الإنشاء في النهضة الأخيرة
الأسلوب الإنشائي العصري
إن كلامنا عن الشعر فيما تقدم ينطبق على الإنشاء؛ لأنهما من باب واحد، فكان تأثير هذه النهضة عليهما على شكل واحد، ولعل هذا التأثير ظهر في الإنشاء أكثر من ظهوره في الشعر، نعني أن الكتَّاب أخذوا يعولون فيما يكتبونه على المعاني أكثر مما فعل الشعراء، وكان الإنشاء في أواخر العصر العثماني قد أصبح المعول فيه على الألفاظ بين سجع واستعارة وتورية وجناس، بحيث يتعذر عليك الوصول إلى المعنى؛ لما يتلبد حوله من الصور المبهمة. فلما أتتنا هذه المدنية بعلومها الطبيعية والرياضية المبنية على المشاهدة والاختبار، وتعوَّد الناس تقدير الوقت بتقريب المسافات، وأخذت الحرية في الشيوع — أصبح الأدباء ينفرون من استعمال ما لا حقيقة له، ويستنكفون من إضاعة الوقت في السجع البارد، أو تكرار الألقاب والنعوت لمجرد التفخيم، وهان عليهم العدول إلى الحقيقة بحيث يكون همُّ الكاتب موجَّهًا بالأكثر إلى المعنى المراد إيضاحه؛ فأخذت هذه الروح تسري بين الكتَّاب من أواسط هذا العصر، لكنهم لم يتفقوا على أسلوب واحد يتحدونه، فهم مجمعون على أن الطريقة المدرسية المشوشة — كما وصلت إلينا — لا تنفع لغموضها وطولها، فتركوها واختلفوا في الأسلوب الذي يعولون عليه فيما يلائم روح هذا العصر، فرجعوا إلى تحدي أساليب القدماء، فبعضهم تحدى أسلوب صدر الإسلام، وآخرون قلَّدوا أساليب صدر الدولة العباسية، ولا سيما أسلوب ابن المقفع — وهو الغالب على أقلامهم لسهولته ومتانته — على أن بعضهم يتوخى أسلوب ابن خلدون في مقدمته، وآخرون يقلدون الجاحظ أو غيره.
ذلك شأن الكُتَّاب المنشئين الذين يهمهم تنميق العبارة، ولا سيما في المواضيع الخطابية التي تحتاج إلى تقريع أو تهديد، أو إرهاب أو ترغيب، أما في المواضيع العمومية فقد نشأ في الإنشاء أسلوب عصري بسيط لا يرى أصحابه حاجة إلى تنميق العبارة، والتأنق في التركيب، وإنما يجعلون همهم إيضاح المعنى وإيصاله إلى ذهن القارئ بسهولة، وفيهم من يبالغ في إهمال الصناعة اللفظية، ولو أخلَّ بالإعراب واستعمل العامي من الألفاظ، وهذا غلو يُفسِد اللغة ويضيعها، فيجب مع توخي السهولة في الإنشاء المحافظة على قواعد اللغة وروابطها.
أساليب التأليف
- (١)
سلاسة العبارة وسهولتها بحيث لا يتكلف القارئ إعمال الفكرة في تفهُّمها.
- (٢)
تجنُّب الألفاظ المهجورة والعبارات المسجعة، إلا ما يجيء عفوًا ولا يثقل على السمع.
- (٣)
تقصير العبارة وتجريدها من التنميق والحشو؛ حتى يكون اللفظ على قدر المعنى.
- (٤)
ترتيب الموضوع ترتيبًا منطقيًّا في حلقات متناسقة يأخذ بعضها برقاب بعض، وتنطبق أوائلها على أواخرها.
- (٥)
تقسيم المواضيع إلى أبواب وفصول، وتصدير كل باب أو فصل بلفظ أو عبارة تدل على موضوعه.
