الشعر
(١) الانتقال الاجتماعي
انتقل الشعر في الدولة العباسية انتقالًا كبيرًا مثل انتقال الأمة العربية من البداوة إلى الحضارة، ومن شظف العيش إلى الرخاء ومن الملابس الخشنة إلى الناعمة، فتحضر كثيرون من الشعراء، وشاركوا أهل الحضارة بأخلاقهم وشعورهم، وبعد أن كانوا يقيمون في المضارب لا تقع عين أحدهم إلا على صحراء قاحلة تسفي الرياح رمالها يبيت فيها حذرًا خائفًا من غارات الأعداء ودبابات الصحراء، لا عشير له إلا جواده أو ناقته — أصبح وقد أركن إلى الرخاء يقيم في القصور تكتنفها الحدائق فيها من كل فاكهة زوجان، تجري فيها المياه مدبرة في الأحواض، والأقنية تحف بها الأزهار بأزهى الألوان، وتسرح في أكنافها الأطيار الداجنة من جميل الريش ورخيم الصوت. وبعد أن كان يرتدي العباءة من شعر الجمل وينتعل الحفاء أو يحتذي النعال من الخوص أو الحبال لبس الحرير والوشي، وانتعل الخف والجورب، وتخفف بالغلائل والملايات، واستبدل المضارب وفرشها الرمال بقاعات فرشها البسط والسجاد، وعلى جدرانها الستائر من الخز والديباج بمسامير الفضة عليها طراز الذهب، وقد ضعفت أنفة البداوة وحل عقال الحشمة وترك الناس وشأنهم ينغمسون بما يشاءون، وقد تدفَّقت عليهم الأموال بلا حساب، وتكاثر الذهب بين أيديهم، فانتشر التهتك وذهبت الغيرة بشيوع التسرِّي وانتشار المسكر، وللشعراء الحظ الأوفر من ذلك لترددهم على مجالس الغناء، واختلافهم إلى الخلفاء والوزراء والأمراء من أهل البذخ والترف والرخاء، فانطبعت في مخيلاتهم صور لم تألفها أهل البادية.
فاختلاف طبائع الناس في الدولة العباسية عما كانوا عليه في العصر الأموي طبيعي، وفي جملتهم الشعراء وخيالهم — وإليك أهم مميزات الشعر والشعراء في العصر العباسي الأول.
(٢) مميزات الشعر
يختلف الشعر العربي في هذا العصر عنه في العصر الأموي، مثل اختلاف العصرين بالأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية؛ لأن الشعر مرآة أخلاق الأمة وآدابها وسائر أحوالها. فخصائص الشعر في هذا العصر ترجع إلى ما يأتي:
(٢-١) طريقة النظم
- (١)
طريقته وهي الخطة التي يجري عليها الشعراء في تنسيق المعاني.
- (٢)
الأسلوب وهو العبارة التي يختارونها للتعبير.
- (٣)
اللفظ.
ومن القواعد الأساسية في تاريخ الشعر أن يتبع في أسلوبه ولفظه وطريقته حال الأمة التي تقوله، فيتنوَّع شعرها بتنوع نظام اجتماعها وسائر أحوالها، ولكن العرب ظلوا إلى عهد غير بعيد يتحدَّوْنَ طريقة الجاهليين فيما ينظمونه، فيستهلُّون قصائدهم بذكر الرحيل والأطلال والإبل وغيرها من خصائص الجاهلية، حتى الألفاظ فإنهم كثيرًا ما يقلدونهم بها، وفيها الوحشي الذي لا يلائم المدنية؛ لأن وحشي الكلام لوحشي الناس.
والسبب في تمسُّكهم بالقديم رسوخ الاعتقاد بأفضلية آداب الجاهلية وشعراء الجاهلية؛ إذ كان إليها مرجعهم في صدر الإسلام لتحقيق الألفاظ والتراكيب، ثم عظَّم الأمويون مناقب الجاهلية وطباع البداوة لرغبتهم في تأييد العرب ودولة العرب، فرسخ في أذهان الناس أن مناقب الجاهلية أفضل ما يتبع. فلما تغلب العباسيون بأنصارهم الفرس، وغُلِب العرب على أمرهم، وعلت كلمة الفرس، أخذ ذلك الاعتقاد بالزوال.
أما من حيث الأسلوب فإن الشعر الجاهلي عريق في البلاغة مع سلامته من الركاكة والعجمة، وأما الخيال الشعري فيرى بعض العلماء أن العقل البشري سائر نحو الارتقاء في كل سبيل إلا من حيث الخيال الشعري، فإنه لا يزال في مكانه — هذا هوميروس لا يزال نابغة الشعراء وقد مر عليه نحو ٣٠٠٠ سنة، والناس يتقدمون في كل شيء.
على أن الشعراء تنبَّهوا إلى هذا الأمر في صدر الدولة العباسية، فأخذوا في انتقاد طريقة الجاهليين، ولم يجدوا من يأخذ بناصرهم لغلبة التقليد على طباعهم، لكنهم حاولوا الخروج من تلك القيود على الأقل من العصر العباسي الأول؛ عصر حرية القول، وأصبح حديث الشعراء في مجلسهم انتقاد تلك الطريقة، وأقدم ما بلغنا من هذا القبيل اجتماع مطيع بن أياس بفتى من أهل الكوفة، ففاوضه بشأن ذلك فقال:
وكان ذلك لسان حال أكثر الشعراء وإن لم ينظموه، وممن جاهر به منهم أبو نواس، ومن أقواله التي يستدل بها على إنكاره طريقة القدماء قوله:
ومن هذا القبيل قوله:
ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر وأخذ عليه ألا يذكرها في شعره، وكأنه كلفه الرجوع عنها إلى النظم على طريقة الجاهليين فقال:
فجاهر بأن وصفه الأطلال والقفر إنما هو من خشية الإمام، وإلا فهو عنده فراغ وجهل، واقتدى به أبو العتاهية ومن جاء بعده، ولكن بين الشعراء من يتحدى الجاهليين حتى الآن.
وأثر في أسلوب الشعر ومعناه في هذا العصر ما نقل إلى العربية، أو حفظ فيها من آداب الفرس وأخبارهم، فاكتسب الشعر العربي خيالًا لطيفًا، وزادت فيه معانٍ جديدة نحو ما كان من تأثير آداب اليونان القدماء في أخلاق الرومان، ويشبه ذلك تأثير التمدن الحديث في آدابنا ومجاري أفكارنا.
(٢-٢) المعاني الجديدة باتساع الخيال
كان الاعتقاد في شعراء الجاهلية أنهم لم يتركوا معنى من معاني الشعر لم يطرقوه، وفي الواقع أنهم طرقوا أكثر المعاني التي تخطر لابن البادية، ولكن الحضارة لها معانٍ خاصة، أو هي توسع الخيال وتفتق القرائح لانتشار الناس في الأرض، فإذا تأملت ما في أشعار الصدر الأول الإسلاميين من الزيادات على معاني القدماء والمخضرمين، ثم ما في طبقة جرير والفرزدق وأصحابهما من التوليدات والإبداعات العجيبة التي لا يقع مثلها للقدماء إلا نادرًا، ثم تأتي بشار بن برد وأبا نواس وأصحابه فترى ما زادوه من المعاني وما زاده الذين جاءوا بعدهم — علمت أن الشعر سار على سُنَّة الارتقاء مثل سائر أحوال الحياة، ومن أمثلة المعاني التي حدثت في العصر العباسي الأول قول بشار بن برد الأعمى:
وقول أبي نواس:
والقعدة فرقة من الخوارج ترى الخروج وتأمر به وتقعد عنه، وقوله أيضًا:
وقال أيضًا في صفة النساء الخمارات، ويروى لابن المعتز:
فهذا تشبيه لم يسبق إليه وقال أيضًا:
ومما زاد من المعاني في هذا العصر قول أبي تمام:
وقوله:
غير ما أخذوه من المعاني القديمة أو توسعوا فيه، ولا سيما النسيب والغزل.
(٢-٣) المعاني الجديدة بالاقتباس
تلك معانٍ شعرية اقتضاها توسع الخيال بالحضارة، وهناك معانٍ حدثت بدخول العلوم القديمة إلى اللغة العربية، فاستعار الخطباء والكتاب والشعراء تعابير فلسفية فيها ألفاظ علمية قد تقدم ذكر أمثلة منها، كالتناهي والتوليد والتجزؤ والمعاد، ومنها قول أبي نواس:
وقوله:
واستعار آخرون معاني من أخبار اليونان كاقتباس أبي العتاهية ما قاله بعض حكماء اليونان في تأبين الإسكندر، ونظمه في رثاء ابن له وهو:
ومن المعاني التي دخلت الشعر في هذا العصر أقوال بعض الأئمة ورجال الأفكار، اقتبسها الشعراء ونظموها كما نظم بشار الحكمة القائلة: «انظر إلى ما ينفعك ودع كلام الناس إذ لا سبيل إلى النجاة من كلام الناس.» فقال بشار:
وحضارة العباسيين أكثر عمالها من الفرس، فدخل اللغة طائفة من المعاني الفارسية فضلًا عن الألفاظ، حتى لقد يقتبس الشعراء جملًا فارسية يدخلونها في أشعارهم كقول العماني من قصيدة مدح بها الرشيد:
يعني العنق، وقوله:
واقتبسوا أيضًا ألفاظًا سريانية من لغة نبط السواد كقول إبراهيم الموصلي المغني في وصف خمار نبطي — وكأنه ينقل كلامه بلفظه إذ يقول:
ومن المعاني الجديدة وصف ما استحدث من ثمار تلك المدنية من أسماء الآنية والأبنية والقصور والرياش، وسائر أسباب الحضارة، ولا سيما الغلمان والخمر كما سيجيء.
(٢-٤) المبالغة في المدح
لم يخل الشعر من المدح في عصر من العصور، لكنه كان في الجاهلية أقرب إلى الواقع وأبعد عن المبالغة، ثم أخذ يزداد مبالغة بازدياد الحضارة والإركان إلى الرخاء، واضطرار الشعراء إلى التزلف والتملق، ولا سيما بعد الاختلاط بالفرس، فبعد أن كان زهير بن أبي سلمى يقول في مدح كريم حازم:
صار منصور النمري يقول في الرشيد:
وقول رجل من ولد زهير بن أبي سلمى في مدحه:
وقول العكوك في مدح أبي دلف:
على أن المبالغة زادت بعد هذا العصر من كل وجه بزيادة أسباب الزلفى والانغماس في الرخاء كما ستراه.
