الإنشاء
قد رأيت في كلامنا عن الإنشاء في العصر العباسي الثالث أنه نضج في ذلك العصر وتعينت له قواعد تحداها من جاء في العصر الرابع وما بعده، ونبغ في هذا العصر جماعة من المنشئين قَلَّ من تفرغ منهم للإنشاء كما فعل أدباء العصر الثالث، فاشتغل بعضهم في التاريخ أو غيره، فيأتي ذكر كل منهم في مكانه حسب الموضوع الذي اشتهر به، وإنما نقول كلمة في الإنشاء على الإجمال، ونريد إنشاء الرسائل أو الترسل والخطب ومقدمات الكتب.
لما تمكنت السيادة للأعاجم أصبح العرب وغيرهم من أهل الأدب في حاجة إلى التملق، فجرهم ذلك إلى تنميق العبارة والمبالغة في الإطراء والتأنق في الإنشاء مع ما تقتضيه طبيعة العمران من التبسط في الحضارة والاسترسال في تزويق العبارة بأنواع البديع والجناس، شأن المتحضرين في سائر أحوالهم فإنهم يجنحون إلى أسباب الرخاء والتأنق في كل شيء، فتجاوزوا في الإنشاء ما وضعه أدباء العصر الثالث من القواعد التي سميناها مدرسية.
كان التنميق في العصر العباسي الثالث يزيد الإنشاء رونقًا للاكتفاء بالقدر اللازم على ما يقتضيه الذوق السليم من سجع أو جناس أو كناية، فاستحسن أهل العصر الرابع ذلك فاسترسلوا فيه وتجاوزوا حده، فآل إلى عكس المراد، كالثوب أرادوا به في أصل صنعه اتقاء البرد أو ستر العورة ثم رأوا أنهم إذا تفننوا بشكله من إطالة الذيل أو توسيع الأكمام أو زركشة الأطراف ببعض الألوان يزداد رونقًا وجمالًا، ففعلوا، لكن بعضهم يكثر من تلك الزينة ويبالغ في التأنق حتى يتجاوز الحد وينقلب إلى الضد بحيث يصير الثوب كأنه وُضع للزينة فقط وقد يعود بالضرر، ذلك ما أصاب الإنشاء (أو الترسل) لما أراد أصحابه الإكثار من تزيينه، ولم يكتفوا بالقدر اللازم، فأصبح كأن المراد به الزينة دون الفائدة، وانصرفت العناية إلى اللفظ دون المعنى، وتنافس الكتَّاب في ذلك بين جناس وبديع وسجع وإغراب في اللفظ حتى أصبح الترسل مغلقًا على غير المتبحرين. كما فعل عماد الدين الأصفهاني عمدة المنشئين في ذلك العصر، فإنه بالغ في التأنق حتى استخدمه في كتابه التاريخ، فضلًا عن الرسائل والخطب. وتراه ظاهرًا في كتابه الفتح القسي الذي أرخ فيه فتح صلاح الدين بيت المقدس، فإن في عبارته ما لا يحل إلا بالتأمل أو مراجعة المعاجم وهذا مثال منها: «ثم رحل من عسقلان للقدس طالبًا وبالعزم غالبًا، وللنصر مصاحبًا ولذيل العز ساحبًا، قد أصحب ريض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائج الرجاء، أرج الإرجاء، سيب العزف، طيب العرف، ظاهر اليد، قاهر الأيد، سنى عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملأ الملأ فأفاض الآلاء، وقد بسط عثير فيلقه ملاءته على الفلق، وكأنما أعاد العجاج رأد الضحى جنح الغسق، فالأرض شاكية من إجحاف الجحافل، والسماء حاظية بأقساط القساطل … إلخ.» وسيأتي ذكره بين المؤرخين، وقس عليه من عاصره أو نسج على منواله من المتأنقين في الإنشاء، لكن ذلك بحمد الله لم يتناول كتب العلم والتاريخ والأدب في هذا العصر إلا قليلًا.
