الروايات أو القصص
(١) تمهيد
نريد بالروايات ما يسميه الإفرنج بلسانهم «رومان»، واحدها رواية، وهي القصة عندنا. وإنما اخترنا لفظ الرواية مجاراة لمفهوم القراء منها؛ لأنها عندهم أدل من القصة على ما نحن فيه، والروايات فنٌّ له شأن عظيم في آداب اللغات الإفرنجية يكاد يكون أهمها. وأما في العربية فإنه من أضعف فروع الأدب، ويراد به تمثيل الأخلاق والعادات والآداب في سياق قصة موضوعة، وقد تكون بشكل تمثيلي فتسمى في اصطلاحهم «درام»، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، اقتصرنا فيه على ما في آداب الجاهلية مما يقابل الدرام عند اليونان، ونحن ذاكرون هنا فن الروايات على الإجمال في التمدن الإسلامي.
يظهر أن العرب قلما اهتمُّوا لهذا الفن في صدر دولتهم ولا التفتوا إلى ما كان منه عند اليونان لمَّا نقلوا علومهم، فلم ينقلوا الإلياذة ولا الأنياد ولا غيرهما من الروايات عند اليونان والرومان، لكنهم نقلوا شيئًا من هذا القبيل عن الفرس والهنود على يد عبد الله بن المقفع وجَبَلة بن سالم وغيرهما، فمما نقل عن الفارسية كليلة ودمنة، وكتاب رستم وأسفنديار، وكتاب الآداب الكبير، وهزار أفسانة، وشهريزاد مع أبرويز، والكارنامج في سيرة أنوشروان، ودارا والصنم الذهب، وبهرام ونرسي.
ومما نقل عن الهندية كتاب سندباد الكبير والصغير، وكتاب بوداسف وكتاب أدب الهند وغيرها، وقد ضاع أكثر هذه الترجمات، وتغيَّر ما بقي منها وتبدل حتى صار إلى غير ما كان عليه كما سترى.
على أننا نرى ما بين أيدينا قصصًا وروايات مطبوعة يتداولها الناس، ويقرءونها، أشهرها قصة عنتر، وألف ليلة وليلة، وأبي زيد الهلالي، والزير، والملك سيف، والملك الظاهر، وعلي الزيبق، وفيروز شاه، ونحوها، فهذه القصص أكثرها وضع بعد العصر الثالث، وإنما يهمنا هنا القصص والروايات التي دُوِّنَتْ في ذلك العصر أو قبله، وهي تقسم إلى قسمين: الأول ما وضعه العرب من عند أنفسهم، والثاني ما نقلوه عن غيرهم وتوسَّعوا فيه. وإليك تفصيل ذلك:
(٢) القصص التي وضعوها من عند أنفسهم
أما ما وضعوه فيرجع في الغالب إلى تصوير مناقب الجاهلية وحال الاجتماع فيها، كالحماسة والوفاء والجوار والشجاعة والعصبية والثأر، وتجد هذه المناقب ممثلة في أخبارهم وأيامهم المشهورة قبل الإسلام، وهي حقائق تاريخية تناقلوها بعد الإسلام، وكانوا يتلون تلك القصص في صدر دولتهم على جندهم لتحميسهم واستحثاث بسالتهم إذا قاموا لفتح أو حرب، كذلك كانوا يفعلون بتلاوة أشعار عنترة وغيرها على أيدي القصاص قبيل المعارك لهذا الغرض.
فلما تحضروا وأنشئوا الدول عمدوا إلى بعض تلك الأخبار، فوسعوها في شكل روائي يشوق إلى المطالعة، ولم يكن ذلك مقصودًا في بادئ الرأي، وإنما كانت القصة تكبر وتتسع تدريجًا بالتناقل الشفاهي قبل تدوينها، وبما أن المراد منها التحميس لا تقرير الحقيقة، فكان الراوي يبالغ في القصة ويزيد فيها ما يثير الحماسة على ما تقتضيه الأحوال، والقصة تنمو وتتشعب حتى يقضي بهم الأمر إلى تدوينها بشكل الروايات الحماسية، فيدونوها كما صارت إليه. هكذا فعلوا في أكثر قصصهم، ورغبة في تصويرها بشكل الحقيقة أسندوا أخبارها إلى بعض الرواة المشهورين كالأصمعي وأبي عبيدة وأمثالهما، وتنوسي مؤلفوها الحقيقيون بتباعد العهد بهم كما تنوسيت أسماء مؤلفي أكثر القصص القديمة عند الإفرنج.