(٢-٥) وصف الخمر والغلمان
ذكرنا من مميزات الشعر في العصر الأموي أن الشعراء بدءوا بوصف الخمر على أثر انغماسهم في المسكر والقصف، ولكن وصفها لم ينضج إلا في العصر العباسي الأول الذي نحن في صدده. وأشهر من نظم في وصفها من شعرائه أبو نواس، فإن له في ذلك بضعة آلاف بيت في مئات من القصائد والمقاطيع تجدها في ديوانه؛ ولذلك عدُّوا أبا نواس إمام الوصَّافين للخمر.
أما الغلمان فقد تقدمت الإشارة إلى تعشُّقهم في هذا العصر، ولم يبقَ شاعر من شعرائه المقيمين في بغداد لم يشتهر بغلام يعشقه ويتغزَّل به، وأقدم من فعل ذلك منهم حماد عجرد ثم حسين بن الضحَّاك، واقتدى به أبو نواس، وكان معاصرًا له كما اقتدى به في وصف الخمر، لكنه فاقه في كليهما، وقد زادهما تمكنًا من هذه الرذيلة تقربهما من محمد الأمين، وهو كثير الاقتناء للغلمان فكانوا فتنة له ولشعرائه. ولحسين المذكور أقوال كثيرة في وصف الغلمان نشرها صاحب الأغاني في ترجمته (١٧٠ ج٦).
أما أبو نواس ففي ديوانه باب خاص بوصف الغلمان يسمونه «غزل المذكر» فيه نحو ألف بيت اكتفينا بالإشارة إليها تنزيهًا للقارئ عن مطالعتها. وقد أغضينا لذلك عن حوادث كثيرة تتعلق بغزل المذكر تدل على ما بلغ إليه القوم من التهتُّك، ولم يعصمهم علمهم ولا أدبهم ولا مقامهم في الدولة عن ارتكابه. وسيد هذه الرذائل المسكر، وعلة انتشاره بعض الفقهاء بتحليل شرب النبيذ؛ لأنه غير الخمر الوارد النهي عنها، لكنه قد يسكر أو يتحول إذا طال مكثه إلى خمر مسكرة، كما يحللون بعض الألعاب اليوم؛ لأنها غير مبنية على المصادفة فقط فلا تعد من ألعاب القمار، ولكنهم قد يقامرون بها أو هي تجرهم إلى المقامرة الفاحشة. وأصبح التغزل بالغلمان بعد هذا العصر بابًا من أبواب الشعر.
(٢-٦) الشعر المجوني
إن استبحار عمران الدولة بعث كبراءها على الاستكثار من أسباب اللهو، ولا سيما الخمور والجواري والغلمان، مع ميلهم إلى سماع الأدب والشعر، فتولَّدت طبقة من الشعراء أكثروا من المجون في منظومهم، وعرفوا بالشعراء المُجَّان، وإمامهم أبو نواس. وقد تهتَّكوا في مجونهم، وتفننوا فيه وهم يمثلون الآداب الاجتماعية في تلك الطبقة من الناس في ذلك العصر — والشعراء عنوان آداب الأمة أو مثال يدل عليها.
(٢-٧) وصف الرياض والأزهار
توسعوا في هذا العصر بوصف الرياض والأزهار، ومن وصَّافها فيه أبو نواس، كقوله:
ولم يخل الشعر الجاهلي والأموي من وصفها، ولا سيما في أقوال الشعراء الذين خالطوا الحضارة، ورأوا بساتين الحيرة أو غوطة الشام أو غيرهما من مدن العراق أو الشام كأعشى بكر القائل:
على أن أهل هذا العصر فاقوهم فيه كأبي نواس وأبي تمام، وفاقهما فيه أهل العصور التالية.
(٣) الشعراء
(٣-١) الفرق بينهم وبين من تقدمهم
قد رأيت في الكلام على شعراء الجاهلية أنهم كانوا ينظمون لقبائلهم أو لأنفسهم فخرًا أو حماسة، وقلَّ فيهم المتكسِّبون بالشعر، ثم تبيَّن لك أن شعراء بني أمية كان القصد الرئيسي من تقديمهم عند الخلفاء الاستنصار بألسنتهم على أعدائهم لتعويل تلك الدولة على العصبيات بين القبائل، ثم قامت الدولة العباسية ونصراؤها خراسانيون، فكانت في غنًى عن تلك السياسة، فلما استقرت أصولها أصبح تقريب الشعراء أكثره للتلذُّذ بالأدب أو سماع المدح والإطراء، ويندر للخليفة أو الأمير أن يقدم شاعرًا لعصبية أو يستنصره على عدو، فأصبح الشاعر بتوالي الأعوام كالنديم يجالس الخليفة أو الأمير في مجالس الأنس أو الأدب تبعًا لحال ذلك الخليفة أو الأمير من حب العلم أو الخلاعة أو غيرها.
الاستجداء
فلم يكن ينبغ شاعر من قبيلة أو بلد إلا وفد على الخلفاء أو غيرهم بقصيدة مدح يلتمس العطاء، ويندر فيهم من ينظم الشعر ولا يلتمس به جائزة أو كسبًا، فإذا تحضَّر صار نديمًا أو كالنديم، فقلَّ الشعراء الفرسان وأصحاب السيادة، وكانوا كثارًا في العصر الجاهلي، ولم يبقَ منهم في العصر الأموي إلا القليلون وهم في هذا العصر أقل كثيرًا.
التهتك والخلاعة
ومع رغبة الخلفاء والأمراء والوزراء في الأدب والعلم، فإنهم جروا مع تيار الحضارة، فكانوا يعقدون مجالس الأنس والشراب يحضرها الشعراء والمغنون؛ فكثر في شعرائهم أهل الخلاعة والمجون والتهتك، ولم يكن من هؤلاء في العصر الأموي إلا القليل وأقل منهم في العصر الجاهلي. ومن أقبح أسباب التهتك في ذلك العصر تسرِّي الغلمان كما تقدم؛ ونظرًا لكثرة تردد الشعراء على مجالس الأنس والطرب أصبحت تلك العادة أكثر شيوعًا فيهم مما بسائر الطبقات، فلم يخلُ من هذه الفاحشة منهم غير الذين ظلوا على بداوتهم بعيدين عن مفاسد المدنية.
الشعراء الموالي
الشكوك في الدين والزندقة
قد ذكرنا ما كان من الحركة الفكرية في هذا العصر على أثر الانقلاب السياسي، وتجمع الحقائق العلمية والفلسفية والطبية واللاهوتية والرياضية والفلكية والأدبية وتزاحمها في أذهان الناس، والفلسفة لم تدخل ديار قوم أهل دين إلا شوشت اعتقادهم وتركتهم حيارى مذبذبين، ريثما يرسخون في العلم فيستقر رأيهم على شيء يدينون به، كما حدث في مثل هذه الحال لهذا العهد.
على أن الشكوك في الدين شاعت في الأدباء والشعراء قبل نقل الفلسفة إلى العربية، فلعلها تطرقت إلى أذهانهم من معاشرة الأمم المختلفة في بغداد والكوفة والبصرة ممن دخل منهم في الإسلام، ومن تقريب الموالي أهل تلك البلاد وفيهم من اطلع على الفلسفة فبثوها في سائرهم؛ فأتيح لطائفة المعتزلة أن تنشر تعاليمها وانتقاداتها، وانتحل بعضهم دينًا آخر وقامت المجادلات والمباحثات والمناظرات.
إطلاق حرية الأقلام والألسنة
والفضل في إطلاق الأقلام والألسنة في أواخر ذلك العصر للمأمون الخليفة العالم الفيلسوف، فكانت حرية القول في أيامه أشبه بحرية الصحافة في البلاد المتمدِّنة اليوم، ومن أشهر الأدلة على ذلك خبره مع دعبل الشاعر، وكان متشيعًا للعلويين كثير الهجو لبني العباس، وله فيهم قصائد هجوها شديد وأعداؤه يحرِّضون المأمون على قتله، ومن جملتهم أبو سعد المخزومي؛ فقد كان يستعلي دعبل في أول أمره، وكان يدخل على المأمون فينشده هجاء دعبل له وللخلفاء ويحرضه عليه، فلم يجد عند المأمون ما أراده فيه، وكان المأمون يقول: «الحق في يدك والباطل في يد غيرك، والقول لك ممكن، فقل ما يكذبه، فأما القتل فإني لست أستعمله إلا فيمن عظم ذنبه.»
ودخل أبو سعد مرة على المأمون وأنشده قول دعبل:
وأردفها بقصيدة رد بها على دعبل ثم قال: «أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أجيئك برأسه؟» قال: «لا، هذا رجل فخر علينا فافخر أنت عليه فأما قتله بلا حجة فلا.» وهل يقول أعدل من ذلك وزير من أرقى وزراء الأمم الدستورية المتمدنة اليوم في صحافي طعن على أمير أو ملك؟ فلا غرو إذا أطلقت حرية الدين في عهده.
ومما لا يحسن الإغضاء عنه في هذا المقام أن شعراء العصر العباسي مثل شعراء العصر الأموي وشعراء معظم عصور التمدن الإسلامي الأولى أكثرهم من عرب الشام والعراق، وعرب الشام أشعر من عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام، وقد علَّل ذلك أبو منصور الثعالبي بقربهم من خطوط العرب — ولا سيما أهل الحجاز — وبُعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
واتفق أنهم كانوا يمنون برؤساء من أهل الأدب ومحبيه كعبد الملك في زمن بني أمية والرشيد والمأمون في هذا العصر وغيرهم في غيره كما سيجيء.
منزلة الشعراء عند الخلفاء والأمراء
وكان الرشيد من أكثر الخلفاء بحثًا في الشعر وقائليه؛ فقد سأل أهل مجلسه مرة عن صدر هذا البيت:
فلم يعرفه أحد، وكان الأصمعي مريضًا لا يقدر على المجيء، فأرسل إليه إسحاق الموصلي وبعث معه ألف دينار لنفقته، فجاء الجواب أن البيت من قصيدة لأبي النشناش النهشلي، وهذا صدره:
وكثيرًا ما كان الرشيد يعقد المجالس للبحث في معنى بيت، وقد سأل أهل مجلسه يومًا معنى هذا البيت:
نفوذ الشعراء وثروتهم
وكان الخلفاء إذا قدموا الشعراء بذلوا لهم الأموال الطائلة حتى وقع الشك في صحة بعض ما ذكروه من الجوائز الكبرى، وقد بيَّنَّا في تاريخ التمدن الإسلامي أنها صحيحة، وأن النقود لم يكن لها قيمة لكثرتها، وفي كل حال فإن ما خلفه بعض الشعراء من الثروة ولا تكسب لهم من غير الشعر يدل على كثرة ما كان يصل إلى أيديهم من المال.
