الطباعة العربية
الطباعة على الإجمال قديمة جدًّا، والمشهور أن الصينيين أقدم من طبع على الحجر أو الخشب المحفور، وهي أقدم طرق الطباعة، وعثروا في آثار بابل على قوالب بارزة الحروف، كان الكلدانيون يطبعونها على الآجر وهو لين، ويغلب أن يفعلوا ذلك فيما يريدون نشره من أوامر الحكومة، فيطبعون منه نسخًا عديدة، فالشرقيون أسبق الأمم إلى هذا الفن، وجاء في بعض الآثار ما يُستدَل منه على أن عرب الأندلس كانوا يعرفون الطباعة، لكنها طباعة على الحجر أو الخشب. وأما الطباعة بالحروف المتفرقة التي تجمع منها الكلمات على نحو ما هو شائع اليوم، فلم تكن معروفة قبل القرن الخامس عشر للميلاد، والمشهور أن صاحب هذا الاختراع غوتنبرج الألماني، وأول كتاب طُبِع فيه التوراة سنة ١٤٥٠ للميلاد، ثم شاع اختراعه هذا في أوربا، وحسنوا فيه حتى بلغ ما هو عليه الآن.
(١) الطباعة العربية في أوربا
(٢) الطباعة في الأستانة
أما في الشرق فأسبق الأمم إلى الطباعة العربية السوريون؛ لأنهم أقدم من طبع الكتب العربية بالأحرف العربية في أوائل القرن الثامن عشر كما سيجيء، أما الطباعة من حيث الفن، فأسبق مدائن الشرق إلى إحرازها الأستانة؛ لأن الطباعة وُجِدت فيها في أوائل القرن السادس عشر، وقد طُبِعت فيها التوراة العربية ترجمة سعيد الفيومي سنة ١٥٥١ بالأحرف العبرانية. أما الطباعة بالأحرف العربية، فلم تدخل الأستانة إلا في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، وأول من فكَّر في ذلك محمد چلبي، وابنه سعيد.
ثم أنشئت مطابع أخرى في الأستانة طبعت كتبًا عربية، ومن أشهر مطابع الأستانة مطبعة الجوائب لأحمد فارس الشدياق، تأسست في أواسط القرن الماضي، ونشرت عشرات من الكتب العربية الهامة، فضلًا عن جريدة الجوائب.
(٣) الطباعة في سوريا
قد تقدَّم أن السوريين أسبق المشارقة إلى الطبع بالأحرف العربية، وأسبق مدائنها إلى هذا الفضل حلب؛ فقد ظهرت الطباعة فيها في أوائل القرن الثامن عشر، وطُبِع أول كتاب في العقد الأول من القرن المذكور، وقد كتب إلينا جورج بك خياط المحامي في حلب أن عنده نسخة من كتاب طقسي كنسي مطبوع في حلب باليونانية والعربية سنة ١٧٠٢، ثم طبع الإنجيل فيها سنة ١٧٠٦، قال: «وقد صنع أمهات هذه الطبعة العربية واليونانية الشماس عبد الله زاخر الحلبي، وكان صائغًا ماهرًا يحب الأدب والعلم»، وجاء في المشرق (ص٦٩١ سنة ٧) «أن الفضل الأول في إنشاء هذه المطبعة للبطريرك إثناسيوس الرابع، فإنه استجلب أدواتها من بلاد الفلاخ التي دخلها سنة ١٦٩٨، فلما عاد إلى حلب سعى في سكب حروف جديدة»، فلعله استخدم عبد الله زاخر لهذه الغاية.
ثم ظهرت المطابع في لبنان، ومن أقدم مطابعه مطبعة قزحيا، وكانت أحرفها سريانية ثم صارت عربية، وأكثر مطبوعاتها دينية، ومطبعة الشوير أسسها عبد الله زاخر المتقدم ذكره، طبع فيها المزامير سنة ١٧٣٣، وأكثر مطبوعاتها من كتب الدين.
ثم ظهرت الطباعة في بيروت بأواسط القرن الثامن عشر، وأقدم مطابعها مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، أنشئت سنة ١٧٥٣ بسعي الشيخ نقولا يونس الجبيلي المعروف بأبي عسكر، وقد طبعت كثيرًا من كتب الأدب والتاريخ، وقد أبطلت الآن.
تليها المطبعة الأميركية للمرسلين الأميركان، أُنشِئت في مالطة سنة ١٨٢٢، ثم نُقِلت إلى بيروت سنة ١٨٣٤، ولا تزال عامرة، وفيها طُبِعت الكتب العلمية والطبية والرياضية، وغيرها مما ألَّفه أو ترجمه أساتذة المدرسة الكلية لتعليم طلبتها، وطبعت بعض كتب الأدب والشعر والتاريخ، فضلًا عن التوراة وكتب الدين، ولها قاعدة للحروف العربية خاصة بها تُعرَف بالقاعدة الأميركية اصطنعها المرسلون الأميركان.