وقد نضج هذا الفن عن العرب في العصر العباسي الثالث فدونت تلك الروايات أو القصص قبل انقضائه، وهي تتفاوت بعدًا عن الحقيقة وقربًا منها وصار بعضها يتلى في المنازل والأندية لمجرد التسلية ولم يصلنا منها كاملًا ناضجًا إلا قصة عنتر.
(٢-١) قصة عنتر
هي أكبر القصص الحماسية العربية أو هي عدة قصص متداخلة متسلسلة لا تحتاج في تعريفها إلى تفصيل لاشتهارها وشيوعها، وإنما نقول بالإجمال: إنها قصة حماسية غرامية تمثل آداب الجاهلية وأخلاق أهلها وحروبهم وعاداتهم، وأكثر الأسماء الواردة فيها لها مسميات تاريخية حقيقية، لكنها مسبوكة في سياق قصة والمبالغة ظاهرة فيها والمشهور أنها وضعت في أواخر القرن الرابع للهجرة، وضعها رجل اسمه يوسف بن إسماعيل في زمن الخليفة العزيز بالله الفاطمي بمصر لسبب ذكرناه في الجزء الأول من هذا الكتاب، وبينا هناك أن هذا الرجل ليس هو واضعها دفعة واحدة بل تكونت بالتدريج، وهي أحسن القصص العربية وأفيدها، وقد عني الإفرنج بنقلها إلى ألسنتهم كاملة وملخصة، وطبعت في العربية مرارًا عديدة في بضعة آلاف صفحة.
(٢-٢) قصة البراق
وهناك طائفة من الروايات الحماسية العربية وقف نموها في أوائل تكونها؛ لأنهم أسرعوا في تدوينها ولا تزال عليها صبغة الأخبار التاريخية، وتعد من قبيل التاريخ أو أيام العرب الجاهلية.
منها مجموعة لعمر بن شبة المتوفى سنة ٢٦٢ﻫ سماها الجمهرة (تقدم ذكرها)، يشتمل على حوادث عديدة أكثرها وقع بين ربيعة وغيرهم، كما أن قصة عنتر بين عبس وسواهم، لكن المطالع يتبين من مواقف كثيرة أن هذه الأخبار متوسطة بين التاريخ والقصة، بطلها الأشهر اسمه البراق، وهو شاعر قديم من ربيعة من أقرباء المهلهل وكليب، وله تاريخ مختصر فيه حماسة مثل تاريخ عنترة، وله خبر مع ابنة عمه ليلى بنت لكيز وأشعار حماسية وفخرية، وقد توسع خبره هذا بتوالي الأيام كما توسعت قصة عنتر لكنه ما زال أصغر حجمًا وأقرب إلى الحقيقة منها، وقصته هذه لا تعرف باسمه وإنما هي مجموع أخبار عن وقائع حربية، ضمنها ابن شبة كتاب الجمهرة في خمس قصص متسلسلة:
القصة الأولى مبنية على قتل الحارث بن عباد من ضبيعة (بطن من ربيعة) للفضيل بن عمران من سدوس (بطن من طي)، بسبب قنص اختصما عليه فانتشبت الحرب بين القبليتين ثم بين ربيعة وطي وقضاعة، ودخل فيها البراق وهو من رؤساء ربيعة وابن أخت زعيم الطائيين شبيب بن لهيب، فاجتعمت قبائل ربيعة تحت راية البراق وكليب وجرت بين الطائفتين ثماني وقائع قد تكون في أصلها تاريخية لكن سياقها يدل على توسع فيها على سبيل الرواية، واستغرقت هذه القصة ٣٦ صفحة، وإسناد الحديث فيها إلى ذؤيب بن نافع.