تأثير الشعر في الهيئة الاجتماعية
قد تقدم في صدر هذا الكتاب أن فطرة العرب شعرية ونفوسهم حساسة، ولغتهم شعرية؛ ولذلك كانوا أكثر الناس شعرًا وشعراء فمن لم ينظم الشعر حفظه وتناقله أو تناشده أو تذاكر فيه. وكانوا يعقدون المجالس للمناشدة من زمن الجاهلية في عكاظ وأمثالها، ثم عقدوها في زمن الأمويين بالمربد في البصرة، وأما في العصر العباسي فلولا اشتغال الناس بالعلوم القديمة ونقلها وتفهمها لأصبح كل منزل من منازل أهل الأدب ناديًا للمذاكرة والمناشدة، ومع ذلك فإن الشعر كان عندهم فكاهة المجالس ومضرب الأمثال وديوان العبر ومخزن الحكمة، حتى كانوا لكثرة محفوظهم منه يرمزون باسم الشاعر إلى بيت من أبياته مشهور بمعنى، ويريدون ذلك المعنى كما اتفق للرجل الجالس على جسر بغداد والمرأة التي مرت به قادمة من الرصافة، فاستقبلها بقوله: «رحم الله علي بن الجهم.» فقالت له المرأة: «رحم الله أبا العلاء المعري.» وما وقفا، بل سارا مشرقًا ومغربًا — قال الراوي: «فتبعت المرأة وقلت لها: والله إن لم تقولي لي ما أراد وما أردت لأفضحنَّك، قالت: أراد بعلي بن الجهم قوله:
وأردت بأبي العلاء قوله:
والحادثة المذكورة جرت بعد العصر الأول الذي نحن في صدده، لكنها يصح أن تكون مثالًا عنه؛ لأن أهل هذا العصر بلغ من شغفهم بالشعر أنهم نقشوه على جدران منازلهم وأنديتهم وعلى فصوص خواتمهم، وكتبوه في صدور مجالسهم وعلى القباب والمستنظرات والأبواب، وطرزوه على الستائر والطنافس والكلل والأسرة والوسائد والمرافق والمقاعد، وعلى القناني والأقداح والكاسات والأرطال والجامات، وسائر آنية الفضة والذهب والصيني، ونقشوه على العيدان والمضارب والسرنايات والطبول والمعازف والدفوف، وزيَّنوا به الثياب فطرزوه على ذيول الأقمصة والأعلام وطراز الأردية والأكمام، وعلى العصائب ومشادِّ الطرر والزنانير والتكك والمناديل والمذاب والمراوح حتى النعال والخفاف، وزيَّنوا به مظاهر أبدانهم فكتبوه بالحنَّاء على الجبين والخد والأقدام والراح، ونقشوا به التفاح والأترج وغيرهما، فكنت حيثما توجهت رأيت الشعر منقوشًا أو مطرزًا أو مكتوبًا أو منسوجًا، وتجد أمثلة من ذلك في كتاب الموشى الآتي ذكره.
(٤) طبقات الشعراء
ويقال بالإجمال: إن أكثر هؤلاء الشعراء من طلاب الرزق انقطع أكثرهم إلى الخلفاء، وتحضَّروا في بغداد أو البصرة وبعضهم انقطعوا إلى البرامكة، وآخرون انحازوا للشيعة العلوية، ومنهم من اختص ببعض الأمراء والوزراء، وهناك جماعة منهم لم يتحضروا بل كانوا يقيمون في البادية، وإنما يفدون على بغداد في المواسم ينشدون ما ينظمونه في مدح الخليفة أو غيره ويعودون إلى مضاربهم، ومنهم طائفة لم يفدوا على أحد فكانوا ينظمون الشعر لأنفسهم وهم قليلون أو إن أكثرهم ظل في ثنايا الإهمال لبعدهم عن الدولة.
(٤-١) الشعراء المتحضِّرون
شعراء الخلفاء
-
أبو دلامة.
-
حماد عجرد.
-
بشار بن برد.
-
مروان بن أبي حفصة.
-
سلم الخاسر.
-
أبو نواس.
-
منصور النمري.
-
أبو العتاهية.
-
أبو تمام.
-
علي بن الجهم.
-
حسين بن الضحاك.
شعراء البرامكة
-
أبان بن عبد الحميد.
-
ابن مناذر.
-
الرقاشي.
-
مسلم بن الوليد.
-
أشجع السلمي.
شعراء سائر الأمراء
-
إبراهيم بن سيابة مدح إبراهيم الموصلي.
-
محمد بن أمية وأخوه مدح إبراهيم بن المهدي.
-
العكوك مدح أبا دلف.
-
محمد بن صالح مدح ابن المدبر.
-
مطيع بن أياس مدح جعفر بن المنصور.
-
أبو الشيص مدح عقبة بن جعفر.
شعراء الشيعة
-
السيد الحميري.
-
دعبل.
-
ديك الجن.
وهناك طائفة لم يتكسب أصحابها بالشعر أشهرهم:
-
صالح بن عبد القدوس.
-
العباس بن الأحنف من عدي.
-
محمد بن بشير مولى بني إياس (ويدخل في هؤلاء أيضًا السيد الحميري وديك الجن، وقد ذكرا بين شعراء الخلفاء وشعراء الشيعة).
(٤-٢) شعراء لم يتحضروا
-
ربيعة الرقي من الرقة.
-
كلثوم بن عمرو العتابي.
-
عمارة بن عقيل من هوازن.
-
ناهض بن ثومة الكلابي من عامر.
ونبغت طائفة من الشعراء في ذلك العصر عرفت بطبقة المترفين وأبناء النعم، منهم عبد الله بن عباس الربيعي من نسل الفضل بن الربيع، وقد يشترك بعض شعراء إحدى هذه الطبقات بخصائص طبقة أخرى، وإنما أردنا بهذا التقسيم سهولة التعليق بالذهن.
هؤلاء هم أشهر الشعراء في العصر العباسي الأول، وبهم قام ذلك الانقلاب الشعري فامتاز به شعر هذا العصر على سواه كما تقدم، وأكثرهم تأثيرًا في ذلك الانقلاب أكثرهم تقربًا من الخلفاء لتقدمهم في الشاعرية ولرفعة مقامهم قلدهم الناس في أساليبهم أو استنباطاتهم، وفي مقدمتهم سبعة هم عمدة هذا الانقلاب هذه أسماؤهم مع سني وفاتهم:
-
بشار بن برد توفي سنة ١٦٧ﻫ.
-
السيد الحميري توفي سنة ١٧٣.
-
أبو نواس توفي سنة ١٩٨.
-
مسلم بن الوليد توفي سنة ٢٠٨.
-
أبو العتاهية توفي سنة ٢١١.
-
أبو تمام توفي سنة ٢٣١.
-
دعبل توفي سنة ٢٤٦.
وإليك تراجمهم على هذا الترتيب بما يقتضيه المقام من الإيجاز، وإلا فإن كلًّا منهم يحتاج في بسط ترجمته، ودرس شعره ونقده إلى مجلد قائم بنفسه، فنترك ذلك إلى من تفرغ للدرس والنقد من الأدباء.
(٥) عمدة الشعراء
(٥-١) بشار بن برد (توفي سنة ١٦٧ﻫ)
هو فارسي أصل آبائه من طخارستان، أُخِذ أبوه برد في سبي وقع في يدي المهلب بن أبي صفرة، فكان من فيء القشيرية امرأة المهلب، فأقامته في ضيعة لها بالبصرة مع عبيدها ثم زوَّجته، وأهدته إلى امرأة عقيلية كانت صديقة لها فوُلد له بشار، وأعتقته العقيلية فصار مولى، ونشأ في البصرة ثم قدِم بغداد بعد أن بناها المنصور.
ولد بشار أعمى جاحظ الحدقتين يغشاهما لحم أحمر، وكان ضخمًا طويلًا عظيم الخلق والوجه مجدرًا، وكان أطبع شعراء ذلك العصر على الشعر، وقد قوَّى العمى شاعريته لانصراف المخيلة إلى التصور — ولذلك رأيت أكثر العميان من الشعراء يفوقون معاصريهم في سعة الخيال مثل هوميروس اليوناني وملتن الإنكليزي، وبشار وأبي العلاء وغيرهما عند العرب.
ويمتاز بشار بأنه تصرَّف وتفنن في معاني الشعر شيئًا كثيرًا، وراج شعره في أيامه بالبصرة حتى لم يبق غزل ولا غزلة إلا ويروي من شعر بشار، ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به، ولا ذو شرف إلا وهو يهابه ويخاف معرة لسانه، وبشار مثل امرئ القيس فهو عندهم إمام الشعراء المحدثين، وقد قالوا ذلك أيضًا في أبي نواس، ولكن بشارًا أسبق، وكان عند قيام الدولة العباسية منحازًا للعلويين، وكان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ناهضًا على المنصور، فنظم بشار قصيدة حرض بها إبراهيم على الفتك بالمنصور مطلعها:
ثم علم بفوز المنصور وقتله إبراهيم المذكور، فقلب الكنية وأظهر أنه قال القصيدة في أبي مسلم الخراساني فقال:
وفي هذه القصيدة أبيات حكمية في غاية البلاغة منها:
ثم انتقل إلى بغداد ومدح العباسيين وعاصر المهدي، ومدح خالد بن برمك جد البرامكة، وكان كلما وفد عليه أعطاه خمسة آلاف درهم، ثم زادها له، ومن قوله بيتان أمر خالد أن يكتبا في صدر مجلسه، وهما:
وأخبار بشار كثيرة بسطها صاحب الأغاني في ٦٠ صفحة من الجزء الثالث من كتابه، ولم يدع بشار بابًا من أبواب الشعر إلا طرقه وأجاد فيه، ومن قوله في الغزل:
ومن قوله:
ومن الغزل قوله:
وكان بشار من أصحاب الفلسفة المتحيرين في الدين، ويعتقدون أن الإنسان مسوق لا مخير؛ يدل على ذلك قوله:
وقد تقدم خبر انحرافه عن بني العباس، ولم يغنه تغيير مطلع تلك القصيدة شيئًا، فإن المنصور سكت عنه وما زال يعتقد انحرافه عنهم قلبيًّا؛ ولذلك ظل في خاطره شيء عليه، وكان المهدي بعده يظهر له فتورًا؛ فغضب بشار ومدح وزيره يعقوب بن داود فلم ينفعه، فهجاه ببيتين كانا سبب موته، وهما:
فبعث المهدي إليه صاحب الزنادقة، فضربه حتى مات، ولم يخرج في دفنه أحد؛ لأنه مات وخصمه الخليفة — وربما كان هذا هو السبب أيضًا في خمول اسمه مع تبرزه في الشعر.
وتجد ترجمته في الأغاني ١٩ ج٣ و٤٧ ج٦، وابن خلكان ٨٨ ج١، والشعر والشعراء ٤٧٦، والفهرست ١٥٩.