- (٦)
تذييل الكتب بفهارس أبجدية تسهِّل البحث عن فروع الموضوع الأصلي، وقد يجعلون للكتاب الواحد عدة فهارس، واحد للمواضيع، وآخر للأعلام، وآخر لغير ذلك.
- (٧)
تنويع أشكال الحروف على مقتضى أهمية الكلام، فيجعلون للمتن حرفًا، وللشرح حرفًا، وللرءوس حرفًا.
- (٨)
تسمية الكتب باسم يدل على موضوعها، كتسمية كتاب تاريخ مصر بتاريخ مصر، وكتاب الكيمياء بالكيمياء، وكتاب النحو بالنحو، وأبطلوا التسجيع في أسمائها.
- (٩)
يزينون المؤلفات بالرسوم، ويضبطون الألفاظ بالحركات عند الاقتضاء.
- (١٠)
إذا أرادوا إسناد الكلام إلى كتاب أو كاتب أشاروا إلى ذلك في ذيل الصحيفة.
- (١١)
يفصلون الجمل بنقط أو علامات يدلون بها على أغراض الكاتب، كالوقف والتعجب والاستفهام أو نحو ذلك، وعلامات لحصر الجمل المعترضة، أو تمييز بعض الأحوال.
هذه أهم مميزات التأليف في هذه النهضة، وكان بعضها معروفًا من قبلُ، على أن كثيرين من كتَّابنا لا يزالون يقلِّدون القدماء في طُرُقهم.
التراكيب الأعجمية
- (١)
فلان كلاهوتي يقدر أن يؤثر كثيرًّا.
- (٢)
رأيت صديقي فلانًا الذي أعطاني الكتاب (أيْ فأعطاني).
- (٣)
رغمًا عن مساعيه الحميدة لم ينجح في عمله.
- (٤)
مستمدًّا العناية من الله أقف بينكم خطيبًا.
- (٥)
لعب فلان دورًا مهمًّا في هذه المسألة.
- (٦)
المعاهدة المصادق عليها من الدولة الفلانية.
- (٧)
إن الأمر الفلاني مضر بقدر وشرف ومالية فلان.
- (٨)
يوجد في بلاد الحجاز عدة جبال.
- (٩)
هذه المصيبة أعطته درسًا نافعًا.
غير ما دخل اللغة من الألفاظ الأعجمية أو العامية، وقد فصَّلنا ذلك في كتابنا تاريخ اللغة العربية.
لغة الدواوين
وهناك أسلوب من الإنشاء تطرَّق إلى اللغة في هذه النهضة، نعني أسلوب دواوين الحكومة المصرية المشهور بركاكته، ويرجع هذا الأسلوب في أصله إلى العصر العثماني؛ إذ بلغت مصر غاية الانحطاط في أحوالها الاجتماعية والسياسية والعلمية، فلم ينقضِ القرن الثامن عشر حتى أصبحت لغة الكتابة أشبه بلغة العامة مع ما يتخللها من الألفاظ الأعجمية، كما يظهر ذلك في إنشاء المؤلفين من أهل تلك الفترة كالجبرتي ومعاصريه، ولما جاء الفرنساويون مصر كان في حملتهم جماعة من التراجمة يتوسطون بينهم وبين الأهلين، ويترجمون لهم المنشورات والمراسلات، والظاهر أن هؤلاء التراجمة كان بعضهم من غير أبناء هذه اللغة، فإذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب أعجمي، وما لم يجدوا له لفظًا عربيًّا تركوه على لفظه الإفرنجي، أو وضعوا له لفظًا عاميًّا.
الإنشاء الصحافي
وهناك ضرب من الإنشاء اقتضته الحاجة إلى تفهيم العامة — نعني إنشاء الصحف — وقد تقلب على أطوار شتى، ومَن يطالع الصحف العربية ويقابل قديمها بحديثها، ينبسط لديه تاريخ الإنشاء الصحافي وتدرُّجه في الارتقاء، كان في أول أمره كما تقدم من ركاكة الإنشاء، ثم أخذ يتدرج في أسلوبه وألفاظه حتى صار إلى ما هو عليه الآن.