يليها قصة قطيعة مضر وربيعة، ثم خروج لكيز، وهما صغيرتان، ثم قصة سبي ليلى بنت لكيز من وائل إلى بلاد العجم، وما جرى بسبب ذلك من الحروب بين العرب والعجم والروم، وبطل الرواية البراق المذكور، واستعانوا بمضر وزعيمها نوفل بن عمرو، وأخبار البراق في هذا القسم أقرب إلى الرواية؛ لأنها تشبه ما يروى عن عنترة ويتخلل ذلك أشعار حماسية.
ويليها حروب بين وائل واليمنيين سببها أن أسيرًا كان عند كليب فقتله كليب. ودخل في هذه القصة كليب ومهلهل. وأخيرًا حرب البسوس، وهي قصة قائمة بنفسها استغرقت مائة صفحة كبيرة يتخللها حوادث عنترية وحماسات ومبارزات ومناشدات وغير ذلك حتى يخيل للقارئ أنه يطالع قصة عنتر، لكنها أصح لغة وأقرب إلى أسلوب صدر الإسلام وأقل مبالغة، ولعلها لو تداولتها الأيدي وتناقلها القصاص شفاهًا إلى العصر الذي دونت فيه قصة عنتر لصارت مثلها، ولكنها دونت قبلها بقرن وبعض القرن، والجمهرة موجودة خطًّا في المكتبة الخديوية.
(٢-٣) قصة بكر وتغلب
ومن هذا القبيل كتاب بكر وتغلب ابني وائل وفيه خبر كليب وجساس، والقصة فيه أقرب إلى التاريخ منها إلى الرواية تشتمل على وقائع لها ذكر في التاريخ. وقد زاد فيها المؤلف قصائد وتفاصيل نظنها خيالية أراد بها بيان حماسة العرب وقوة ربيعة على الخصوص، وهي منسوبة في روايتها إلى محمد بن إسحاق، أو لعل الكاتب أخذ شيئًا من رواية ابن إسحاق، وأتمَّها من عند نفسه، والكتاب مطبوع في بمباي سنة ١٣٠٥ يدخل في ١٢٠ صفحة كبيرة.
(٢-٤) قصة شيبان مع كسرى أنوشروان
هي قصة تاريخية تدخل في سبعين صفحة مطبوعة في بمباي مع تلك لكنها أقرب منها إلى الرواية الخيالية، مبنية على حادثة تاريخية في أصلها، وتوسع المؤلف بها فجعل سبب الحروب بين شيبان وكسرى أنو شروان أن كسرى طلب من النعمان ابنته الحرقة بنت المتجردة، فقامت الحرب بسبب ذلك، ويتخلل تلك الحوادث قصائد تنم عن حداثة نظمها فضلًا عن قصائد حقيقية نظمها أبطال تلك الرواية، ومجمل الحديث فيها مروي عن بشر بن مروان الأسدي عن ابن نافع التميمي.
والتوسع في الوقائع التاريخية حتى تصير بشكل الرواية ليس من مبتدعات العرب، بل هو عام في الأمم القديمة قبل التدوين؛ لأن القصص تنمو بالتناقل بسليقة في فطرة الإنسان من الميل إلى المبالغة فيما يقصه استلفاتًا لإعجاب السامع، وفي بعض الناس ميل إلى تزويق العبارة وتطويلها والتوسع فيها، وبتوالي الأجيال تنمو الحادثة وتصير قصة وأكثر روايات الأمم القديمة من هذا القبيل، وأكثرها شيوعًا بيننا إلياذة هوميروس فإن لها أصلًا تاريخيًّا هو حصار طروادة اتسع بتوالي الأجيال حتى انتهى إلى هوميروس فدونه أو أتمه، فنسبت روايته إليه كما تنسب رواية قصة بني شيبان وكسرى إلى ابن نافع، ولم يبلغ العرب ما بلغ إليه اليونان من المبالغة، فإن هؤلاء أنزلوا الآلهة إلى ساحة الحرب.