(٥-٢) السيد الحميري (توفي سنة ١٧٣ﻫ)
اسمه يدل على أنه من حمير، نزل البصرة وكان شاعرًا متقدمًا مطبوعًا، وقد تقدم أنه هو وبشار وأبو العتاهية أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام، وبلغ منظومه ٢٣٠٠ قصيدة، ولم يصلنا منها ما يستحق الذكر. وقد خمل ذكره لأنه كان يسب الصحابة بتشيُّعه لعلي فتُحُومي شعره وتخوَّف الناس منه. أما من حيث الشاعرية فله طراز ومذهب قلما يلحق فيه، وكان أسمر اللون تام القامة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ جميل الخطاب، إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل من المجلس نصيبه من حديثه، ويعده بعضهم من طبقة بشار وأنهما أشعر المحدثين، ويمتاز عن سائرهم أنه كان يكره الاستجداء بالشعر، وقد نظم في ذلك أبياتًا وهي:
ومن قوله في ذم الصحابة:
وله في مدح العلويين ما يدل على حرية في القول، ومن أدلة ترفعه عن الجوائز أن الرشيد أعطاه جائزة ففرقها، وتجد ترجمته وأخباره في الأغاني ٢ ج٧ وفوات الوفيات ١٩ ج١.
(٥-٣) أبو نواس (توفي سنة ١٩٨ﻫ)
هو الحسن بن هانئ، ولد في الأهواز سنة ١٤٥ﻫ في خلافة أبي جعفر المنصور، وكانت أمه أهوازية اسمها جلبان، وكان أبوه دمشقيًّا من جند مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، أنفذه مروان إلى الأهواز فلقي جلبان فأحبها وتزوَّجها فولدت له أولادًا منهم أبو نواس وأبو معاذ، وقبل أن يتجاوز أبو نواس السنة الثانية من عمره انتقل والداه إلى البصرة فنشأ فيها، ولم يكن والده في سعة، أو لعل والده مات وترك أولاده في كفالة أمهم، فأسلمت أبا نواس إلى عطار يتخرَّج عنده في مهنة العطارة، ولكن نفسه كانت تميل إلى غير هذه الصناعة، وكان إذا قرأ شعرًا ارتاحت نفسه إلى معانيه وقامت فيه رغبة في النظم، فإذا اجتمع بأديب أو راوية أو شاعر أو حضر مجلس أدب وسمع شعرًا أحبَّ ناظمه وتمنى أن يراه، وكان في جملة من سمع أشعارهم وأحب الاجتماع بهم، والبة بن الحباب، وكان ظريفًا غزلًا وصَّافًا للشراب، واتفق أن والبة قدم الأهواز ليمدح أبا بجير الأسدي عامل المنصور عليها فمر بذلك العطار، فلقي أبا نواس وكان جميل الصورة ذكيًّا، فتوسم فيه النباهة فجالسه وخاطبه فآنس فيه قريحة وقَّادة، فقال له: «إن فيك مخايل أرى أن لا تضيعها وستقول الشعر فهل تصحبني أخرِّجك؟» ولم يكن أبو نواس يعرف مخاطبه فقال: ومن أنت؟ قال: «أنا أبو أسامة والبة بن الحباب.» فقال: «نعم، أنا والله في طلبك، ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك وأسمع منك.» فسار أبو نواس معه إلى الكوفة ثم قدما بغداد.
وكان والبة وبعض شعراء تلك الأيام وندماؤه يجتمعون كل ليلة على الشراب وقول الشعر، لا يكادون يفترقون، فيهجون بعضهم بعضًا هزلًا وجدًّا، ويصفون الخمر وغيرها، وكان أبو نواس يحضرهم فيسمع ويعي ويزداد كل يوم علمًا ودربة، وكان يختلف إلى أبي زيد الأنصاري فتعلَّم منه غريب الألفاظ، وتردَّد على أبي عبيدة معمر بن المثنى فتعلم منه أيام الناس، ونظر في نحو سيبويه حتى أصبح في الطبقة الأولى من المولَّدين وشعره عشرة أنواع أجاد فيها كلها، وأحسن علم اللغة وفروعها حتى قال فيه الجاحظ: «ما رأيت رجلًا أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع مجانبة الاستكراه.» وقال معمر بن المثنى: «كان أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للمتقدمين.» وقد تقدم أن ذلك أولى أن يقال ببشار؛ لأنه أسبق.
ويروى عن أبي نواس أنه قال: «ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال؟!» وقال ابن السكيت: «إذا رويت من أشعار الجاهليين فلامرئ القيس والأعشى، ومن الإسلاميين فلجرير والفرزدق، ومن المحدثين فلأبي نواس فحسبك.» وهو يُعد أيضًا من الشعراء المُجَّان.
ووصف شعر أبي نواس لا يفي به صفحة أو بضع صفحات، وهو أول من توسع في وصف الخمر والتغزل بالغلمان، وفي ديوانه المطبوع بمصر صفحات عديدة من نظمه في هذين البابين فضلًا عن تغزُّله بجارية أحبها اسمها جنان. وقد أشرنا إلى تهتُّكه في جملة متهتكي ذلك العصر، ولعله أكثرهم انغماسًا في اللهو على أنواعه طمعًا منه بعفو الله على حد قوله:
ومن لطيف نظمه في مدح محمد الأمين قوله يمدح ناقته:
وعابوا عليه المبالغة في مدح الرشيد لقوله:
ومن قوله في وصف الخمر:
وقوله:
وقوله:
وهي كثيرة ويناسبك ذلك وصفه للأقداح وما عليها من النقوش كقوله:
ويظهر أنه كان مطَّلعًا على أقوال الأوائل المنقولة إلى العربية، ولا سيما علم النجوم والطبيعيات بدليل قوله وفيه إلمام بالفلك:
ومما يدل على معرفته علم الطبائع قوله:
وفي ذلك إشارة إلى نظر أهل الهند في الطبائع، فهم يزعمون أن الشيء إذا زاد في البرد عاد حارًّا، ومن أقوالهم: «إن الصندل الأبيض إذا أفرط في حكه عاد حارًّا مؤذيًا.» ومما يدل على إلمامه بخرافات اليونان والفرس قوله من قصيدة يمدح بها يحيى بن خالد:
وتجد أخباره في الأغاني ٢ ج١٨ و١١٠ و١٧٠ و١٨٦ ج٦ و١٤٨ ج٦، وابن خلكان ١٣٥ ج١، وطبقات الأدباء ٩٦، والشعر والشعراء ٥٠١، والفهرست ٦٠، والعقد الفريد ٣٣٧ ج٣.
(٥-٤) مسلم بن الوليد (توفي سنة ٢٠٨ﻫ)
ويعرف بصريع الغواني، وهو من أبناء الأنصار، كان مداحًا محسنًا، وجل مدائحه في يزيد بن مزيد وداود بن يزيد المهلبي والبرامكة ومحمد بن منصور بن زياد كاتبهم، وولاه المأمون بريد جرجان فلم يزل بها حتى مات، وهو أول من ألطف في المعاني ورقق في القول، وعليه يعول أبو تمام في ذلك وعلى أبي نواس، ومن قوله في الوداع:
ومن بديعه الذي امتثله أبو تمام وغيره:
ومن مدحه قوله في الفضل بن يحيى:
ومن قوله في وصف سفينة:
ومن لطيف غزله:
وله ديوان مطبوع في ليدن سنة ١٨٧٥، ونجد أخباره في الشعر والشعراء ٥٢٨، وفي الأغاني ٩ ج١٣، والعقد الفريد ١٤٢ ج١، وفي طبعة الديوان المذكورة.
(٥-٥) أبو العتاهية (توفي سنة ٢١١ﻫ)
هو مولى واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، ولد بعين التمر سنة ١٣٠ﻫ، ونشأ في الكوفة، وكان في أول أمره يتخنَّث فيحمل زاملة المخنثين، ثم اشتغل بصناعة أبيه فجعل يصطنع الجرار ويحملها في قفص على ظهره، ويدور في الكوفة ويبيع منه، ولكنه أحسَّ من حداثته باقتداره على النظم، وكان الشعر يومئذ ديوان الناس وموضوع أحاديثهم، وحيثما اجتمعوا تناشدوه وتذاكروا فيه.
فاتفق يومًا وهو يدور بقفص الجرار أنه مر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشدونه فسلم ووضع القفص عن ظهره ثم قال: «يا فتيان، أراكم تتذاكرون الشعر فأقول شيئًا منه فتجيزونه؟ فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم.» فهزءوا منه وسخروا به، لكنهم قالوا: «نعم.» قال: «لا بد أن يشترى بأحد القمرين رطب يؤكل فإنه قمر حاصل.» وجعل رهنه تحت أيديهم وقال أجيزوا:
وجعل بينه وبينهم وقتًا في ذلك الموضع وعيَّن نقطة إذا بلغتها الشمس ولم يجيزوا البيت غرموا الخطر، فلما أعياهم ذلك جعل يهزأ بهم وتمَّمه:
وهي قصيدة من شعره طويلة، فخجل الفتيان وأذاعوا خبره في الكوفة، فجعل أدباؤها وطلاب الشعر من فتيانها يأتونه إلى معمله يستنشدونه فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيه.
ثم وفد على بغداد في أول خلافة المهدي وأنشده قصيدة مطلعها:
وكان بشار بن برد حاضرًا فاستخف بها، حتى إذا وصل إلى قوله:
قال بشار لجار له: «انظر ويحك هل طار الخليفة عن فرشه؟» وصار أبو العتاهية من المقربين، وكان المهدي يراعي خاطره، ويكرمه، فأحرز نفوذًا عظيمًا عنده، حتى كثيرًا ما كان يتوسط بالعفو لديه، ولما توفي المهدي خلفه الهادي، وكان واجدًا عليه؛ لأنه كان يلازم أخاه الرشيد؛ فهنأه أبو العتاهية بقصيدة يتقرب بها إليه مطلعها:
فأذن بإدخاله. ولم تطل مدة الهادي فخلفة الرشيد، وكان أبو العتاهية قد عاهد نفسه أن لا يقول شعرًا، فألزمه الرشيد على القول فأطاعه فحظي عنده حظوة كبيرة حتى كان لا يفارقه في حضر، ولا سفر، وعيَّن له راتبًا مقداره ٥٠٠٠٠ درهم سوى الجوائز منه ومن أمرائه ووزرائه، وكان بعض هؤلاء يجرون عليه الرواتب الشهرية أو السنوية.
وكان أبو العتاهية سوداويَّ المزاج كثيرَ التردد في أمر الدين، فتقلب على أطوار شتى — شأن الذين يحلون أنفسهم من قيود الدين وينظرون فيه نظر الناقد — فاستقر رأي أبي العتاهية أخيرًا على التمسك بالإسلام والزهد عن الدنيا، فأمره الرشيد أن يقول الشعر، فأبى فحبسه وضربه ثم أطلقه شفقة عليه، وله غزل كثير في عتبة جارية المهدي.