وللإنشاء الصحافي تاريخ طويل يقال في إجماله: إن أول مَن حسنه من رجال الصحافة الشيخ أحمد فارس الشدياق في الجوائب، والبستاني في الجنان، ولما زهت الصحافة في زمن إسماعيل خَطَا الإنشاء خطوة هامة على يد أديب إسحق، فإنه اتخذ أسلوبًا تحداه فيه الكتَّاب، ودخل الإنشاء روح سياسية حماسية بسبب الحركة السياسية الوطنية في أواخر أيام إسماعيل، وأوائل أيام توفيق، ولا سيما بعد نزول جمال الدين الأفغاني وادي النيل والتفاف الكتَّاب حوله، وارتقى الإنشاء خطوة أخرى في العصر الأخير باتجاه الخواطر إلى اللغة العربية والجامعة العربية، ونبغت طبقة بليغة من الكتَّاب الصحافيين المعاصرين، وصار الإنشاء الصحافي على إجماله واضحًا مقسَّمًا مبوَّبًا، خاليًا من المقدمات والخاتمات، بلا تسجيع ولا تورية أو تفخيم، وإليك أشهر الصحافيين في هذه النهضة.
الصحافيون بمصر والشام
- (١) أبو السعود توفي سنة ١٨٧٨ / ١٢٩٥ﻫ: هو عبد الله أبو السعود بن الشيخ عبد الله، وُلِد في دهشور سنة ١٨٢٠ / ١٢٣٦ﻫ، وأصله من جبال برقة، تفقه في المدارس التي أنشأها محمد علي، ثم أُلحِق بمدرسة الألسن سنة ١٢٣٩ﻫ على يد رفاعة بك الطهطاوي، وتقدَّم في سار العلوم اللغوية والرياضية والفقه؛ لأنه كان يحضر في الأزهر، وأتقن اللغة الفرنساوية والإيطالية، وأخذ في التعليم وتصحيح تراجم الكتب الرياضية وغيرها، وهو يرتقي في الرتب حتى تعيَّن في ترجمة ديوان المدارس، وفي أول ولاية سعيد باشا سنة ١٢٧٠ﻫ جُعِل رئيس قلم عرضحالات بالمالية، وصار في زمن إسماعيل ناظر قلم ترجمة ديوان المدارس، وعلَّم التاريخ بدار العلوم الخديوية، ثم تعيَّن من أعضاء مجلس الاستئناف إلى أن توفي سنة ١٢٩٥ﻫ، وهو أول من أنشأ صحيفة سياسية عربية غير رسمية بمصر — نعني جريدة «وادي النيل» كما تقدَّم — واشتغل بنقل الكتب عن الإفرنجية، وألَّف كتبًا مفيدة، وهاك أهم آثاره:
- (أ)
نظم اللآلي في السلوك في مَن حكم فرنسا من الملوك: طُبِع بمصر سنة ١٢٥٧ﻫ، وفي ذيله جدول لمقابلة تاريخ الهجرة مع تاريخ الميلاد من أول الهجرة إلى سنة ١٣٠٠ﻫ.
- (ب)
الدرس التام في التاريخ العام: طُبِع بمصر سنة ١٢٨٩ﻫ.
- (جـ)
قناصة أهل العصر في خلاصة تاريخ مصر (القديم): أصله تأليف ماريت باشا بالفرنساوية، ونقله أبو السعود إلى العربية بأمر نظارة المعارف، طُبِع سنة ١٢٨١ﻫ.
- (د)
ديوان شعر طُبِع بمصر، وفيه كثير من المنظومات المولَّدة كالموالي والموشحات.
- (هـ)
أرجوزة في سيرة محمد علي في نحو ألف بيت.
