الشعر والشعراء
(١) مميزات الشعر في هذا العصر
-
(١)
ظهرت فيه شكوى الشعراء من ذهاب دولة الشعر وانقضاء العصر الذي كان الشعر يثير فيه النفوس ويستنهض الهمم، بذهاب الخلفاء والأمراء الذين كانوا يعرفون قدر الشعر ويقدمون أصحابه بالسخاء، وقد عبر ابن الرومي عن ذلك (وهو من أهل هذا العصر) بقوله:
ذهب الذين تهزُّهم مداحهمهزَّ الكماة عوالي المرانِكانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهمُما الأريحية منهمُ بمكانِ١ -
(٢)
كثر فيه ذكر المعاني الفلسفية وتعابيرها لتفشي علوم الأقدمين بين المسلمين على أثر ترجمة الكتب في العصر الماضي وفي هذا، وظهر جماعة من الشعراء عدوا بين الفلاسفة لتغلب العلوم الطبيعية على نفوسهم، على أن الآراء الفلسفية ظهرت ناضجة في شعراء العصر العباسي الآتي ذكره.
-
(٣)
ظهر فيه البديع، ولم يكن منه قبلًا إلا نزر يسير، على أن البديع قديم في العربية حتى في النثر فضلًا عن الشعر؛ لأن هذه اللغة تمتاز بقبولها للاستعارات والكنايات.٢ ولكن المشهور أن أول من فتق البديع بشار بن برد وابن هرمة، ثم اتبعهما مقتديًا بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، واتبع هؤلاء أبو تمام والبحتري … ثم ابن المعتز، فانتهى البديع إليه وختم به،٣ فإنه ألطف أصحابه شعرًا وأكثرهم بديعًا، وهو من شعراء العصر العباسي الثاني.
-
(٤)
نبغت طبقة من الكتاب انتقدوا الشعر وروايته، وكانوا ينقلونه في العصر السابق بلا تمحيص، فصاروا في هذا العصر ينظرون فيه ويتدبرون معانيه وأساليبه بعين النقد، ولا سيما بعد اطِّلاعهم على ترجمة كتاب أرسطو في نقد الشعر الذي نقله أبو بشر من السريانية إلى العربية، وأكثر الذين اشتغلوا في ذلك من الأدباء، وسيأتي ذكرهم في باب الأدب. أما النقد التاريخي فلم يجرءوا عليه في هذا العصر؛ لاضطرار المؤرخين إلى مصانعة رجال الدولة إلا ما كان من الطعن في أعداء الخلفاء والأمراء.
-
(٥)
وفيه تقدم الشعراء خطوة أخرى في الزهريات والتغزل بها، كقول ابن المعتز يصف قضيبًا من الريحان:
قضيب من الريحان شابه لونهإذا ما بدا للعين لون الزمردِوشبهته لما تأملت حسنهعذارًا تدلى في عوارض أمردِوقول البحتري:
ورق تغني على خضر مهدلةتسمو بها وتمس الأرض أحياناتخال طائرها نشوان من طربٍوالغصن من هزه عطفيه نشوانا
(٢) أشهر شعراء هذا العصر
قد رأيت كثرة الشعراء في عصر بني أمية للأغراض السياسية التي اقتضاها مسلك الأمويين في السياسة بين العصبيات والأحزاب، مع تغلب البداوة على نفوسهم، ورأيت كثرة الشعراء في العصر العباسي الأول بانتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة مع رغبة الخلفاء ورجال الدولة في الشعر وسائر فنون الأدب — وهو الباعث الأقوى على ظهور قرائح الشعراء في كل عصر.