ومن مخترعاته في المعاني قوله:
وقوله لأحمد بن يوسف:
وقوله في موسى الهادي:
وقوله:
ومن لطيف معانيه قوله:
وذكروا له أرجوزة حكمية في بضعة آلاف بيت منها:
ومع ذلك فالأصمعي يقول: «شعر أبي العتاهية كساحة الملوك؛ يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى.»
وكان أبو العتاهية أبيض اللون أسود الشعر نظيف الثياب له وفرة جعدة وهيئة حسنة ولباقة وحصافة، وكان سيال القريحة سريع الخاطر لطيف المعاني سهل الألفاظ، فقد سأله بعضهم: «كيف تقول الشعر؟» قال: «ما أردته قط إلا مثلًا لي فأقول ما أريد وأترك ما لا أريد.»
وقد نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد. ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان مترددًا متقلبًا، ويغلب ذلك في طباع الشعراء؛ لأنهم أهل خيال وأوهام وخصوصًا الذين يستجدون بشعرهم؛ فإنهم يتقلبون مع الأهواء، ويسعون وراء النفع حيثما كان، على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به الرشيد يخالف هذه القاعدة، ولكن لعل له سببًا حمله على ذلك.
وأما تقلبه فظاهر من تذبذبه في الدين كما تقدم، وأنه كان إذا اختص ببعض الأمراء ادعى ولاء قبيلته؛ فقد كان طول حياة يزيد بن منصور يدعي أنه مولى لليمن وينتفي من عنزة، فلما مات يزيد رجع إلى ولائه، وعاتبه بعضهم في ذلك وقال له: «ألم تكن تزعم أن ولاءك لليمن؟» قال: «ذلك شيء احتجنا إليه في ذلك الزمن، وما في واحد انتميت إليه خير ولكن الحق أحق أن يتبع.» وكان مع ما جمعه من الأموال بخيلًا، وله حوادث كثيرة تدل على شدة بخله ذكرها صاحب الأغاني.
وله ديوان مطبوع في بيروت سنة ١٨٨٧، وتجد أخباره في الأغاني ١٢٦ ج٣ و١٨٦ ج٦ و٢٤ ج٨، وابن خلكان ٧١ ج١، وطبقات الشعراء ٤٩٧، والفهرست ١٦٠، وفي الهلال ١٣٣ سنة ١٣.
(٥-٦) أبو تمَّام (توفي سنة ٢٣١ﻫ)
ومن مراثيه قوله يرثي ابنين صغيرين لعبد الله بن طاهر ماتا معًا:
ومن مدائحه قوله:
ولأبي تمام وصية في كيفية النظم أوصى بها أبا عبادة البحتري بيَّن فيها أحسن الوسائل لإجادة النظم. قال: «تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رشيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجُّع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأَبِنْ معالمه وشرف مقامه، وتقاض المعاني واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنته العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى.»
ديوان الحماسة
وله فضل على معاصريه من الشعراء أنه لم يكتف بما نظمه من ضروب الشعر، لكنه جمع مختارات من أشعار العرب الجاهلية وغيرهم في كتاب سماه «الحماسة»، وتعرف بحماسة أبي تمام تمييزًا لها عن حماسة البحتري، حمله على جمعها أنه نزل عند صاحب له في همدان اسمه «ابن سلمة» فأكرمه، فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج كثير قطع السابلة، فغم أبو تمام وفرح «ابن سلمة»، وقال: «وطِّن نفسك على البقاء إن الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان.» وأحضر له خزانة كتب فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة، والوحشيات وهي قصائد طوال، فبقي كتاب الحماسة في خزائن آل سلمة يضنون به ولا يكادون يبرزونه لأحد حتى تغيرت أحوالهم، وورد من همدان رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها عليه، ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة في معناه، فشهر فيهم، وقد شرحه كثيرون.
ومن أحسن الشروح شرح الخطيب التبريزي المتوفى سنة ٥٠٢ﻫ، وقد طبع بمصر سنة ١٢٩٦ في أربعة أجزاء كبار بيَّن فيها اشتقاق أسامي شعراء الحماسة وغيرهم، وتفسير كل بيت وما فيه من الغريب والإعراب، وإيراد الأخبار في أماكنها، وطبعت الحماسة بلا شرح في الهند سنة ١٨٥٦، ولها شرح للمرزوقي، وآخر لأبي العلاء المعري، وآخر لابن جني، منها نسخ خطية في المكتبة الخديوية وفي غيرها.
وقد عني في طبع الحماسة مع شرح التبريزي أيضًا «فريتاغ» في مجلدين مع ترجمة وشروح لاتينية، ظهر المجلد الأول سنة ١٨٢٨، والثاني ١٨٥١ في بون، وقد ترجمها إلى الألمانية فريدريك روكرت، وطبعت مع الأصل في مجلدين في ستتغارت سنة ١٨٤٦، ولأبي تمام حماسة أخرى هي كتاب الوحشيات منها نسخة في جملة كتب خطية نادرة، استنسخها زكي باشا سكرتير مجلس النظار من مكاتب أوروبا لتطبع بمصر.
وكان أبو تمام أسمر طويلًا فصيحًا حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة، وله ديوان شرحه كثيرون شروحًا حسنة، منها شرح للصولي المتوفى سنة ٣٣٥ﻫ منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وقد طبع الديوان في مصر وفي بيروت سنة ١٣٢٣.
وتجد أخبار أبي تمام في الأغاني ٩٩ ج١٥، وابن خلكان ١٢١ ج١، وطبقات الأدباء ٢١٣، والفهرست ١٦٥.
(٥-٧) دِعبِل الخزاعي (توفي سنة ٢٤٦ﻫ)
هو عربي من اليمن، شديد التعصب للقحطانية على النزارية، لا يخشى بذلك لومًا ولا يخاف تهديدًا، اسمه دعبل بن علي بن رزين من خزاعة، أصله من الكوفة، وجاء بغداد بطلب من الرشيد، وهو شاعر مطبوع هجَّاء خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبير ولا صغير، فكان الناس يخافونه ويتَّقونه حتى المأمون فإنه هجاه هجاءً شديدًا واحتمل ذلك منه، ومن شديد هجائه الذي يحتاج إلى جرأة قوله للمأمون:
يشير إلى طاهر بن الحسين الخزاعي وقتله الأمين حتى تولى المأمون. ومن قوله في هجاء المعتصم:
وجرى له مع المطلب بن عبد الله أحد أمراء مصر حديث غاظ دعبلًا فهجا المطلب بقصيدة قال فيها:
وله في مقابل ذلك مدائح بغاية البلاغة، وأكثر مدائحه في أهل البيت؛ لأنه كان شديد التعصب لعلي وأهله، على أنه كثيرًا ما كان يتَّخذ هجوه للإرهاب فيضطر الناس إلى استرضائه ليكف عن هجائهم أو ليمدحهم. ومن قوله في مدح المطلب المذكور:
ومن أشهر قصائده قوله يمدح أهل البيت ويهجو الرشيد بعد موته:
ومن أدلة اقتداره على انتقاء الألفاظ قوله في رثاء محمد بن يزيد الخزاعي:
ومن شعره في الغزل قوله:
فأنت ترى شاعرية هذا الرجل لكن ذكره خمل بسبب هجوه الخلفاء — والناس على دين ملوكهم — فلم يصل إلينا من أشعاره إلا شذرات مبعثرة مع أخباره في الأغاني ٢٩ ج١٨، وابن خلكان ١٧٨ ج١، والشعر والشعراء ٥٣٩، والفهرست ١٦١.
(٦) سائر الشعراء
(٦-١) شعراء الخلفاء
نريد بشعراء الخلفاء الذين انقطعوا للخلفاء أو كان أكثر منظومهم فيهم أو أنهم لم يختصوا بسواهم، ولا يدخلون في طبقة من الطبقات الأخرى، وقد ترجمنا بعضهم فيما تقدم من فحول هذا العصر، ونأتي الآن على خلاصة أخبار الباقين مراعاة للمقام، ونرتبهم حسب سني وفاتهم.
أبو دلامة (توفي سنة ١٦١ﻫ)
هو زند بن الجون، وسمي أبا دلامة نسبة إلى ابنه دلامة، وهو كوفي المنشأ أسود اللون مولى لبني أسد، وكان أبوه عبدًا لرجل منهم فأعتقه، أدرك أبو دلامة أواخر الدولة الأموية، ولكنه نبغ في الدولة العباسية وانقطع إلى أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويصلونه ويستطيبون محاسنه ونوادره، وفيه دعابة وظرف لا يخلو حديثه من نكتة أو ملحة، وكان مع ذلك معدودًا في جملة المتهمين بالزندقة وفساد الدين، وكان يشرب الخمر ولا يحضر صلاة ولا فروضًا، وله قصائد عديدة في مدح الخلفاء المذكورين، منها قصيدة في قتل أبي مسلم الخراساني مطلعها:
أنشدها المنصور في محفل من الناس فقال له: «احتكم.» فطلب عشرة آلاف درهم فقبضها، وله فيه مدائح كثيرة، وكلما زاده عطاءً زاده مدحًا حتى قال فيه:
ومن مداعباته ومجونه أن أبا العباس السفاح قال له: «سلني حاجتك.» فقال أبو دلامة: «كلب أتصيد به.» فاستغرب طلبه لكنه أمر بإعطائه فقال أبو دلامة: «وأعطني دابة أتصيد عليها.» قال: «أعطوه.» قال: «وغلام يصيد بالكلب ويقوده.» قال: «أعطوه غلامًا.» قال: «وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه.» قال: «أعطوه جارية.» قال: «هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلا بد لهم من دار يسكنونها.» قال: «أعطوه دارًا تجمعهم.» قال: «فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟» قال: «قد أعطيتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة.» قال: «وما الغامرة؟» قال: «التي لا نبات فيها.» فقال: «قد أقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد.» فضحك وقال: «اجعلوها كلها غامرة.»
ومن مجونه أن المنصور ألزمه بالصلاة في مسجده، ووكل به من يلاحظه فغاظه ذلك، فكتب إلى المنصور رقعة قال فيها:
فضحك المنصور وأعفاه، وأخباره في الأغاني ١٢٠ ج٩، وابن خلكان ١٩٠ ج١، والشعر والشعراء ٤٨٧، والدميري ١٣٢ ج١، والمستطرف ٤٣ ج٢.