القاضي الفاضل (توفي سنة ٥٩٦ﻫ)
ومن أئمة الإنشاء في هذا العصر القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي وزير السلطان صلاح الدين، كان سريع الخاطر حاضر البديهة حتى قيل: إن رسائله زادت على مائة مجلد لم يبقَ منها إلا نتف مشتتة في مكاتب أوربا الكبرى، وقد عاصر عماد الدين الأصفهاني وبينهما مراسلات كثيرة نحو ما تقدم مثاله من التسجيع والتنميق، وقد عرفت طريقة القاضي الفاضل في الإنشاء بالطريقة الفاضلية تحداها من جاء بعده من المنشئين، وفي المكتبة الخديوية كتاب خط قديم عنوانه رسائل إنشاء القاضي الفاضل كاتب الرسائل والإنشاء، فيها مراسلات للأصدقاء أو الأمراء في ١٨٨ صفحة، وفي كتب زكي باشا بالمكتبة المذكورة كتاب اسمه الدر النظيم في ترسل عبد الرحيم القاضي الفاضل، وقس على ذلك أكثر المنشئين يومئذ، على أن ذلك بعث أهل الأدب على انتقاد الإنشاء وأساليبه، ولنقد الإنشاء تاريخ يحسن إيراد ملخصه في هذا المقام.
نقد الإنشاء أو النقد البياني
أما نقد الإنشاء من حيث هو فن ذو قواعد فتصدى له الجرجاني الآتي ذكره في كتابه أسرار البلاغة في علم البيان، وهو واضع أساس هذا العلم في العربية على قواعد راسخة، قال في سبب ما بعثه على ذلك: إنه رأى فساد ملكة الإنشاء.
وانصراف الكتَّاب عن المعاني إلى الألفاظ فوضع كتابه المشار إليه في البلاغة، وتوسع فيه من جاء بعده من أئمة اللغة وأرباب البلاغة حتى صار الإنشاء علمًا يبحث فيه عن المنثور من حيث إنه بليغ وفصيح، ويشتمل على الآداب المعتبرة من العبارات المستحسنة واللائقة بالمقام، وموضوع علم البيان كما عرفه أصحابه «إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض.»
ويدخل في ذلك أيضًا انتقاد اللغة من حيث صيغ الألفاظ ومعانيها واستعمالها في أماكنها، وهو قديم أدركه أدباء العصر العباسي الأول فألقوا في لحن العامة والخاصة، أشهرهم أو عبيدة والسجستاني والمفضل بن سلمة والزبيدي والعسكري وغيرهم. ومن هذا القبيل درة الغواص في أوهام الخواص للحريري الآتي ذكره، والانتقادات اللغوية كثيرة منذ اشتغل العرب في تدوين لغتهم، وانتشب الجدال بين البصريين والكوفيين، وتصدى جماعة من العلماء لانتقاد المعاجم وغيرها من كتب اللغة مما يطول شرحه وسيأتي ذكره في مكانه.
وإنما نحصر الكلام الآن في البلاغة أو البيان، فالجرجاني واضع أسس هذا العلم ثم جاء السكاكي وغيره فتوسعوا فيه واستحسنه المنشئون وبالغوا في التنميق حتى صاروا إلى التكلف والتأنق، وتوسعوا في شرح قواعده وزادوا عليه حتى بلغ إلى ما نعرفه من أمره، ومن الكتب الوافية في علم البيان «المثل السائر» لضياء الدين بن الأثير الجزري الآتي ذكره، وقد توسع في أبواب البلاغة وشروطها وانتقادها من حيث الصناعة اللفظية والصناعة المعنوية، ثم ألف كثيرون في الإنشاء وانتقاده في سبيل علم البيان أو البلاغة أو في سبل أخرى، ولابن خلدون في مقدمته فصول في هذه المواضيع جزيلة الفائدة، وكلهم انتقدوا التسجيع إلا بشروط عينوها فوضعوا للبلاغة قواعد ترجع في الحقيقة إلى الذوق.