المرأة
إن في بعض الناس قوة لا تكيِّفها النعوت، ليست هي الذكاء؛ وإن كان الذكاء بدونها بلادة، ولا الجمال وإن عدِم الجمال ميزة التأثير بفقدانها، ولا هي توازن تراكيب الجسم وتناسب الأعضاء ونضارة الصحة، وكل هذه تافهة إذا حُرمت منها؛ لأنها العنصر الخفي المحيي الذي ينفعل به الأقوام ويخضعون لسطوته مريدين كانوا أم غير مريدين. لقد دُعي ذلك العنصر مغنطيسيًّا وكهرباء، وجاذبية، ولطفًا، وخفة دم، وخفة روح، و«نغاشة». ولكن جميع هذه المعاني ليست إلا أجزاء منه وتشترك معها في تأليفه معانٍ أخرى شتَّى.
إنها لقوة عجيبة قد تحوِّل ما هو في عرف البشر قباحة إلى جمال فتَّان؛ فهي بروق الذكاء المتألقة في العيون وسيال اللطف المتدفق في الابتسام، وأغنية الروح المتماوجة في نغمة الصوت. هي سحر الحركة وهي وسم الامتياز، وهي جلال الهيبة، وهي قداسة السكوت. هي المقياس السرِّيُّ الذي يكيِّف الإشارة ويوقِّع الخطى، والشرارة التي تُضرم نار الفكر، والنور الذي يجعل كثافة المادة شفافة. هي اليد العلوية التي إذا حلَّت لسان المتكلم كان بليغًا، وإذا أشارت إلى الناظر بدت نظرته عميقة، وإذا قادت قلم الكاتب كانت كلماته شائقة فعَّالة يبقى صداها داويًا في أعماق النفوس.
وكلُّ من عرف باحثة البادية شخصيًّا؛ أي معرفة الجسد، أو معنويًّا؛ أي معرفة القلم، علِم أنها كانت حائزة لهذه القوة التي حارت في تعريفها الأسماء. قد كان يكفي أن يعرفها المرء ليشعر بانجذاب إليها وليحبها. وقد كان يكفي أن يقرأ إحدى مقالاتها ليرغب في مطالعة كل ما كتبت منفعلًا على رغمٍ منه بالنفَس الحارِّ المالئ فصولها، حتى لقد يتبين توهُّج اللهيب المعنوي بين سواد الحروف. عبثًا تبحث هنالك عن الكاتب الذي يعلو بك إلى قمم الإدراك والعرفان ويبتدع لك من روحه جناحين تطير بهما إلى الآفاق البعيدة. إن مؤلفة «النسائيات» قانعة بالغرفة التي تسكنها، والحي الذي تسير بين منازله، والبيئة التي هي جزء منها. وحينما تعثر على ما لا يرضيها — وما أقلَّ ما يرضيها! — تضرب بمؤلفات الباحثين وشروح العلماء عرض الحائط، غير معتمدة إلا على ما تختبره بالمشاهدة. وسرعان ما تقابل بين ما تراه عند الغير وما يشبهه مما طرأ عليها أو قد يكون مهددًا حياتها.
إنه لاسمٌ فظيعٌ (تعدد الزوجات أو الضرائر) تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته؛ فهو عدو النساء الألدُّ وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبًا وشوَّش لبًّا وهدم أُسرًا وجلب شرًّا! وكم من بريء ذهب ضحيته، وسجين كان أصل بليَّته، وإخوة لولاه لما تنافروا ولا تناثروا، ففرقهم أيدي سبا وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل، وكانوا لولاه متفقين!
قد ينظم الشاعر هذه الزفرات أبياتًا عامرة، وقد يطلعك العالِم الاجتماعي على سلسلة علله ومعلولاته، مثبتًا لك شر تعدد الزوجات. ولكن قلَّما تجد في قصيدة ذاك وأبحاث هذا تأثيرًا يهز نفسك كما تفعل هذه السطور القلائل. ليس ما قرأته هنا بمنحدر من الفكر أو بناتج عن الملاحظة والتنقيب، بل هو اضطراب قلب جالت فيه المرارة مكوِّنة أنَّاتٍ ما لبث القلم أن وقعهن على وفق ضربات القلب الخافق. إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة.