أما في العصر العباسي الثاني الذي نحن في صدده، فقد ضعفت تلك الأسباب، واشتغل الخلفاء بأنفسهم ورجالهم، فلم ينبغ من فحول الشعراء فيه إلا الذين قويت شاعريتهم، وهم نفر لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ولشعرهم صبغة تلائم ذلك العصر، وهم:
(٢-١) ابن الرومي (توفي سنة ٢٨٣ﻫ)
هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج أوجورجيس، ويعرف بابن الرومي نسبةً إلى أصله، وهو من موالي بني العباس، اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها، ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه ويمثله للقارئ تمثيلًا. ولد في بغداد سنة ٢٢١ﻫ، وتوفي سنة ٢٨٣ﻫ، وكان شديد الهجاء جريئًا فيه حتى مات بسببه؛ لأنه هجا القاسم بن عبيد الله — وزير المعتضد — فدس إليه ابن فراش فأطعمه خشكنانجة مسمومة، وهو في مجلسه؛ فلما أحس بالسم نهض، فقال له الوزير: «إلى أين؟» فقال: «إلى الموضع الذي بعثتني إليه.» فقال له: «سلم على والدي.» فقال: «ما طريقي على النار.» وأتى منزله أقام فيه أيامًا ومات. ومن بديع شعره في المديح قوله:
وله أيضًا وقال: ما سبقني أحد إلى هذا المعنى:
ومن معانيه البديعة قوله:
وكذلك قوله في ذم الخضاب، وهو مما لم يسبق إليه:
وله في بعض الرؤساء وقد سأله حاجة فقضاها له وكان لا يتوقع منه خيرًا:
ومن نظمه في الحكم:
ومن بديع معانيه:
وكان شعره غير مرتب رواه عنه المتنبي، ثم جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف، وجمعه أبو الطيب وراق ابن عبدوس، وزاد في جميع النسخ نحو ألف بيت، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية في نحو ٤٠٠٠ ورقة صفحاتها مزدوجة كبيرة بخط قديم كتبت فيها الأبيات في نهرين كل نهر في شطرين، وأكثر شعره في علي بن يحيى بن أبي منصور، والحسن بن عبيد الله بن سليمان، وأبي القاسم التوزي الشطرنجي، والمعتضد، والقاسم بن عبيد الله، وابن المدبر، وغيرهم ممن عاصروه. وله أهاجٍ شديدة ومدائح بليغة، وقد أبدع في وصف الأخلاق والعواطف وفي العتاب، وله مراثٍ مؤثرة بعضها في ابنه وأمه، وله قصائد طويلة بعضها يزيد على ٣٠٠ بيت أكثرها في المدح، ومن هذا الديوان نسخة في مكتبة الإسكوريال وأخرى في مكتبة طوب قبو وفي نور عثمانية بالآستانة، ومن الغريب أن هذا الديوان النفيس لم ينشر بعد.
وأخبار ابن الرومي في ابن خلكان ٣٥٠ ج١، والفهرست ١٦٥.
(٢-٢) البحتري (توفي سنة ٢٨٤ﻫ)
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي. ولد بمنبج من أعمال الشام وتخرج بها، ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء، أولهم المتوكل على الله، وخلقًا كثيرًا من الأكابر والرؤساء، وأقام في بغداد دهرًا طويلًا ثم عاد إلى الشام، وله أشعار كثيرة يذكر فيها حلب، وكان يتغزل بها، وقد أدرك أبا تمام بحمص وعرض عليه شعره في جملة من كان يأتيه لهذا الغرض، فلما سمع أبو تمام قوله أقبل عليه وترك سائر الناس، فلما تفرقوا قال له: «أنت أشعر من أنشدني.» وأوصى به أهل معرة النعمان، فصار إليهم فأكرموه ووظفوا له ٤٠٠٠ درهم، واشتهر بعد ذلك حتى صار من الطبقة الأولى. ويشبهون شعره بسلاسل الذهب لتناسبه، وصار بعضهم يفضله على أبي تمام. وسئل هو مرة: «من أشعر أنت أم أبو تمام؟» فقال: «جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه.» وسئل أبو العلاء المعري: «أي الثلاثة أشعر: أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟» فقال: «المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري.» على أنه امتاز بقوة التصور، فإنه كان يصور أخلاق الممدوح تصويرًا لم يسبقه أحد إلى مثله، ومن أحاسن شعره في المتوكل قصيدة مطلعها:
ويقول منها:
ظل البحتري في العراق في خدمة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان وله الحرمة التامة حتى قتلا، فرجع إلى منبج وقد تحدى أبا تمام في البديع ويعده إمامًا له ويقدمه على نفسه كما رأيت، ثم صارت له طريقة في الجزالة والعذوبة والفصاحة والسلاسة خاصة به تحداها معاصروه ومن جاء بعدهم من الشعراء، وعرفت بطريقة أهل الشام، وكان الصاحب بن عباد يعجب بها ويحرِّض على حفظ أشعار أصحابها، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه منها حتى كتب دفترًا ضخم الحجم عليها كان لا يفارق مجلسه ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه وفي سن قلمه، فطورًا يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده في مراسلاته كما هو.