- (و)
منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ مصر: لخصه عن الجبرتي.
- (ز)
قانون المحاكمات: ترجمة عن الفرنساوية والإيطالية، طُبِع بمصر سنة ١٢٨٣ﻫ في مجلدين، وله ترجمات أخرى جاء ذكرها في مكان آخر.
- (أ)
- (٢) رزق الله حسون الحلبي توفي سنة ١٨٨٠ / ١٢٩٨ﻫ: أصله أرمني فارسي، وُلِد في حلب سنة ١٨٢٥، وتفقه في دير بزمار (لبنان) في العلوم الدينية، ثم أتقن اللغات الفرنساوية والتركية والأرمنية والعربية والرياضيات، وكان قوي الحافظة، ثم عاد إلى حلب، وتعاطى التجارة حينًا ونفسه تتطلب العلى، فرحل إلى أوربا وطاف عواصمها، واستنسخ بعض الكتب من مكاتبها الشرقية، وجاء الأستانة، واتصل بخدمة الحكومة، وكان بينه وبين معاصريه من الأدباء مساجلات، ثم نشبت حرب القرم بين روسيا والدولة فأنشأ سنة ١٨٥٥ «مرآة الأحوال» في الأستانة، وهي أول جريدة عربية غير رسمية في العالم كله، وصف فيها حرب القرم فذاعت شهرته، فلما جاء فؤاد باشا سوريا على أثر حوادث سنة ١٨٦٠ جاء معه رزق الله لترجمة المناشير والأوامر، وعاد معه إلى الأستانة، ثم رافقه إلى لندن ورجع معه، وتولى نظارة الجمرك في الأستانة، فاتُّهِم بالاستيلاء على أموال الجمارك وسُجِن مع آخرين، ثم فر إلى روسيا، وحمل على الحكومة العثمانية في الجرائد، ونزل لندن فأعاد مرآة الأحوال للشكوى من عمال الحكومة، وكان يكتبها بخطه، ويطبعها على الحجر سنة ١٨٧٧، وأصدر أيضًا مجلة عربية سمَّاها «رجوم وغساق إلى فارس الشدياق»، وأصدر مجلة أخرى شعرية في لندن سنة ١٨٧٩، وكانت نزعته السياسية انتقاد عمال الدولة وطلب إصلاحها، ثم انقطع إلى نسخ الكتب، وتصحيح حروف الطباعة العربية في أوربا، وهذه آثاره:
- (أ)
النفثات: تعريب قصص حكيمة لكريلوف الروسي وغيره، طُبِعت في لندن سنة ١٨٦٧.
- (ب)
أشعر شعر: نظم سفر أيوب، ونشيد الأناشيد، وسفر الجامعة، ومراثي أرميا، وغيرها، طُبِع في بيروت سنة ١٨٧٠.
- (جـ)
السيرة السيدية: شرح الأناجيل الأربعة، طُبِع في بيروت.
- (د) رسائل في الطباعة العربية، وكتاب المشمرات وحسر اللثام، وغيرها.٢
- (أ)
- (٣) سليم البستاني اللبناني توفي سنة ١٨٨٤ / ١٣٠٢ﻫ: نعني سليم بن بطرس البستاني الآتي ذكره بين أصحاب الموسوعات، وكان سليم عونًا كبيرًا لأبيه في مشروعاته العلمية في إدارة المدرسة، وتحرير الجنان، وإدارة المطبعة، وكان قلمه سيالًا ولا سيما في المواضيع الصحافية، ويكتب في الجنان على الخصوص المقالات الضافية في السياسة والاقتصاد والأدب، ولا يخلو عدد منه من مقالة افتتاحية سياسية بقلمه، وقد ألَّف عدة روايات تمثيلية وقصصية أكثرها نُشِر في الجنان، كرواية الإسكندر، وقيس وليلى، والهيام في جنان الشام، وزينوبيا وغيرها، وترجم تاريخ فرنسا الحديث، وجاء مصر مرتين في سبيل مشاريع أبيه، وعاد مزوَّدًا بمكارم الخديوي إسماعيل ماديًّا وأدبيًّا في تعضيد الأدب، وتوفي بعد وفاة أبيه بقليل.
