مقدمة
وبعدُ، فليس غرضي من هذه السطور التنويه بكاتبة هذا الكتاب؛ لأن القراء يعرفونها كما أعرفها، بل إبداء رأيي في كتابٍ أخرجته للناس ناظرًا إليه من أربعة أوجه: وهي الأسلوب والإحاطة والتعليق واللغة. وسأكتفي بالإشارة الطفيفة إلى كل وجه منها، وإلا لزمني أن أنشئ على الكتاب كتابًا أوسع منه إن استطعت.
- (١) الأسلوب: أسلوب الكاتبة في هذه الفصول غاية في الإحكام؛ انظر إلى التمهيد الذي عقدتْ له الفصل الأول والثاني، فعرَّفتِ القراء بنفسها وبباحثة البادية وبما بينهما من الرابطة الأدبية. ثم تدرجتْ إلى التفصيل فوصفت وجه الباحثة وعقلها وأسلوبها في الكتابة. صوَّرتها لعين القارئ كما كانت تراها بكل معانيها، حتى يحسب من يقرأ ما اقتبسته من أقوالها أنه يسمع شخصًا يكلمه بصوته الحي ويعرف هويته وأمياله. وجرت على هذا الأسلوب في كل فصل من هذه الفصول؛ فإنها مهدت له تمهيدًا فلسفيًّا حسب موضوعه؛ لتتدرج بالقارئ إليه وتعدَّ انتباهه إلى ما فيه من رأيٍ أو انتقادٍ أو نصحٍ أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكرٍ. ثم نثرت أقوال الباحثة المرتبطة بموضوع ذلك الفصل وشرحتها وعلَّقت عليها ما يزيدها بيانًا أو يزيل ما فيها من شبهة أو يخالفها فيما ترى مخالفتها فيه. ولما استطردتْ إلى المقابلة بينها وبين قاسم بك أمين، جرت على هذا الأسلوب عينه في الفصلين اللذين عقدتهما لذلك. ولعلها أنصفت قاسم بك أمين مثل أعز أصدقائه الذين كتبوا عنه. وما غرضها إلا إنصاف الموضوع الذي تكتب فيه والغاية التي ترمي إليها وهي إصلاح شأن المرأة.
- (٢) الإحاطة: وأيُّ إحاطةٍ فإنها بحثت فيما كتبته باحثة البادية كامرأةٍ مسلمةٍ مصريةٍ كاتبةٍ نافذةٍ مُصلحةٍ. ومن الغريب أن عقلها الجامع البحَّاث أشار إلى هذه الصفات كلها قبلما كتبت سطرًا من هذه الفصول، كأنها نظرت بعين بصيرتها إلى كل ما كتبته باحثة البادية فرأتها تتجلَّى فيه بصفاتها المذكورة آنفًا، فلم يتعذر عليها أن تستخلص منه حقائق كثيرة أيَّدت نظرها. أحاطت بالموضوع من كل جهاته وعزَّزته بآراء الباحثة وأقوالها وبما مهدته لها وعلَّقته عليها. ولا نظن أنها تركت زيادةً لمستزيدٍ. وكلُّ من عانى البحث في مؤلفات الغير المتشعبة الشئون يعلم ما في الإحاطة بمناحيها من المشقَّة. ومَن مِن الكتَّاب لا يودُّ أن يتاح له مثل الآنسة مي تحيط بما تكتبه وتشرحه وتعلق عليه تعليق إنصاف ولو كان انتقادًا، ولكن هيهات؛ فإني لم أرَ حتى الساعة كتابًا مثل هذا في العربية.
- (٣) التعليق: هذا في نظري من أبلغ ما كتبته الآنسة مي؛ فإن مدركات العقل مهما كثرت لا تفيض بقوتها وغناها ومجدها إلا لدى احتكاكه بعقل آخر مضاهٍ له، حينئذٍ تتنبه النفس إلى ما خزنته من المعارف وما وصل إليها بالإرث من الآباء والجدود، وتنهض القوة الناطقة: قوة الاستحضار والتمثيل والقياس، وتُنهض البداهة وتنبِّه المبدأ الفيَّاض إلى سرد الأمثلة والأدلة وإقامة البراهين الخطابية والمنطقية وتأييدها بالحقائق العلمية والمسلَّمات العرفية والشواهد الاجتماعية. وهذا كله ظاهر في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب. فهو كتابان: كتاب باحثة البادية أو خلاصة ما كتبته في موضوع النساء، وكتاب الآنسة مي الذي جمعت فيه هذه الخلاصة وشرحتها وعززتها وعلقت عليها زبدة معارفها الواسعة، وختمته بالمقابلة بين باحثة البادية وقاسم بك أمين. وألحقت به ما دار بينها وبين باحثة البادية من المراسلات. والكتابان والخاتمة في موضوع واحد هو أهم المواضيع الاجتماعية في هذا القطر، ألا وهو المرأة المصرية وكيف تُصلح شئونها فتصلح بها البلاد.
