم العمران وغيره
ومن أبحاثهم أيضًا علم العمران، والمشهور أنه من ثمار التمدن الحديث، ولكنه ولد في زمن العباسيين ونضج بعدهم، وإن لم تظهر فيه مؤلفات مستقلة قبل مقدمة ابن خلدون، فإن في كتاب سياسة المالك المتقدم ذكره فصولًا كثيرة من قبيل العمران غير ما في كتب الأدب والسياسة من هذا القبيل، وفي كل حال فإن الفضل فيه للعرب بما كتبه ابن خلدون، وهو أستاذ العالم في هذا العلم، وسيأتي الكلام على ذلك في مكانه.
وناهيك بعلوم الحرب وضروبها، فإنهم ألَّفوا فيها من أوائل دولتهم، وذكر صاحب الفهرست كتابًا للهرثمي الشعراني ألَّفه للمأمون سمَّاه كتاب «الحيل»، جعله مقالتين: الأولى ٣ أجزاء، والثانية ٣٦ فصلًا، كلها في الحروب وآلاتها، وذكر كتابًا قبله لعبد الجبار بن عدي ألَّفه للمنصور في آداب الحروب وصورة العسكر وغيرها كثير، لكن أكثرها ضاع، وسنأتي على تفاصيل أخرى عند الكلام على كل علم في بابه.