ثم المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، تأسست سنة ١٨٤٨، وكانت تطبع على الحجر، ثم صارت تطبع على الحروف سنة ١٨٥٤، ولا تزال عامرة، ولها فضل كبير في نشر كتب الأدب والتاريخ واللغة العربية، فضلًا عن الكتب المدرسية والدينية، ولا سيما التوراة ترجمة الآباء اليسوعيين، وهي أكبر المطابع العربية في سوريا وأتقنها، وفيها حروف عربية وإفرنجية ويونانية وسريانية وعبرانية وأرمنية، وقد صنعت قواعد للحروف العربية خاصة بها.
وبعدها المطبعة السورية للمرحوم خليل الخوري صاحب حديقة الأخبار، أنشئت سنة ١٨٥٧، وقد نشرت كتبًا قانونية وأدبية وتاريخية، تليها مطبعة المعارف للبستاني سنة ١٨٦٧ نشرت محيط المحيط، ودائرة المعارف والجنان والجنة، ومطبعة ثمرات الفنون، وقد أُقفِلتا الآن. والمطبعة الأدبية لخليل سركيس أنشئت سنة ١٨٧٤، نعني مطبعة لسان الحال، ولا تزال عامرة تطبع الصحف والكتب، وفيها مسبك حروف تعرف حروفه باسم سركيس، صنع قاعدتها الشيخ إبراهيم اليازجي، وهي القاعدة الشائعة اليوم في سوريا ومصر تُطبَع بها أكثر الصحف والكتب.
ويضيق المقام عن تعداد المطابع التي ظهرت في بيروت، وغيرها من المدائن السورية في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن على أثر إعلان الدستور، فإنها تعد بالعشرات، وبينها مطابع كبرى عامرة، وإنما غرضنا بيان كيفية نشوء الطباعة العربية في سوريا.
(٤) الطباعة في مصر
(٤-١) مطبعة بونابرت
(٤-٢) الطباعة في عهد الدولة المحمدية العلوية
المطابع الأميرية (مطبعة بولاق)
أقام (مسابكي) في ميلانو أربع سنوات، ليس للوقوف على فروع فن الطباعة، ولكن لصنع أمهات الحروف وسبكها. ولما رجع لمصر اشتغل أولًا في جمع طاقم من الحروف العربية والتركية، وفي تدريب العمال، وكان الباشا قد أمر بتعليم بعض شبان المسلمين بالأزهر إتقان قراءة اللغتين العربية والتركية بسرعة وضبط، فقضوا بذلك ست سنوات، وكانوا من المتفقهين، فعُيِّنوا بعدئذٍ من المحرِّرين بالمطبعة.
وجاءوا من ميلانو بثلاثة مكابس مثل مكابس المطبعة الملوكية، وكانوا يستحضرون الورق والحبر من إيطاليا عن طريق ليفورن، ثم أخذوا يصنعون الحبر في القاهرة، وكان بالمطبعة حروف إيطالية ويونانية مصنوعة في ميلانو فضلًا عن العربية والتركية، وكانت أشكال الحروف العربية ثلاثة، والإيطالية اثنين، وعدد الصفيفة الأتراك ١٢ ليس بينهم إلا واحد للشكل الإيطالي، وآخر لليوناني، ورئيس العمال ألماني، أما مدير المطبعة فهو نقولا مسابكي، وكانوا يطبعون الأشغال الخاصة بمصالح الحكومة، وطبعوا أيضًا رسالة التعليم الحربي للجنود المقيمين بالوجه القبلي المراد تدريبهم على النظام الحديث باللغة التركية؛ لأن الضباط كانوا من العثمانيين.
ثم طبعوا أجرومية باللغة العربية الفصحى لأحد العلماء بالقاهرة، ورسالة الفنون الحربية مترجمة عن الفرنسية إلى التركية بقلم شاني زاده، وكتاب في الصباغة تُرجِم من الإيطالية، وقاموس إيطالي عربي، وهو أول ما طُبِع ببولاق سنة ١٨٢٢، وسيرة الإسكندر الأكبر مترجمة من اليونانية إلى التركية ا.ﻫ.