-
(٤) اللغة: اللغة معرَّبة، خاصة بالكاتبة في أسلوبها، دالَّة على ذاتيَّتها. وكذا تكون
لغات كبار الكتَّاب. يرى القارئ لأول وهلة أن الكاتبة خرجت عن مألوف كتَّابنا
الأقدمين والمحدثين في كثير من أنواع المجاز والتعابير، كأن قريحتها الوقَّادة
رقَت بها فوق مألوف العادات وعقلَها المبتكر حلَّق بها في سماء الخيال شأنَ كل
نابغة في عصره؛ فإنه يُكثر الابتكار ويكره التقليد.
وإذا كان بعض استعاراتها مقتبسًا من لغات أوروبية فذلك ليس بدعة في العربية، ولا هي أول من فعل ذلك، بل قد سبقها إليه جماعة من أساطين الكتَّاب، مثل الجاحظ والصابي وابن المقفع وابن خلدون، فزادوا في غنى العربية بما أضافوه إليها.
وهذا شأن كل الذين ابتكروا لغاتهم، مثل كارليل ولورد أفبري وفيكتور هيغو ولامرتين ومثل الكتَّاب الرومان الذين كانوا يُحسنون اليونانية قبلما يكتبون لغتهم. وإدخال الجديد في اللغة ضروريٌّ لحياتها وإلا انحطت وتلاشت شأن الأسر التي لا يتزوج أعضاؤها إلَّا في بعضهم.
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبةً؟! إننا لو ضربنا صفحًا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية، مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبنا على الورق ما قد سبق وقرَّره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرًا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير؛ لأنه ليس كاتبًا على الإطلاق؛ إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب»؛ أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة ويعلِّم اليد صياغة الجملة الملائمة. وينقصه خصوصًا ذلك اللهيب الخفيُّ الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
الكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرًا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه، والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متَّقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار وتولول طورًا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينًا همسًا عجيبًا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمَّة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد، وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي … فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي … إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حُكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينًا وإصلاحًا؛ ذلك لأن الكتابة — التي يراها الكثيرون مسألة هينة — أكثر الفنون دقَّةً وعسرًا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحَّالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله؛ لأن نفسه تفيض به وتحثُّه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموُّجها وتحنِّيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التَّحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسرٌّ تملَّص من القواعد والنصوص وترفَّع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة، وهو كلُّ مقدرة الكاتب أو كلُّ ضعفه.
فإثباتُها الصمتَ للحكم والعمقَ لليل والنبَضانَ للحياة والأنين للشكوى والرنين للظفر والولولة للألفاظ والتموُّج للنفس، وقولها: إن من حمَلة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير ولا بالصغير، وإنه قد يكون بين سطور الكاتب لهبٌ خفيٌّ ينشر بينها أشباح النور والظلام، وإن البعض يستطيعون أن يرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها والشفاه وحدود ثناياها والآفاق واتساعها اللانهائي وأنه لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد يتفق مع ذاتيته، ثم قولها: «إن من يحاول الوصول إلى هذا الأسلوب محاولةً يهوي في دركات التصنُّع والتكلُّف وتتعثر قدماه وقلمه بذيول الزوائد والحواشي الحاضرة بين المتداولات، كالحلوى على أطباق حلواني العيد، أو يداهمه مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئه الشقي بأنه حكم عليه بسفِّ التِّبن.» كل ذلك من المعاني التي تكاد تكون مبتكرة في العربية. وقد أيدتها بأقوال أعظم شاعر فرنساوي وأكبر فيلسوف يوناني.
حسبي هذا الشاهد من فصولها للدلالة على بلاغتها في التعبير عمَّا في نفسها وعلى ابتكارها المعاني وإفراغها في قوالب جديدة واستعارات أنيقة وإلا لزمني أن أنقل أكثرها ما كتبته تمهيدًا وتعليقًا وشرحًا وتفصيلًا. فهل قرأت كتب مشاهير الكتاب في أوسع اللغات الأوروبية التي تحسنها فرسخ في ذهنها كثير من أساليبهم وتخيلاتهم التي لم نألفها، أو نشأت نسيجَ وحدِها نظرها يخترق حجب الغيب وجواهر الهيولى فيُرى فيها ويؤلَّف منها بدائع الصور ونفائس التراكيب، أو هي مجموعة من الاثنين الخِلقي والمكتسَب. قريحة وقَّادة تختلق الصور كما تشاء، وعقل مستقل يكره القيود إلا ما وقع عليه الإجماع، وذاكرة كثيرة الحفظ سريعة الاستحضار تسابق قلمها إلى تصوُّر ما يتخيله ذهنها مبتكرًا كان أو مقتبسًا.
•••
وإني أعدُّ الساعة التي اقترحت فيها على الآنسة ماري زيادة أن تجول في هذا المضمار من أسعد الساعات التي مرت في حياتي. وبهذه الكُليمات أقدم كتابها إلى القراء.