(٢-٥) الروايات الغرامية
ومما وضعه العرب من عند أنفسهم أيضًا قصص العشاق العذريين ونحوهم، وفيها تمثيل العفة أو التفاني في سبيل الحب، بنوها على ما جاء في أخبار عشاق صدر الإسلام ككثير لبنى وجميل بثينة. فألفوا قصصًا غرامية نضجت قبل انقضاء العصر الثالث الذي نحن في صدده، منها كتاب عمر بن أبي ربيعة الشاعر المشهور بالنسيب، وكتاب مليكة ونعم وابن الوزير، وأحمد وداحة، وقصة أبي العتاهية وعتب، وأحمد بن قتيبة وبانوحة، ووضعوا قصصًا غرامية على غير المشهورين من عشاق العرب كقصة علي بن أديم ومنهلة وقصة عمرو بن صالح وقصاف، وقصصًا في الحبائب المتطرفات من النساء كقصة ريحانة وقرنفل، ورقية وخديجة، وسكينة والرباب، وهند وابنة النعمان، وسلمى وسعادة، وغيرها، وقد ذكر صاحب الفهرست عشرات منها ومن قصص بين الإنس والجن وغير ذلك، وأكثرها ضاع وما بقي منها أدخلوه في قصة ألف ليلة وليلة.
(٣) القصص المنقولة
أما ما نقله العرب من القصص عن اللغات الأخرى، فهو يمثل على الغالب آداب الأمة التي نقلت القصة عنها، وأكثرها نقل عن الفرس والهند، فهي لذلك تمثل آداب تينك الأمتين، وقد ذكرنا أسماء بعضها، وذكر الفهرست عشرات منها وقصصًا وأسمارًا يونانية ضاعت كلها ولم يصلنا منها إلا ما في رواية ألف ليلة وليلة من تلك الأقاصيص.
(٣-١) ألف ليلة وليلة
هي مجموع قصص متسلسلة تدخل في بضعة آلاف صفحة، وهي مشهورة ومتداولة ولها طبعات عديدة، واختلف الباحثون في أصلها وتاريخها، وعندنا أنها مؤلفة من قصص تجمعت بتوالي الأجيال مما ترجموه أو وضعوه، ولها أصل نقل عن الفارسية قبل القرن الرابع للهجرة نعني كتاب «هزار أفسانه».
روى ذلك المسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ﻫ قال: «وقد ذكر كثير من الناس أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك برواياتها وأن سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية مثل كتاب أفسان، وتفسير ذلك في الفارسة (خرافة)، ويقال له: أفسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها شهر زاد ودينار زاد.»
وجاء بعده ابن النديم البغدادي صاحب الفهرست الآتي ذكره، فقال في أصل وضع كتاب هزار أفسانه هذا في الفارسية: «إن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك لها عقل ودراية يقال لها: شهر زاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدًا أظهرته، وأوقفت الملك على حيلتها عليه فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها: دينار زاد فكانت موافقة لها على ذلك وقد قيل: إن هذا الكتاب تأليف لحماني (الصحيح اهما) ابنة بهمن»، وهذا الوصف ينطبق على ألف ليلة وليلة تمام الانطباق.
وذكر ابن النديم في مكان آخر أنه شاهد هذا الكتاب وأنه غث بارد، ولا ندري الآن أي جزء من ألف ليلة وليلة هو.
فالعرب نقلوا هذا الكتاب من الفارسية قبل القرن الرابع للهجرة، ثم أضافوا إليه ووسعوه وغيَّروا وبدلوا فيه حتى صار كما وصل إلينا، ومن يطلع عليه يجد فيه قصصًا يدل أسلوبها وألفاظها وبعض ما حوته من العادات أنها كتبت بعد ذلك بقرون عديدة كشرب القهوة، وذكر بعض الحكام المتأخرين من المماليك أو رجالهم كأبي طبق ونحوه، ولا يعلل ذلك إلا بما تقدم من توسيع القصة الأصلية المنقولة عن الفارسية بإضافة قصص وأسمار كانت شائعة بين الناس مما وضعوه هم أو نقلوه عن سواهم.