- (٤) أديب إسحق الدمشقي توفي سنة ١٨٨٥ / ١٣٠٣ﻫ: وُلِد في دمشق سنة ١٨٥٦، وتعلم في مدرسة العازاريين، وظهرت قريحته وهو غلام فعكف على النظم، واضطر للخدمة في سبيل الرزق، فاستُخْدِم في الجمرك مدة تعلَّم في أثنائها اللغة التركية؛ فبعثت إلى ارتقائه، وهو لا ينفك عن المطالعة والتوسع في الأدب ولم يتجاوز الخامسة عشرة، واستقدمه والده إلى بيروت ليساعده في خدمة البريد، فعرف فيها جماعة من الأدباء، وأخذ يكتب في الجرائد، فظهرت قريحته الإنشائية التي اشتهر بها بعد ذلك، وبدأ بتأليف الروايات التمثيلية أو تعريبها مع صديقه سليم نقاش.وانتقل إلى مصر في زمن الخديوي إسماعيل نصير الأدب وأهله، واجتمع فيها بجمال الدين الأفغاني، فاستفاد من نزعته السياسية، ودخل في جملة الداخلين في الحركة الوطنية، وأصدر جريدة مصر، فأعجب الناس بإنشائها، وأصبحوا يتحدثون بأسلوب أديب من ذلك الحين، وأحست الحكومة بما كان من تأثير جريدة مصر في النفوس فأقفلتها، فذهب إلى باريس وأصدرها هناك، وسمَّاها مصر القاهرة، فأثَّر برد باريس في صحته فعاد إلى بيروت مصدورًا، ثم جاء مصر سنة ١٨٨١ قبل الثورة العرابية، فتعيَّن رئيسًا لقلم الإنشاء في نظارة المعارف، وأعاد جريدة مصر، ولما أنشئ مجلس النواب تعيَّن كاتبًا فيه، ثم انفجرت الثورة فعاد إلى بيروت، وما زال يعالج الداء حتى مات سنة ١٨٨٥ وعمره ٢٩ سنة، وقد جُمِعت نخبة أقواله وأشعاره ومؤلفاته في كتاب سموه «الدرر» طُبِع غير مرة.٣
- (٥) سليم وبشارة تقلا اللبنانيان توفي سليم سنة ١٨٩٢ / ١٣١٠ﻫ: هما من مؤسسي الصحافة المصرية، وُلِد سليم في كفر شيما (لبنان) سنة ١٨٤٩، وتعلم مبادئ العلم في مدرسة القرية، ثم في عبية، فلما حدثت مذابح سنة ١٨٦٠ في لبنان انتقل مع أهله إلى بيروت، ودخل المدرسة الوطنية للبستاني وهو لا يستطيع دفع راتبها، فكان يشتغل فيها بما يقوم مقام ذلك الراتب، ونبغ حتى تعيَّن معلمًا في المدرسة البطريركية، ولم تقنع نفسه بذلك، وسمع بتقريب إسماعيل لرجال الأقلام، فرحل مع أخيه بشارة إلى مصر، وأنشأ جريدة الأهرام سنة ١٨٧٥ أسبوعية٤ بالإسكندرية، ثم جعلاها يومية، وقد قاسَيَا في سبيل نشرها مشقات هائلة؛ لأن الناس لم يألفوا مطالعة الجرائد، لكنهما ثبتا في العمل وهي تزداد انتشارًا ونفوذًا وتقدُّمًا، والرتب تتوالى على صاحبيها.ولما توفي سليم سنة ١٨٩٢ استقل بشارة بها، ونقلها إلى القاهرة، وتوفي بشارة سنة ١٩٠١ فصارت إلى نجله جبرائيل، ولا تزال تصدر إلى الآن.٥
- (٦) يوسف الشلفون اللباني توفي سنة ١٨٩٦ / ١٣١٤ﻫ: وُلِد سنة ١٨٣٩ وعائلته من أقدم عائلات لبنان المارونية، وكان جده حاكمًا على ساحل لبنان في زمن الأمير بشير الثالث، وكان أول عهده بالصحافة أنه اشتغل بترتيب الحروف في مطبعة خليل الخوري صاحب حديقة الأخبار، وتعلَّم فن الطباعة واشتغل بها حينًا، ثم أنشأ مطبعة لنفسه، وعني في أثناء ذلك بإنشاء الصحف، فأنشأ الشركة الشهيرة سنة ١٨٦٦، والزهرة سنة ١٨٧٠، والنجاح سنة ١٨٧١، والتقدم، وهذه الأخيرة حرَّر فيها نخبة من الكتَّاب منهم أديب إسحق، وكلها تعطلت.