حماد عجرد (توفي سنة ١٦١ﻫ)
هو مولى أيضًا، نشأ في الكوفة ثم واسط وعاصر الدولتين، لكنه نبغ في الدولة العباسية بعد أن نادم الوليد بن يزيد الأموي، وجاء بغداد أيام المهدي ومعه مطيع بن أياس ويحيى بن زياد، وكلهم من المتهمين في دينهم، وحماد من الشعراء المجيدين، وكان ماجنًا ظريفًا خليعًا، وأدرك بشار بن برد، وله معه أهاجٍ فاحشة لولا فحشها لذكرنا أمثلة منها، ولم يكن يهاب كبيرًا ولا صغيرًا ولا عالمًا كان أو خليفة، وقد عاصر الإمام أبا حنيفة وكانت بينهما مودة، ثم قاطعه أبو حنيفة، وبلغ حمادًا أنه يتنقصه فكتب إليه:
واهتم أدباء ذلك العصر بالمهاجاة بين بشار وحمَّاد، كما اهتموا في العصر الأموي بالمهاجاة بين جرير والفرزدق. وقد أجمع علماء البصرة أنه ليس في هجاء حماد لبشار شيء جيد إلا ٤٠ بيتًا معدودة. أما بشار فله من الهجاء أكثر من ألف بيت جيد، وكل منهما هتك صاحبه بالزندقة، وكانا يجتمعان عليها فسقط عجرد وتهتك بفضل بلاغة بشار وجودة معانيه، وبقي بشار على حاله لم يسقط.
ومن ظريف أخباره أنه هجا حفص بن أبي بردة، وكان صديقه وزنديقًا مثله، وحفص أعمش أفطس أعضب مقبح الوجه، فاجتمعوا يومًا على شراب، وجعلوا يتحدثون ويتناشدون، فأخذ حفص بن أبي بردة يطعن على مرقش ويعيب شعره ويلحنه، فقال له حماد:
وقد سبق أبا نواس بالتغزل في الغلمان، من ذلك قوله في غلام كان يهواه اسمه أبو بشر:
وكان السبب في وفاة حماد عجرد أنه شبب بزينب أخت محمد بن سليمان بن علي، وبلغه غضب محمد فهرب إلى الأهواز فبعث محمد بطلبه ففر إلى غيرها ومرض في تنقله حتى مات في شيراز ودفن فيها.
وتجد ترجمته في الأغاني ٧٣ ج١٣، وابن خلكان ١٦٥ ج١، والشعر والشعراء ٤٩٠، والفهرست ٩١.
مروان بن أبي حفصة (توفي سنة ١٨١ﻫ)
هو من الشعراء الموالي، أصل جده من سبي إصطخر، وكان غلامًا اشتراه عثمان بن عفان ووهبه لمروان بن الحكم، وأقام بعدئذ باليمامة، وولد له غلام سماه مروان، وقد اختلفوا في حقيقة نسبه، شبَّ مروان على كره الشيعة؛ لأنه من موالي بني أمية وقد حارب معهم، وكان شجاعًا مجربًا، فلما نبغ في الشعر قدم بغداد ومدح المهدي ثم الرشيد، وكان يتقرب إليه بهجاء العلويين، وهو من الفحول المقدمين أول من شهره ونوه به معن بن زائدة الجواد المشهور بقصيدة نونية مدحه بها مطلعها:
ولكنه اشتهر على الخصوص بقصيدة لاميَّة مدح بها معنًا مطلعها:
فأجازه عليها بمال كثير، فكان كلما زاده معن عطاءً زاده مروان مدحًا حتى غار منه المهدي وعنفه مرة، وقد دخل عليه في جملة الشعراء وأنشده قصيدة في مدحه فقال له المهدي: «من أنت؟» قال: «شاعرك يا أمير المؤمنين وعبدك مروان بن أبي حفصة.» فقال له المهدي: «ألست أنت القائل:
قد ذهب النوال كما زعمت فلم جئت تطلب نوالنا؟ لا شيء لك عندنا … جروا برجله»، فجروه برجله حتى أخرج، فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء — وكانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة — فمثل بين يديه وأنشد قصيدة في مدحه حتى بلغ إلى قوله:
وتجد أخبار مروان في الأغاني ٣٦ ج٩، وابن خلكان ٨٩ ج٢ و١٠٩ ج٢، والشعر والشعراء ٤٨١، وخزانة الأدب ٤٤٧ ج١، والفهرست ١٦٠.
سَلْم الخاسر (توفي سنة ١٨٦ﻫ)
هو سلم (ويقال: سالم) بن عمرو، أحد موالي أبي بكر الصديق، نشأ في البصرة، وكان شاعرًا مطبوعًا متصرفًا في فنون الشعر، وكان متظاهرًا بالخلاعة والفسوق والمجون، وزاد شاعرية وتمرحًا بالشعر على يد بشار؛ لأنه كان راويته وتلميذه، أخذ عنه واغترف من بحره ونسج على منواله، وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله فيسلخها ويمسخها كما مسخ هذا البيت:
فجعله:
فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا، فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي ووبخه وقنعه بمخصرة كانت بيده، وكان صديقًا لإبراهيم الموصلي المغني المشهور ولأبي العتاهية، وكان يمدح البرامكة وخصوصًا الفضل بن يحيى، وكان أول اشتهاره أنه حمل قصيدة بشار إلى عمر بن العلاء فلما أنشده إياها أمر لبشار بمائة درهم، فقال سلم: «إن خادمك (يعني نفسه) قد نال في طريقه فيك قصيدة.» قال: ما هي؟ فأنشده إياها ومطلعها:
حتى تخلص إلى المدح بقوله:
فأمر له بعشرة آلاف درهم، وهي أول عطية سنية نالها، ثم توالت عليه الجوائز من الخلفاء والوزراء والأمراء، وكان يتبسط في المعيشة ويلبس أحسن الملابس كما تقدم، وظل إلى آخر أيامه يعترف أنه جزء من محاسن بشار.
وتجد ترجمته في الأغاني ١١٠ ج٢١، وابن خلكان ١٩٨ ج١.
منصور النمري
هو عربي من النمر بن قاسط، نشأ في الجزيرة بين النهرين، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتَّابي الآتي ذكره بين الشعراء الذين لم يتحضَّروا وراويته، وعنه أخذ ومن بحره استقى، وقدَّمه العتابي إلى البرامكة فوصفه للفضل بن يحيى وقرظه عنده حتى استقدمه من الجزيرة واستصحبه، ثم وصله بالرشيد، وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة حتى تهاجرا وتناقضا وسعى كل منهما في هلاك صاحبه.
وكان مسكن النمري في الشام فطلب إلى البرامكة أن يذكروه للرشيد فذكروه ووصفوه فاستحضره، وكان ذا حيلة سياسية فأدرك أن الرشيد يسره أن يمدح بنفي الإمامة عن علي والطعن عليه لما كان يراه من تقديم مروان بن أبي حفصة بسبب ذلك، فسلك مذهبه ونحا نحوه — والشعراء يومئذ إنما يطلبون الكسب — لكنه لم يصرح بالهجاء والسب كما فعل مروان، ومن قوله فيه قصيدة مطلعها:
ومما قاله في تفضيله على أبناء علي بالإرث قوله:
وقد مدح أيضًا يزيد بن مزيد بقصيدة مطلعها:
وتجد أخبار المنصور النمري في الأغاني ١٦ ج١٢ و٣٢ و١٤١ ج١٧.
علي بن الجهم (توفي سنة ٢٤٩ﻫ)
هو عربي قرشي، شاعر فصيح مطبوع، وقد خص بالمتوكل حتى صار من جلسائه؛ ثم أبغضه لأنه كان كثير السعاية إليه بندمائه وإذا خلا به عرفه أنهم يعيبونه ويثلبونه فيكشف الخليفة عن ذلك، فلا يجد له حقيقة؛ فنفاه إلى خراسان بعد أن حبسه مدة، وكان مذهبه في الشعر مذهب مروان بن أبي حفصة في هجاء آل أبي طالب وذمهم والإغراء بهم وهجاء الشيعة، كقوله:
وهجا الخليفة المتوكل مرة فنفاه إلى خراسان، وكتب الخليفة إلى طاهر بن عبد الله صاحب خراسان أن يصلبه فقبض عليه وصلبه في الشاذياخ يومًا إلى الليل مجردًا، فلما نزل قال في ذلك قصيدة فخرية مطلعها:
ومما قاله بعد حبسه بعد الخروج منه وفيه أحسن ما قيل في مدح السجن:
وله أقوال في الغزل والعتاب وفي الوصف، ومن أجمل ذلك قوله في وصف حفلة بعد صيد فرشوها، وأقاموا يشربون على الزعفران:
وتجد أخباره في الأغاني ١٠٤ ج٩، وابن خلكان ٣٤٩ ج١.
حُسين بن الضحَّاك (توفي سنة ٢٥٠ﻫ)
هو مولى باهلة، ولد في البصرة ونشأ فيها ونادم الخلفاء من بني العباس، وكان خليعًا فاسدًا، وكان مع ذلك حسن التصرف في النظم، لشعره قبول ورونق، فهو من المتفننين، وله معان جديدة في الخمر كان أبو نواس يأخذها عنه، ومع أن أبا نواس مات سنة ١٩٨ والضحاك مات سنة ٢٥٠، فقد تعاصرا؛ لأن مولدهما متقارب، لكن ابن الضحاك عمر كثيرًا.
وهو أول من نادم الأمين، وله فيه مدائح كثيرًا، فلما رجع المأمون من خراسان بعد مقتل أخيه واستتب الأمر له طلب قومًا من أهل الأدب يجالسونه، فذكروا له جماعة فيهم حسين بن الضحاك، فقال: «أليس هو القائل في محمد (الأمين):
لا حاجة لي فيه والله لا يراني أبدًا إلا في الطريق.» ولم يعاقبه على ما كان من هجائه له وتعريضه به، وانحدر الحسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون.
وله في الأمين مراثٍ جيدة، فلما تولى المعتصم سأل عن حسين بن الضحاك فقيل له: إنه في البصرة، فاستقدمه فقدم وأنشده قصيدة فيها من المديح قوله:
وتجد أخباره في الأغاني ١٧٠ ج٦، وابن خلكان ١٥٤ ج١.
(٦-٢) شعراء البرامكة
نريد بهم الشعراء الذين كان أكثر انقطاعهم للبرامكة أو اختصوا بهم دون سواهم أو كان لهم معهم شأن خاص، وهاك أشهرهم:
أبان بن عبد الحميد
هو من الشعراء الموالي، وأكثر شعره مزدوج ومسمط. نقل كتبًا من الفارسية إلى العربية، وله ذكر خاص في آداب اللغة العربية؛ لأنه نظم كتاب كليلة ودمنة شعرًا بإشارة البرامكة، كما نظمه الفرس قبلًا ليسهل حفظه على الأذهان، وقد نقله ابن المقفع نثرًا، وهاك مطلع الترجمة الشعرية:
فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئًا وقال: «ألا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك؟»
وهذا النقل من جملة أفضال البرامكة على اللغة العربية، لكن المنظومة ضاعت ولم يبق منها إلا هذان البيتان، ونقله شعرًا أيضًا آخرون سنذكرهم عند ذكر هذا الكتاب.