والأرجح أن تأليفها على الصورة التي وصلت بها إلينا تم بعد القرن العاشر للهجرة، وأكثر تلك الزيادات حدثت في مصر، ولعلنا لو أتيح لنا الوقوف على الترجمة الأصلية لهزار أفسانه لوجدنا الفرق بينها وبين قصة ألف ليلة وليلة كالفرق بين أوذيسة هوميروس وأنيادة فرجيل، فإن هذه أكثرها منقول عن الأوذيسة ومع ذلك فهي تنسب إلى فرجيل؛ ولهذا السبب يصح أن يقال عن ألف ليلة وليلة إنها من مؤلفات العرب، وإن كان بعضها لا يزال على أصله الفارسي.
وهي كما وصلت إلينا تمثل الآداب الاجتماعية في القرون الإسلامية الوسطى، ويدخل في ذلك الانهماك في الملذات والتهتك، وقد وصفت المرأة فيها وصفًا يدل على ضعفها وسوء ظن الرجل فيها وفي آدابها، وفي الكتاب كثير من قصص العفاريت وعجائب الخلق وغرائب الحوادث مما يصوره الوهم والخيال، وسواء كان ذلك مما نقل عن الفرس أو مما وضعه العرب، فإنه من طبيعة تلك العصور، وقد تولد بالنمو التدريجي قبل تدوينه لميل الإنسان من فطرته إلى المبالغة كما تقدم، فأخبار السندباد البحري وغرائب ما شاهده في أسفاره في الأسماك الكبيرة الحجم التي يبلغ طولها مئات من الأذرع، ومنها ما هو بصفة البقر أو الحمير والوادي الذي حجارته من الألماس ويعج بالأفاعي عجيجًا، وجبل القرود والثعابين التي تأكل الآدميين، وطير الرخ الذي يشبع من فرخه الصغير عشرات من الناس، وإذا كبر سطا على السفن وكسرها بصخور يلقيها عليها، ونحو ذلك مما يخالف المألوف عندنا الآن فإنه لم يوضع دفعة واحدة وإنما نما بالتناقل وأصله مبالغة قليلة رواها أهل الرحلة، كما فعل بزرك بن شهريار في أخبار الهند مما فصَّلناه في هذا الكتاب، فمبالغاته وسط بين الحقيقة والخرافة لو تنوقلت شفاهًا لصارت كالخرافات تمامًا وقس عليه سائر المبالغات.
(٣-٢) خرافات الإفرنج
(٣-٣) عود إلى ألف ليلة وليلة
ويتخلل حكايات ألف ليلة وليلة قصص قصيرة أبطالها من مشاهير العرب بالجود والحلم أو الوفاء أو غير ذلك، كقصة حاتم الطائي بعد موته وقصص معن بن زائدة ويحيى البرمكي وابنيه جعفر والفضل وإبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي وعكرمة وخذيمة والرشيد والمأمون وغيرهم، وفيها قصص مغزاها حسن تمثل الصبر والتعقل والحكمة والتبصر في العواقب، ومعظمها كانت قصصًا مستقلة فأدخلت عليها بتوالي الأزمان، وبعضها يقرب من الواقع ويطابق سياق التاريخ، وفيها من الجهة الأخرى خرافات على ألسنة البهائم كقصة الدجاجة والبطة والأسد ونحوها.
وبالجملة إنها مجموع قصص مختلفة المواضيع والأساليب والأغراض، عبارتها على الإجمال سهلة تختلف قوة وصحة باختلاف القصص وأعصرها، على أنها لم تبق كما وضعت؛ لأن النسَّاخ والطباعين نقحوها وهذَّبوا عبارتها، وقد طبعت مرارًا ونقلت إلى أكثر لغات أوروبا نقولًا تختلف قربًا من الأصل وبعدًا عنه بين اختصار وتهذيب، وبعضهم بالغ في الاختصار والتبديل حتى صارت الترجمة ليس عليها من قصة ألف ليلة وليلة إلا اسمها، وفي بعض المواضع من هذه القصة عبارات يخجل الأديب من تلاوتها حذفت من بعض طبعاتها في بيروت ومصر.