- (٧) حسن حسني الطويراني توفي سنة ١٨٩٧ / ١٣١٥ﻫ: يتصل نسبه بأمير من أمراء الأتراك في مكدونية، وُلِد في القاهرة سنة ١٨٥٠، وأقام في الأستانة مدة أنشأ فيها عدة جرائد ومجلات، ثم جاء القاهرة وأنشأ جرائد أخرى تعطلت كلها الآن، وألَّف كتبًا كثيرة بالعربية والتركية تُعَدُّ بالعشرات، نشر كثيرًا منها في مجلاته وجرائده، وكان كثير النظم سريع الخاطر، وله عدة دواوين لكل منها اسم، منها: ثمرات الحياة في مجلدين، وشطحات قلم، وطوالع الآمال، وغير ذلك، ونال رتبة أمير الأمراء (باشا)، وتوفي بالأستانة سنة ١٨٩٧ / ١٣١٥ﻫ، وكان واسع الاطلاع في تاريخ الدولة العثمانية وأحوالها.٦
- (٨) إبراهيم المويلحي المصري توفي سنة ١٩٠٦ / ١٣٢٣ﻫ: هو من أكابر أئمة الإنشاء الصحافي، يرجع بنسبه إلى عائلة وجيهة خدمت الأسرة الخديوية في زمن محمد علي. نشأ إبراهيم في أول أمره تاجرًا مثل أبيه، فخسر ثروته بالمضاربة، فوهبه إسماعيل باشا مالًا استرجع به تجارته، وعيَّنه عضوًا في مجلس الاستئناف، ثم استقال وتقلَّب في مناصب أخرى ونفسه جانحة إلى الأدب والشعر، واشترك مع آخرين في تأسيس جمعية المعارف لنشر الكتب النافعة كما تقدَّم، وأنشأ مطبعة لطبع تلك الكتب سنة ١٢٨٥ﻫ، ثم أنشأ جريدة نزهة الأفكار لم يصدر منها إلا عددان، وتردد إلى الأستانة مرارًا، وله شئون مع رجال حكومتها ورجال ما بينها يطول ذكرها، لكنه كان ميَّالًا بالأكثر إلى تحرير الجرائد بأسلوب من الإنشاء العصري عُرِف به، ولا سيما بعد أن طال اختباره رجال الدولة، وآخر جرائده «مصباح الشرق» كانت أسبوعية، لكن الأدباء كانوا يشتاقون لمطالعتها لحسن أسلوبها الإنشائي السياسي العمراني، وقلَّده فيه كثيرون كما قلَّد آخرون أسلوب أديب، وما زالت المصباح تصدر إلى وفاته، وله مقالات سياسية اجتماعية اسمها «ما هنالك» طُبِعت في كتاب ليس عليه اسمه، وصف بها حال الأستانة والمابين ورجاله قبل الدستور.٧
- (٩) سليم عباس الشلفون البيروتي توفي سنة ١٩١٢ / ١٣٣٠ﻫ: هو من أشهر صحافيي سوريا، وأكثرها اشتغالًا في الصحافة، فقد حرر في بضع عشرة صحيفة في سوريا ومصر، ولقي بلاء من تقلبات السياسة بمصر في أثناء الحوادث العرابية، فارتحل إلى أوربا والأستانة ثم عاد إلى بيروت، واشتغل ١٨ سنة في تحرير جريدة بيروت، ثم غيرها، وتوفي وهو من محرري لسان الحال.
