الحرية الشخصية
الحرية الشخصية من مميزات هذه المدنية، وقد كان لها تأثير كبير على آداب اللغة؛ لأنها صورة من صور النفس. كان العرب من أكثر الأمم حرية واستقلالًا في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، يشهد بذلك تاريخهم في صدر دولتهم، ثم ذهبت تلك الأنفة، وماتت الحرية بتوالي الظلم والعسف في الأجيال الإسلامية الوسطى، فأقبل القرن التاسع عشر والعامة يُساقون كالأنعام لا إرادة لهم ولا حرية ولا رأى، فلما أخذنا بأطراف هذه المدنية، وأساسُها رفعُ شأن العامة ومساواةُ الناس في الحقوق والواجبات على اختلاف طبقاتهم، كانت الحرية الشخصية في جملة ما اقتبسناه.
وزاد انتشار هذه الروح في سوريا بعد حوادث سنة ١٨٦٠ لزيادة الاختلاط بالأجانب، ولا سيما الفرنساويين، ومطالعة كتبهم، وخصوصًا ما يتعلق باستقلالهم وثورتهم، وأحوال الدولة العثمانية في أثناء ذلك تزداد اضطرابًا وفسادًا، فأبى الأحرار الصبر على الضيم فعمدوا إلى المهاجرة، وأكثر المهاجرين من المسيحيين؛ لأنهم أكثر احتكاكًا بالأجانب، وأقدر على الاختلاط بهم، وأوسع اطلاعًا على آدابهم، ومَكَّن هذه الروح في نفوس العرب انتشارُ العلوم الطبيعية بعد نقل العلم؛ لأنها مبنية على الحقائق المحسوسة.
على أن هذه الروح الحرة اتخذت سبيلًا آخر في بعض الأحوال، فحلت قيود العقل، وصارت إلى الرغبة في التخلص من التقاليد والعادات الضارة، وظهر غير واحد من طلاب الإصلاح السياسي أو الديني أو الاجتماعي في العالم العربي العثماني، فآل الإصلاح السياسي إلى قلب الحكومة العثمانية من الاستبداد إلى الدستور، ونصراء هذا الإصلاح منا كثيرون، أشهرهم البرنس مصطفى فاضل باشا المصري، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وخليل غانم، وأمثالهم، وأشهر نصراء الإصلاح الاجتماعي الشيخ محمد عبده المصري وقاسم أمين، وسنعود إليهم في مكان آخر.
واتخذت هذه الروح نهجًا آخر من حيث العلم، ولا سيما بعد شيوع مذهب النشوء والارتقاء في النصف الثاني من القرن الماضي، فتنبهت الأذهان إلى حرية البحث، وتعليل الحوادث كما تنجلي للعقل، فأخذت آثار ذلك تظهر على أقلام الكتَّاب في أي موضوع كتبوا فيه — إلا المحافظين على القديم، المتشبثين بآراء أهل القبور.
ومن أكبر العوامل في نشر روح الحرية والاستقلال المدارسُ الأميركية في سوريا، وخصوصًا الكلية الأميركية في بيروت؛ فإنها بثَّت هذه الروح في الناشئة السورية، وعلمتهم الاعتماد على أنفسهم، والمطالبة بحقوقهم، والتفكير بلا قيد، وظهرت ثمار هذه التربية في أبناء الكلية سنة ١٨٨١؛ إذ نهض تلاميذ القسم الطبي لمطالبة الأساتذة بحقوق مدرسية، فلم تنصفهم لأسباب عارضة، وكان لهذه الحادثة دوي في سوريا وغيرها، فأدى ذلك إلى مهاجرة بعض أولئك المطالبين إلى مصر وغيرها.
ويتبع الحرية الشخصية رفع شأن المرأة، فإنها لم تنَلْ من الحرية والاستقلال والحقوق الاجتماعية ما نالته في هذا العصر، فتحرَّرت كما تحرَّر العامة، وصار لها شأن ورأي نحو ما كانت عليه في الجاهلية وصدر الإسلام، وكانت قد انحط شأنها في القرون المظلمة حتى صارت كالمتاع لا صوت لها ولا رأي، وأحاطت بها الشكوك، وأصبح دأب الرجل سوء الظن بها، حتى وضعوا الكتب ونظموا القصائد في تحقيرها وتقبيح آرائها، وأمروا بحبسها والتضييق عليها، فأُطلِق سراحها في هذا العصر، وأخذت في طلب العلم، ونبغت غير واحدة منهن في العلم والأدب، فأنشأن المجلات العلمية والجرائد السياسية والجمعيات الأدبية، وألَّفن الكتب، ووقفن للخطابة، ونبغت منهن الطبيبات، وأخذن في طلب علم الحقوق، والمسيحيات أسبق إلى ذلك؛ لأنهن أكثر اختلاطًا بأسباب هذه المدنية، على أن هذه الروح دبَّت في المسلمين أيضًا، ونبغ من بناتهم خطيبات وعالمات وكاتبات، وأنشأن الجمعيات.
وترتب على هذه الروح أيضًا تحوُّل طريقة الارتزاق بالأدب عما كانت عليه من قبلُ، كان الأديب أو الشاعر أو المؤلف قبل هذه النهضة ينظم أو يؤلف ليرضي نفسه وميله، أو ليهدي مؤلَّفه إلى أمير أو صديق، فأصبح الأدب الآن صناعة أو تجارة يرتزق أصحابها بإقبال الجمهور مثل سائر الصناعات المعاشية بسبب انتشار الطباعة، وتعدُّد النسخ وبيعها.