وارتقى أبان في أيام البرامكة حتى جعل يحيى بن خالد امتحان الشعراء وترتيبهم في الجوائز إليه، فامتحنهم ورتبهم وفي جملتهم أبو نواس، فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها وهجاه بقصيدة اتهمه فيها بالزندقة، وأكثر أعدائه كانوا يتهمونه بذلك، وفيهم المعذل بن غيلان فإنه قال فيه:
واغتنم أبان تقربه من البرامكة ووسطهم بإيصاله إلى الرشيد أو إيصال مديحه، لعله يحظى كما حظي مروان بن أبي حفصة فلم يفعلوا، ولما عاتبهم قالوا: «إن مروان يتقرب إليهم بهجو آل أبي طالب فهل تفعل؟» فقال: لا، فقالوا: «فماذا نصنع؟ لا تأتي الدنيا إلا بما لا يحل.» ثم غلب عليه التماس الرزق فقال:
وهي طويلة فقدموها إلى الرشيد، فأجازه عليها واتصل به من ذلك الحين.
وتجد أخباره في الأغاني ٧٣ ج٢٠، والفهرست ١٦٣.
ابن مُنَاذر (توفي سنة ١٩٨ﻫ)
هو مولى، ويكنى أبا جعفر، واسمه محمد بن مناذر، شاعر فصيح مقدم في العلم باللغة وإمام فيها حتى أخذ عنه أكابر أهلها، وكان في أول أمره يتعبَّد ثم عدل عن ذلك فهجا الناس وتهتك وخلع، وقذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز فمات هناك.
وكان ينحو نحو عدي بن زيد في شعره ويميل إليه ويقدمه، وقد مدح آل برمك وغيرهم، ولما نكب البرامكة وآلت الوزارة إلى عدوهم الفضل بن الربيع أصبح شعراء البرامكة في خطر، فأراد ابن مناذر أن يتقرب إلى الرشيد طلبًا للرزق فاغتنم ذهابه إلى الحج، وتقدم إليه يوم التروية بقصيدة فَلَاح البشر في وجه الرشيد، فقال الفضل بن الربيع للرشيد: «هذا شاعر البرامكة.» فعبس الرشيد، فقال الفضل: «مره أن ينشدك قوله فيهم.» فأمره فاعتذر فألح عليه، فأنشد القصيدة التي مطلعها:
وكلها إطراء في البرامكة، ولما فرغ منها استدرك بقوله: «كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين لما مدحتهم.» فأمر الرشيد أن يلطم فلطموه، وأمر فحبسوه، وخرج لا يلوي على شيء، فلقيه أبو نواس فدفع إليه صرة فيها ٣٠٠ دينار وقال له: «استعن بهذه واعذرني.» ولم يعد ابن مناذر يرى خيرًا بعد البرامكة.
وتجد أخباره في الأغاني ٩ ج١٧، والشعر والشعراء ٥٥٣.
الرُّقاشي (توفي سنة ٢٠٠ﻫ)
هو مولى، واسمه الفضل بن عبد الصمد الرقاشي من أهل البصرة، كان سهل الشعر مطبوعًا، وكان منقطعًا إلى آل برمك مستغنيًا بهم عن سواهم، وكانوا يصولون به على الشعراء ويروُّون أولادهم أشعاره ويدوِّنونها القليل والكثير منها تعصبًا له وحفظًا لخدمته، وتنويهًا باسمه وتحريكًا لنشاطه فحفظ ذلك لهم، فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم فأقام معهم مدة أيامهم ينشدهم ويسامرهم حتى ماتوا، ثم رثاهم فأكثر من رثائهم، من ذلك قوله لما صلب الفضل بن يحيى واجتاز به الرقاشي وهو مصلوب على الجذع فوقف يبكي ثم قال:
وتجد ترجمته في الأغاني ٣٥ ج١٥، وفوات الوفيات ١٢٥ ج٢، والشعر والشعراء ٥١٥.
أشجع السُّلَمي
هو أشجع بن عمرو السلمي، من قيس. ولد باليمامة ومات أبوه فجاءت به أمه البصرة فماتت هناك، ونشأ أشجع بالبصرة وقال الشعر وأجاد، وعد من الفحول، وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن، ولم يكن لقيس شاعر معدود، فلما نجم أشجع افتخرت به قيس، ثم اتصل بالبرامكة، واختص بجعفر وأصفاه مدحه، فأعجب به وأوصله إلى الرشيد فأعجب به فأثرى، ومن بليغ شعره قوله في إبراهيم بن عثمان بن نهيك صاحب شرطة الرشيد وكان جبارًا عبوسًا:
وتجد أشعاره وأخباره في الأغاني ٣٠ ج١٧، والشعر والشعراء ٥٦٢.
وأكثر الشعراء مدحوا البرامكة وانتفعوا بهم، وإنما أتينا على أشهرهم في ذلك، وبعضهم يدخل في الأبواب الأخرى.
(٦-٣) شعراء الشيعة
نريد بشعراء الشيعة الذين كانوا يتشيعون لآل علي، ويتعصبون لهم ولو مدحوا غيرهم، وقد ترجمنا اثنين منهم هما السيد الحميري ودعبل في جملة عمدة شعراء هذا العصر، وإليك ترجمة ثالثهم ديك الجن:
ديك الجن (توفي سنة ٢٣٥ﻫ)
اسمه عبد السلام بن رغبان وأصله من أهل مؤتة (وقيل: سلمية)، وقد أسلم جده في أول الإسلام، ولد في حمص وديك الجن لقب له، وكان شديد التشعب والعصبية على العرب يرد على الذين يحتقرون غير العرب بقوله: «ما للعرب علينا فضل جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم وأسلمنا كما أسلموا»، وهو شاعر مجيد يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره، وكان مقيمًا في حمص ولم يبرح نواحي الشام ولا وفد إلى العراق ولا إلى غيره منتجعًا بشعره ولا متصديًا لأحد، وهذا نادر في شعراء ذلك العصر، وكان يتشيع لآل البيت وله مراثٍ كثيرة في الحسين بن علي كان بعضها مشهورًا عند الخاص والعام يناح به، وكان مع ذلك خليعًا ماجنًا منعكفًا على القصف واللهو متلافًا لما ورث عن آبائه، وما اكتسبه بشعره من أحمد وجعفر بني علي الهاشميين، ومن أقواله في الخلاعة والغزل قصيدة مطلعها:
وعشق جارية نصرانية من أهل حمص اسمها وردة حملها على الإسلام وتزوجها، وله فيها تشبيب منه قوله:
ودخل بعض أقربائه بينه وبينها واتهمها بحب رجل آخر، واحتال حتى صدق ديك الجن التهمة وهي افتراء، وقتلها على غضب، ثم عرف أنها بريئة فنظم في رثائها:
(٦-٤) شعراء سائر الأمراء
وهناك طبقة من شعراء العصر العباسي الأول انقطع كل منهم إلى أمير أو وزير أو كبير، أشهرهم علي بن جبلة المعروف بالعكوك انقطع لأبي دلف، ومطيع بن أياس انقطع لجعفر بن المنصور، وأبو الشيص لعقبة بن جعفر بن الأشعث، وهذه تراجمهم:
مُطيع بن أَياس
هو عربي الأصل يرجع نسبه إلى كنانة، وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية، وكان ماجنًا خليعًا ظريفًا مليح النادرة متهمًا بالزندقة. ولد ونشأ في الكوفة، وانقطع لجعفر بن أبي جعفر المنصور، ومدح قليلين غيره، وهو من طبقة كانت في صدر الدولة العباسية قبل أبي نواس وأبي العتاهية، أدركوا المنصور وهو لا يقبل الشعراء وكانوا ثلاثة: مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فكانوا يتذاكرون أيام بني أمية وكثرة الخير فيها، وما هم فيه ببغداد من القحط أيام المنصور، وقد نظم مطيع في ذلك شعرًا منه قوله:
وكانوا يتهتكون في تعشق الغلمان، ولعلهم أقدم من فعل ذلك من الشعراء، وفي الأغاني حديث عنهم نخجل من ذكره يدل على مقدار تهتكهم في ذلك العصر، ولمطيع قصيدة عامرة يمدح بها معن بن زائدة مطلعها:
وترى أخباره في الأغاني ٧٨ ج١٢ و٨٥ ج١٣ و٨٦ ج٢١.
أبو الشَّيص (توفي سنة ١٩٦ﻫ)
هو أبو جعفر محمد بن رزين من اليمنية، وهو عم دعبل الشاعر المشهور، وقد تقدمت ترجمته. وكان أبو الشيص من شعراء عصره متوسط المحل فيهم غير نبيه الذكر؛ لوقوعه بين مسلم بن الوليد وأشجع وأبي نواس، فخمل وانقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي، وكان أميرًا على الرقة؛ فمدحه بأكثر شعره وقلما يروى له في غيره. وكان عقبة جوادًا فأغناه عن غيره؛ لأنه كان يعطيه عن كل بيت ألف درهم، وكان من وصَّاف الخمر وله مقدرة على الغزل، وأصيب آخر عمره بالعمى فنظم الشعر في بكاء عينيه، فمن ذلك قوله:
ومن أقواله في الغزل:
وهو مما يتغنى به، وقد سرق أبو نواس معنى البيت الأول فنظمه في قوله:
وسرق آخرون معنى البيت الثاني فقال بعض المغاربة:
وتجد أخباره في الأغاني ١٠٨ ج١٥، وفوات الوفيات ٢٢٥ ج٢، والشعر والشعراء ٥٣٥، والفهرست ١٦١.
العَكَوَّك (توفي سنة ٢١٣ﻫ)
اسمه علي بن جبلة الأنباري والعَكَوَّك لقبه، وهو من الموالي أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد، ولد في الحربية منها ونشأ فيها، وكان ضريرًا منذ ولادته مثل بشار بن برد، وهو شاعر مطبوع عذب اللفظ جزله، لطيف المعاني، مداح، حسن التصرف، وقد استنفد شعره في مدح أبي دلف العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي، وزاد في تفضيلهما وتفضيل أبي دلف خاصة حتى فضَّل ربيعة على مضر، فاستاء المأمون من ذلك وبلغه أبيات قالها العكوك في أبي دلف منها:
فغضب المأمون وطلبه وسل لسانه من قفاه، ويقال: بل هرب ولم يزل متواريًا حتى مات، وسبب معرفة العَكَوَّك بأبي دلف طلب الرزق؛ فقد بلغه أن الناس يقصدونه لجوده؛ فقصده بقصيدة مدحه بها، وهي أربعون بيتًا في جملتها البيتان المتقدمان، وهو أبرص أسود، وله في الغزل قوله:
وأخبار العكوك كثيرة، وقد ذكرنا مدحه أبا دلف من أمثلة المبالغة.