- (١٠) الشيخ علي يوسف المصري توفي سنة ١٩١٣ / ١٣٣١ﻫ: هو مؤسس الصحافة الإسلامية العصرية بمصر، نعني تأسيس جريدة المؤيد أشهر الجرائد الإسلامية، وأوسعها انتشارًا في أنحاء العالم الإسلامي، وقد تقدَّم في كلامنا عن الصحافة العربية ما نشأ من الشعور الوطني في عهد الاحتلال، وانقسام الكتَّاب إلى أحزاب وطنية واحتلالية وغيرها، وكان الشيخ علي ميَّالًا إلى الصحافة، وقد أنشأ مجلة الآداب سنة ١٨٨٥ بالاشتراك مع الشيخ أحمد ماضي، واتفق ظهور جريدة المقطم سنة ١٨٨٩ — وخطتها احتلالية — فأحس أدباء المصريين بحاجتهم إلى جريدة تمهِّد السبيل إلى إنقاذ مصر من الاحتلال، فوقع اختيارهم على محرري الآداب، فأصدروا المؤيد فنصرهما الوطنيون ماديًّا وأدبيًّا، لكن نصرتهم لم تمنع من قيام العقبات، وبعد قليل توفي الشيخ أحمد ماضي، واستقل الشيخ علي بالمؤيد، وثبت في تأييده، بذل في ذلك ما لا يقدر عليه رجل واحد، حتى بلغ ما بلغ إليه من الشهرة والنفوذ وسعة الانتشار في العالم الإسلامي، وخطته الدفاع عن الإسلام وحقوق المسلمين حيثما كانوا. ونال الشيخ علي من المنزلة الرفيعة ما ليس بعده غاية لمثله، فصار من خاصة القوم المقرَّبين من العرش الخديوي، وولاه سُمُوُّه مشيخةَ السجادة الوفائية.٨
ويضيق المقام عن ذكر كل من اشتغل بالصحافة، فإنهم يُعدون بالمئات، وبعضهم يجيء ذكرهم في الأبواب الأخرى، وأكثرهم لم يكن لاشتغالهم تأثير في الصحافة يستحق الذكر، ومن أراد التفصيل فَلْيطالع كتاب الصحافة العربية للكونت دي طرازي في بيروت، فإنه لم يغادر صحيفة من الصحف العربية إلا وفَّاها حقها من الشرح، وترجم صاحبها.
ونشأ في مصر وغيرها طبقة من الصحافة في اللغة العامية، أقدمها جريدة أبو نضارة التي كانت تصدر بمصر في زمن إسماعيل لصاحبها يعقوب صنوع المتوفى في باريس سنة ١٩١٢، فإنه انتقل بها إلى باريس، وأنشأ هناك سلسة جرائد هزلية بلغة عامية ذكرها صاحب الصحافة العربية (صفحة ٢٨١ ج٢)، ولا فائدة من ذكرها هنا.
وتوالى إنشاء الصحف العامية في مصر، أو الفصول الهزلية في قالب الجد، وكان عبد الله نديم أكثر الكُتَّاب عملًا في ذلك في التنكيت والتبكيت وفي الأستاذ وغيرهما، وصدرت جرائد هزلية أخرى في بيروت وغيرها.