وكان البحتري بخيلًا وسخ الثوب ومن أبغض الناس إنشادًا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبًا ومرة القهقرى، يهزُّ رأسه مرة وكتفه أخرى ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت ويقول: «أحسنت والله ما لكم لا تقولون: أحسنت؟» فضجر المتوكل منه.
وما زال شعر البحتري غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف، وجمعه أيضًا علي بن حمزة الأصبهاني ورتبه على الأنواع، وقد طبع في الآستانة سنة ١٣٠٠ وفي بيروت سنة ١٩١١، مضبوطًا بالشكل الكامل في جزءين كبيرين، أكثره في مدح المتوكل والمعتز والمستعين والمعتمد ورجال دولتهم، ولا تكاد تخلو قصيدة من استهلال بالغزل.
حماسة البحتري
وللبحتري حماسة مثل حماسة أبي تمام طبعت في بيروت سنة ١٩١٠ بعناية الأب شيخو وقد ذيلها بالفهارس، وهي تمتاز على حماسة أبي تمام من أوجه كثيرة: منها كثرة الأبواب؛ لأن حماسة أبي تمام مؤلفة من عشرة أبواب وحماسة البحتري من ١٧٤ بابًا تتضمن معظم المعاني الشعرية، وقد رواها عن نحو ٦٠٠ شاعر أكثرهم من الجاهليين والمخضرمين، وتمتاز على الخصوص بخلوها مما تنبو عنه الأسماع من الألفاظ البذيئة حتى الغزل والنسيب فقد تحاشاهما، كأن البحتري جمعها لشبيبة هذه الأيام، وأطلعنا في المكتبة الخديوية على نسخة من الحماسة المذكورة منقولة بالفوتوغراف في ٤٠٠ صفحة عن نسخة خطية محفوظة في مكتبة ليدن.
وللبحتري أيضًا كتاب معاني الشعر، وألف الحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة ٣٧١ كتابًا انتقاديًّا في الموازنة بين أبي تمام والبحتري تعصَّب فيه على أبي تمام وجدَّ في طمس محاسنه وتزيين مرذول البحتري، طبع في الآستانة سنة ١٢٨٧ﻫ.
وأخبار البحتري في ابن خلكان ١٧٥ ج٢، والأغاني ١٦٧ ج١٨، والفهرست ١٦٥.
(٢-٣) ابن المُعْتز (توفي سنة ٢٩٦ﻫ)
هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل من أبناء الخلفاء العباسيين. تحزب له جماعة من الجند الأتراك على العادة الجارية في ذلك العهد، وخلعوا المقتدر سنة ٢٩٦، وبايعوا لابن المعتز وسموه المرتضي بالله، أقام يومًا وليلة، ثم تحزب أصحاب المقتدر وتراجعوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم وأعادوا المقتدر إلى دسته، واختفى ابن المعتز في بيت ابن الجصاص التاجر الجوهري الشهير يومئذ، فأخذه المقتدر وسلَّمه إلى مؤنس الخادم؛ فقتله ودفعه إلى أهله ملفوفًا في كساء، وكان ابن المعتز منحرفًا على العلويين، وله فيهم قصيدة بائية يطعن عليهم فيها، ويجعل للعباسيين الفضل عليهم بالخلافة مطلعها:
إلى أن يقول:
وعارضه صفي الدين الحلي بقصيدة من وزنها وقافيتها مطلعها:
ومن شعره قصيدة تاريخية من نوع الشعر القصصي مدح بها الخليفة المعتضد، ومزيته على الخصوص بما في شعره من أنواع البديع كقوله في وصف مليح:
ومن قوله وقد ذكره ابن خلكان:
ومن تشابهه قوله:
- (١)
كتاب الأدب: منه نسخة خطية في المتحف البريطاني.