(٣-٤) قصص أخرى من أمثالها
لما شاعت الترجمات الفارسية المتقدم ذكرها في العالم العربي، أخذ الأدباء في القرنين الثالث والرابع ينسجون على منوالها أو يجمعون مما بين أيديهم ما يشبهها، وقد ذكر ابن النديم كتابًا شاهده بنفسه تأليف الجهشياري قال في وصفه: «وابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب الوزراء بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من سمار العرب والعجم والروم وغيرهم كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلى بنفسه، وكان فاضلًا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي، وكان قبل ذلك من يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم.» ولم يصلنا من هذه الكتب وأمثالها غير ألف ليلة وليلة.
وهناك طائفة من القصص الخرافية والنكت المجونية، ظهرت قبل انقضاء العصر الذي نحن في صدده ككتاب حوشب الأسدي وكتاب جحا، ونوادر أبي ضمضم ونوادر ابن الموصلي لم يبق منها إلا القليل، أما سائر القصص الكبرى المتداولة بين أيدينا الآن كقصة الزير والزيبق وبني هلال وغيرها فسيأتي ذكرها في مكانه.
(٣-٥) الدرام
ونريد به الروايات التمثيلية وهو عظيم الأهمية عند الإفرنج؛ لأنه يمثل الأخلاق والآداب والعادات على المراسح ليشاهدها الناس ويعتبروا بها، لكن العرب لم يعانوا التمثيل على المراسح ولا ألفوا فيه، وقد عد بعض المستشرقين المقامات كمقامات الهمذاني أو الحريري من قبيل الدرام، ولا نرى مسوغًا لهذا القول والمقامات إنما يراد بها الفائدة اللغوية لما يتوخونه فيها من البلاغة والألفاظ الغريبة وإيراد الأمثال والحكم، وليس المراد مغزاها كما يريد الإفرنج من التمثيل، ونجل كتابنا عن أن يكون غرضهم من تأليفها العبرة أو الموعظة، وهي في الغالب مبنية على المجون وانتحال أسباب الكسب بالحيل ونحوها.
ولعل السبب في تقاعد العرب عن فن التمثيل أنه يحتاج إلى ظهور المرأة على المراسح، وهم يتجافون عنه بسبب الحجاب، أو هو تابع لتباعدهم عن وضع القصص الشعرية أو الشعر القصصي (أيبوبه) الذي يحتاج إلى توسيع الموضوع وتشعيبه وتفريعه، على أن أبا العلاء المعري نابغة الشعراء في العصر الثالث وضع شيئًا كالدرام؛ نعني رسالة الغفران، فإنها تشبه أن تكون من نوع الكوميديا وإن لم يقصد تمثيلها.
ويظهر أن الشيعة في بلاد فارس لم يبالوا بهذه الموانع في تمثيل مقتل الحسين في كربلاء، فإنهم يمثلون تلك الواقعة على المراسح في عاشوراء، وتبتدئ هذه الرواية بيوم خروج الحسين من مكة وتنتهي بقتله، أو هو الفصل الأخير منها ويسمونه «روز قتل» أي: يوم القتل، فهذا الفصل يمثلونه يوم عاشوراء بحضور الشاه ورجال دولته في ساحة كبيرة فيشخصون الحسين وشمر والعباس وجعفر وزينب وسكينة وكلثوم وأم ليلى وعمر بن سعد وغيرهم وكيفية الواقعة من أول النهار إلى آخره ومقتل الحسين وأصحابه؛ يفعلون ذلك في ساحة ينصبون فيها الخيام عليها شارات الحداد، فيقوم شيخ يقرأ على الناس حكاية مقتل الحسين بنغم محزن ولا يكاد يبدأ بالقراءة حتى تهيج عواطف السامعين، فيبكون ويندبون وينوحون فيطوف عليهم شيخ بقطنة يلتقط بها دموعهم ثم يعصرها في قارورة تحفظ بها للاستشفاء، وقد وصف ذلك الاحتفال الرحالة موريه في رحلته الثانية إلى فارس سنة ١٨١١م، ونقلنا ذلك في الهلال صفحة ٤٦٦ سنة ١٨.