وتجد أكثر أخباره في الأغاني ١٠٠ ج١٨، وابن خلكان ٣٤٨ ج١، والشعر والشعراء ٥٥٠.
-
إبراهيم بن سيابة مدح إبراهيم الموصلي المغني أخباره بالأغاني ٦ ج١١.
-
محمد بن أمية وأخوه علي مدح إبراهيم بن المهدي أخباره ٣٢ ج١١ و٦٣ ج٢٠.
-
محمد بن صالح مدح ابن المدبر أخباره ٨٨ ج١٥ و٢٢٠ فوات٢.
(٦-٥) شعراء لم يتكسبوا بالشعر
كل من تقدم ذكرهم إنما كانوا يرتزقون بالشعر مدحًا أو هجاءً أو نحو ذلك مثل سائر شعراء ذلك العصر وغيره، وقليل فيهم من لم يتكسَّب بالشعر؛ أي يجعله بابًا للرزق، ومن هذا القليل في العصر العباسي الأول: صالح بن عبد القدوس، والعباس بن الأحنف، ومحمد بن بشير الرياشي.
صالح بن عبد القُدُّوس (توفي سنة ١٦٧ﻫ)
هو صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس من حكماء الشعراء متهم بالزندقة، قوي الحجة له منزلة كبرى عند أهل مذهبه. نشأ في البصرة وكان يقصُّ على الناس ويعظهم، وبلغ إلى المهدي خبر زندقته فبعث إليه يستقدمه من دمشق وكان قد رحل إليها وهو شيخ طاعن في السن، فلما جاء بغداد ومثل بين يدي المهدي قال له المهدي: ألست القائل:
قال: «بلى يا أمير المؤمنين.» قال: «وأنت لا تترك أخلاقك حتى تموت.» فأمر به فقتل وصلب على جسر بغداد سنة ١٦٧ﻫ، وأكثر أشعاره في الحكم الفلسفية. ومن أحاسن أقواله القصيدة التي منها ذلك البيت، وهو يقول فيها:
وقوله:
وكان فيه ميل إلى العزلة والانقطاع عن الناس شأن الفلاسفة، ومن قوله:
وهو القائل:
وله قصيدة حكمية أخلاقية بديعة مطلعها:
وترى أكثر أخباره في فوات الوفيات ١٩١ ج١، والدميري ٢٦ ج١.
العَبَّاس بن الأحْنَف (توفي سنة ١٩٢ﻫ)
هو عربي شريف النسب، لم يتكسَّب بالشعر، وإنما كان ينظم ما يجيش في خاطره، وأكثره في الغزل، ولم يتجاوزه إلى مديح أو هجاء، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف، ولولا حذقه وسعة خياله لم يقدر أن يكثر من النظم في مذهب واحد لا يتجاوزه، ويندر ذلك في الشعراء قديمًا وحديثًا، وله ديوان طبع مع ديوان ابن مطروح بالآستانة سنة ١٢٩٨ﻫ، ولشعره الغزلي وقع في النفس فإنهم كانوا يغنون كثيرًا منه كقوله:
وقوله:
وقوله:
وتجد أخباره وأشعاره في الأغاني ١٥ ج٨، وابن خلكان ٢٤٥ ج١، والشعر والشعراء ٥٢٥.
محمد بن بَشير الرياشي
وهي طويلة وفيها مجون، وأكثر نظمه من هذا النوع.
وتجد أخباره في الأغاني ١٢٩ ج١٢.
(٦-٦) شعراء لم يتحضروا
أما الشعراء الذين ظلوا على بداوتهم أو لم يقيموا في بغداد، بل كانوا يفدون على الخلفاء أو الأمراء ثم يرجعون إلى البادية، فهم أقل كثيرًا من الذين تحضَّروا أشهرهم:
كُلْثُوم بن عمرو العتَّابي (توفي سنة ٢٢٠ﻫ)
أصله من قنسرين، مدح البرامكة وطاهر بن الحسين، وكان حسن الاعتذار في شعره ورسائله، وله مصنفات في المنطق والأدب واللغة، وكان يقيم في رأس عين بعيدًا عن دور الخلفاء والأمراء. وبلغ الرشيدَ قصيدةٌ قالها فأعجب بها فطلب إشخاصه إليه فجاء وعليه قميص غليظ وفروة وخف، وعلى كتفه ملحفة جافية بغير سراويل، فلما رفع الخبر بقدومه إلى الرشيد أمر بأن تفرش له حجرة وتقام له وظيفة ففعلوا، فكانت المائدة إذا قدمت إليه أخذ منها رقاقة وملحًا وخلط الملح بالتراب فأكله بها، فإذا كان وقت النوم نام على الأرض والخدم يتفقدونه ويتعجَّبون من فعله، وسأل الرشيد عنه فأخبروه بأمره فأمر بطرده فخرج حتى أتى يحيى بن سعيد العقيلي وهو في منزله، فسلَّم عليه وانتسب له فرحب به وقال له: «ارتفع.» فقال: «لم آتك للجلوس.» قال: «فما حاجتك؟» قال: «دابة أبلغ عليها إلى رأس عين.» فقال: «يا غلام أعطه الفرس الفلاني.» فقال: «لا حاجة لي في ذلك، ولكن تأمر أن تُشْتَرَى لي دابة أتبلغ عليها.» فقال لغلامه: «امض معه فابتع له ما يريد.» فمضى معه فعدل به العتابي إلى سوق الحمير، فقال الغلام: «إنما أمرني أن أبتاع لك دابة.» فقال له: «إنه أرسلك معي ولم يرسلني معك، فإن عملت ما أريد وإلا انصرف.» فمضى معه فاشترى حمارًا بمائة وخمسين درهمًا وقال: «ادفع إليه ثمنه.» فدفع إليه فركب الحمار عريًا بمرشحة عليه وبرذعة وساقاه مكشوفتان، فقال له يحيى بن سعيد: «فضحتني، أمثلي يحمل مثلك على هذا؟» فضحك وقال: «ما رأيت قدرك يستوجب أكثر من ذلك.» ومضى إلى رأس عين، وكانت امرأته من باهلة فلامته وقالت: «هذا منصور النمري (تلميذك وراويتك) قد أخذ الأموال فحلَّى نساءه وبنى داره واشترى ضياعًا وأنت ههنا كما ترى.» فأنشد يقول:
ويرى صاحب الأغاني اضطرابًا في هذا الخبر، على أنه كان يفد على الخلفاء والأمراء وينال جوائزهم، وهو أستاذ المنصور النمري.
أخباره في الأغاني ٢ ج١٢، وفوات الوفيات ١٣٩ ج٢.
ربيعة الرقي
هو ربيعة بن ثابت الأنصاري، ولد في الرقة ونشأ بها، وكان شاعرًا مطبوعًا، وهو ضرير مثل بشار، وكان منقطعًا عن الحضارة بعيدًا عن مجالسة الخلفاء فأخمل ذكره بسبب ذلك، لكنهم كانوا يستقدمونه إليهم، وأول من فعل ذلك المهدي؛ فمدحه ونال جوائزه، وكان ابن المعتز يرى ربيعة أشعر غزلًا من أبي نواس؛ لأن في غزل أبي نواس بردًا كثيرًا وغزل هذا سليم عذب سهل؛ ولذلك فإن شهرته بلغت إلى بلاط الخليفة، وكان يمدح غير الخلفاء وينال جوائزهم ويعود إلى بلده، وإن قصر أحد في عطائه هجاه، وله في ذلك حديث مع العباس بن محمد بن علي من أمراء بني العباس — وذلك أن الرقي مدحه بقصيدة مطلعها:
فبعث إليه العباس دينارين وهو يتوقع أن يعيطه ألفي دينار، فأعطى الدينارين إلى الرسول على أن يوصل إليه رقعة كتب فيها:
فغضب العباس وشكاه إلى الرشيد، فأحضره الرشيد وهمَّ بقصاصه فقص عليه الحديث، فلما اطَّلع الرشيد على الحقيقة احتقر العباس وكان ينوي أن يزوجه ابنته، فتغير عليه وأمر للرقي بثلاثين ألف درهم وبغلة، وأوصاه أن لا يذكر العباس تعريضًا ولا تصريحًا، واتفق للرقي أيضًا مثل ذلك مع معن بن زائدة، وقد لقيه في بعض قدماته إلى العراق فمدحه فلم يهشَّ له فهجاه بقصيدة مطلعها:
ومن غزله أبيات يغني بها، وهي:
وتجد أخباره في الأغاني ٣٨ ج١٥، وخزانة الأدب ٥٥ ج٣.
عمارة بن عقيل
هو من الشعراء البدو في هذا العصر حفيد جرير الشاعر المشهور، وهو شاعر مقدم فصيح كان يسكن بادية البصرة، ويزور الخلفاء العباسيين فيجزلون صلته ويمدح قوادهم فيحظى بكل فائدة، وكان النحويون بالبصرة يأخذون عنه، وتجد أخباره في الأغاني ١٣٨ ج٢٠، وطبقات الأدباء ٢٣٣.
ناهض بن ثومة
هو من عامر شاعر بدوي فارس فصيح كان يقدم البصرة، فيكتب عنه شعره وتؤخذ عنه اللغة، وأخباره في الأغاني ١٣٣ ج١٢.
وهناك شعراء كثيرون لم تبلغ أخبارهم إلينا؛ لأنهم قضوا حياتهم في البادية ولم يفدوا على أحد، ناهيك بمن نظم الشعر من غير الشعراء وفيهم طائفة من اللغويين والنحاة والفقهاء والمحدثين، حتى الوزراء والخلفاء والولاة والخدم والنساء وغيرهم ممن جمعت أشعارهم في ذلك العصر، وبقي كثير منها إلى أواسط القرن الرابع، فقد ذكر ابن النديم في الفهرست مئات من أولئك الشعراء، فيهم من الشعراء الكتاب بضع مئات وعدة عائلات تسلسل الشعر في أعقابها كآل أبي أمية وآل اللاحقي وآل أبي عيينة المهلبي وآل المعدل وآل أبي العتاهية، وطائفة من النساء الشواعر.
وذكر ابن النديم لبعض الشعراء مقدار ما خلفوه من الشعر بعدد الورق بتقدير الورقة صفحتين في كل منهما عشرون سطرًا، فذكر نحو مائة شاعر منهم بشار له ألف ورقة، وأبو نواس ٨٠٠ ورقة، وابن هرمة ٥٠٠ ورقة، وغيرهم ٣٠٠ وأقل إلى ٥٠ أو ٢٠ ورقة، على ما كان معروفًا في عصره بأواسط القرن الرابع، ولم يبق من ذلك إلى اليوم إلا القليل، فمن أراد مراجعة قائمة ابن النديم فهي تبدأ بصفحة ١٥٩ من الفهرست.