- (٢)
كتاب مختصر طبقات الشعراء: في مكتبة الإسكوريال.
- (٣)
كتاب البديع: وهو أهم كتبه بالنظر إلى اختصاصه في هذا الفن، منه نسخة خطية في مكتبة الإسكوريال.
- (٤)
كتاب أشعار الملوك: منه نسخة خطية في مكتبة المستشرق أهلوارت.
وباسمه في مكتبة باريس «كتاب الشراب» شعر ونثر، وفي مكتبة برلين كتاب فصول التماثيل في تباشير السرور، ولم يذكره له مؤرخوه. وعني لانغ الألماني بترجمة بعض شعره وتاريخه إلى الألمانية وطبعه في المجلة الألمانية الشرقية سنة ١٨٨٦، وفعل ذلك أيضًا لوث، وطبعه في ليبسك سنة ١٨٨٢.
وقد جمعت أشعاره في ديوان مرتب على الأنواع كالفخر والغزل وغيرهما، وكل منها مرتب على الأبجدية، منه نسخ خطية في مكاتب باريس والقاهرة وغيرها، وطبع بمصر سنة ١٨٩١، وله قصائد متفرقة في مكاتب برلين وغوطا.
وتجد أخباره في ابن خلكان ٢٥٨ ج١، وطبقات الأدباء ٢٩٩، وفوات الوفيات ٢٤١ ج١، والأغاني ١٤٠ ج٩، والفهرست ١١٦.
(٢-٤) البسَّامي البغدادي (توفي سنة ٣٠٢ﻫ)
هو أبو الحسن علي بن محمد بن نصر بن منصور، ويعرف باسم بسام أيضًا، وهو غير ابن بسام الشانتمريني المتوفى سنة ٥٤٢ﻫ، وأما البسامي فأمه بنت حمدون النديم، وكان شاعرًا هجَّاء لم يسلم من لسانه أمير ولا وزير ولا صغير ولا كبير، وقد هجا أباه وإخوته وسائر أهل بيته، فمن ذلك قوله في أبيه:
وقال في هدم المتوكل قبر الحسين:
وليس له ديوان معروف، وله مؤلفات في مناقضات الشعراء وأخبار الأحوص وعمر بن أبي ربيعة لم يصلنا خبرها.
وأخباره في ابن خلكان ٣٥٢ ج١، والفهرست ١٥٠، وفوات الوفيات ٨٣ ج٢.
(٢-٥) الخبز أرزِّي (توفي سنة ٣١٧ﻫ)
هو أبو القاسم نصر بن أحمد من أهل البصرة، وكان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان يخبز الأرز بمربد البصرة ومنه اسمه، لكنه كان مطبوعًا على الشعر، وكان ينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه لسماع شعره ويعجبون من حاله، ثم ذاع خبره وتناقل الناس أشعاره، فمن غزله قوله:
وله أيضًا:
وذكر له ابن خلكان كثيرًا من الأخبار وأمثلة من الشعر في ترجمته ١٥٣ ج٢، وفي يتيمة الدهر ١٣٢ ج٢.
(٢-٦) ابن العلاف (توفي سنة ٣١٨ﻫ)
اسمه أبو بكر الحسن بن علي، كان ضريرًا من أهل النهروان، جيد الشعر، واشتهر بقصيدة رثى بها هرًّا، والمقصود بالرثاء غلامٌ كان له قتله علي بن الحسين. والقصيدة من أحسن شعره مطلعها:
وهي طويلة نشر ابن خلكان أكثرها في صفحة ١٣٨ج١، والدميري ٣٣٧ ج٢.
ومن نوابغ شعراء هذا العصر فضل — جارية المتوكل العباسي المتوفاة سنة ٢٦٠ﻫ — وكانت تهاجي الشعراء ويجتمع عندها الأدباء، ولها في الخلفاء والملوك مدائح، وكانت في أول أمرها، تتشيع وتتعصب لأهل مذهبها وتقضي حوائجهم بجاهها عند الملوك. وعشقت سعيد بن حميد — وكان منحرفًا عن أهل البيت — فانتقلت إلى مذهبه، ولها أشعار نفيسة منها أمثلة في فوات الوفيات ١٢٦ ج٢، والأغاني ١١٤ ج٢١.