واطَّلعنا في مكتبة محمد بك آصف بمصر على كتاب في صباغة الحرير تأليف ماكيرو، طُبِع بالفرنساوية في باريس سنة ١٨٠٨، وقد عرَّبه القس روفائيل راهب، وطُبِع في بولاق سنة ١٨٢٢ / ١٢٣٨ﻫ، وفي آخره تاريخ الطبع بحساب الجمل في شطر هذا نصه: «بمطبعة يكتب للوزير» (١٢٣٨ﻫ)
ففي المطبعة الآن ٣٩ آلة للطباعة، تختلف حجمًا وقوة بين ما يدور ٧٠٠ دورة في الساعة إلى ٤٠٠٠ دورة، ومنها آلة لطبع الظروف تدور ٦٠٠٠ دورة، وفي المسبك ٣٣ آلة بين مكابس وقوالب وأفران لسبك الحروف، ونقش الصور أو الرسوم، وصنع الأمهات، غير ورشة خاصة لصب الملازم (الفرم)، أي جعل الصحائف قطعة واحدة لما يراد أن يطبع منه مقادير كبيرة. وفي معمل التجليد ٦٨ آلة بين مكابس، وعُدَد للقص والتخريم والتوضيب والحبك والحزم والخياطة والتذهيب والتصميغ والدهان والكبس وغيرها، ومعمل جمع الحروف قسمان: أحدهما للحروف العربية، والآخر للإفرنجية، وفيه أتقنُ العُدَد على آخِر طرز، منها ما يشتغل باليد، ومنها بالآلات، وجميع هذه العُدَد تدور بالكهربائية بواسطة أربعة وابورات، قوتها جميعًا ١٤٠ حصانًا، ولإدارة هذه الوابورات معمل قائم بنفسه يتبعه أماكن للبرادة والحدادة والنجارة، وهذه كلها في القسم الفني من المطبعة.
أما قسم الإدارة فإنه مؤلَّف من عدة مكاتب للإدارة والنشر والحسابات وغيرها، وفي مطبعة بولاق ٦٠٠ عامل، منهم مئة موظف داخل الهيئة، و٥٠٠ عامل بالأجرة اليومية، وتقسم مطبوعاتها إلى أميرية وغير أميرية، وقد صدر منها ما لا يُحصَى من الكتب الهامة.
وكان في طُرَا بجوار القاهرة مطبعة اسمها مطبعة الطوبجية، رأينا كتابًا مطبوعًا فيها سنة ١٨٣٤ / ١٢٥٠ﻫ، وهي مطبعة أميرية أيضًا، غير مطبعة أبي زعبل المتقدم ذكرها، وسائر ما أنشأه محمد علي من مطابع الحجر وغيرها؛ تلبية للحاجة في الجيش وغيره.
المطابع غير الأميرية
ظلت مصر وليس فيها غير مطبعة بولاق وغيرها من المطابع الأميرية نحو أربعين سنة، لم يقدم في أثنائها أحد على إنشاء مطبعة غير أميرية، وأول مَن تصدَّى لذلك الأنبا كيرلس الرابع بطريرك الأقباط ورافع لواء الإصلاح القبطي المتوفى سنة ١٨٦١، فقد كان من الراغبين في المدنية الحديثة، وكان من جملة مساعيه في هذا السبيل إنشاء المطبعة، فكلَّف روفائيل عبيد السوري (صاحب المدرسة العبيدية) أن يستحضرها له من أوربا، واختار أربعة من شبان الأقباط استأذن سعيد باشا والي مصر يومئذٍ أن يسمح بقبولهم في مطبعة بولاق ليتعلموا فن الطباعة، فوصلت المطبعة سنة ١٨٦٠ واحتفل هذا البطريرك باستقبالها عند وصولها استقبالًا مشى فيه المشامسة بالشموع وتحدَّث الناس به مدة، وسماها المطبعة الأهلية القبطية، وتولى إدارتها بعده رزق بك جرجس، وطبع فيها كتبًا دينية وأدبية، ثم انتقلت إلى أخيه إبراهيم جرجس، وعُرِفت بمطبعة الوطن، ولا تزال باقية.
ثم أنشئت مطابع أهلية لم نقف على تاريخها، أقدمُها مطبعة وادي النيل سنة ١٨٦٦ / ١٢٨٣ﻫ، كانت تطبع فيها صحيفة وادي النيل لصاحبها أبي السعود أفندي، وطُبِعت فيها أيضًا نشرة أركان حرب الجيش المصري، ومجلة روضة المدارس، وتكاثرت المطابع في زمن إسماعيل، ومن أقدمها مطبعة جمعية المعارف الآتي ذكرها بين الجمعيات.
وتعددت المطابع على الخصوص في عهد الخديوي الحالي، ولا سيما في أوائل هذا القرن على أثر إطلاق حرية المطبوعات، حتى أصبحت المطابع لا تُعَدُّ ولا تحصى، وأكثرها أنشئت لطبع الصحف السياسية أو العلمية، وقليل بينها لطبع الكتب على نفقتها، على أن جانبًا منها أنشئ للاتجار بطبع الكتب القديمة في العلوم الرائجة، وأكثر طبعاتها رخيصة.
وانتشرت الطباعة في سائر أنحاء القطر بانتشار الصحافة، فمنها مطابع الآن في الإسكندرية وبورسعيد وطنطا وأسيوط والمنصورة وغيرها يضيق المقام عن ذكرها؛ لأننا إنما أردنا أن نبيِّن كيف نشأت الطباعة بمصر.