•••
أين «الغلو البديعي» الذي يشكو منه هنا الأستاذ المنتقد؟! أين «الغلو البديعي» فيما تقرره الباحثة من ازدراء الشرقيين — مسلمين كانوا أم مسيحيين — بالبنت في جميع أدوار حياتها، وتفضيل الصبي عليها قبل ولادته وبعدها؟! وأين ذلك «الغلو» من مسألة الطلاق كما هو شائع الآن؟!
ألا يخيَّل إليك أن هذا الرجل الذي يدور على زوجاته وفي يده حزمة مفاتيح يفرِّقها لهو من رجال القمر أو سكان المريخ، أو على الأقل من أشباح الأقاصيص والأساطير؟ ولكن لا! إن ذلك مع الأسف واقع على مقربة منا. ومن أخواتنا مَن هنَّ ذكيَّات الفؤاد جميلات الوجه والنفس لطيفات الشعور شريفات الميول، وعليهن أن يحتملنه وأن يصبرن على مضضه؛ لأنه أمر داخل في عادات قومهن!
ثم تشرح كلًّا من هذه شرحًا وافيًا في مقال هو من أجمل ما كتبت، بل هو في تقديري أتم فصولها وأبدعها.
•••
كتبت هذه السطور منذ سنوات عشر. وإذا بقي هذا الوصف منطبقًا في يومنا على جمهور من الرجال، فإن هناك عددًا كبيرًا من الطبقتين العليا والوسطى قد تغيرت منهم العادات تحت تأثير المدنية، وفعل السفر إلى أوروبا ومشهد الوحدة العائلية (ولو في الظاهر فقط) عند الغربيين. فصاروا يركبون مع زوجاتهم وبناتهم ويرافقونهن في السفر والنزهة. فكثيرًا ما يُرى الآن الرجل المصري في مركبة أو سيارة وبقربه زوجته ونقابها الأبيض الشفاف يضاعف جمالها الشرقي. ولا يندر ذلك على طريق الجيزة والأهرام وفي الجزيرة حيث يكثر الازدحام أيام الجمع والآحاد خصوصًا، وفي الأعياد والمواسم الكبرى.
الحمد لله! لقد آن لهن أن يفهمن ذلك ولو تجرعن في سبيله من العلقم كئوسًا! أليس أفضل للمرء أن يسير نحو إدراك المعاني واستكناه الحياة ولو مخطئًا ضالًّا من أن يظل مستكنًّا في ليل الذل، راضيًا بقيوده، قانعًا بجهله وهو يحسبه عقلًا وطول أناة؟ إنما المرأة في موقف الاستعباد دون الجوامد حسًّا؛ لأن هذه تستعمل أقصى ما عندها من قابلية الحس، أما المرأة فإن لم تجاهد في تهذيب ما عندها من الملكات كانت قاتلة قواها بيدها. والقوة التي تتبعثر مؤديةً إلى الفوضى إن لم تعرف لنفسها قانونًا هي ذاتها إذا دُرِّبت كانت عنصر الارتقاء الرفيع. ولئن عز السير بانتظام بعد ليل العبودية الدامس لأن العين التي اعتادت الظلام يبهرها الضياء في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تألفه فتتمتع به لاجمةً فوضاها مُصلحة أحوالها. ليس هذا رأي الباحثة.
وسننظر فيما تشير به يوم ندرسها مُصلحة. غير أنها لا تنفك عن العودة إلى شعور المرأة؛ ليعتدَّ به الرجل ويجعله مقياسًا لأعماله وأقواله. فقد تختلف عندها ألفاظ الشكوى غير أن معنى الأنين ثابت لا يتغير. كل شيء في نظرها أفضل من «إيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله! أليس لها من قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور!»
•••
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلًّا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم. فليستبدلوا هذا بذاك. والإشفاق لا يتأتَّى إلا من سليمٍ لعليلٍ أو من جليلٍ لحقيرٍ، فأيَّ الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنَّا لنأنف أن نكون أحد هذين.
بل قد يتأتَّى الإشفاق من صديق لصديق ومن محب لمحبوب، وحذف الرحمة من القلب يعني حذف الوداد معها في آنٍ واحدٍ؛ لأن الإشفاق من العناصر الجوهرية المؤلفة عاطفة الحب. والقلب الذي لا يشعر مع من يحب ولا يشفق عليه إلا قليلًا إنما هو محب حبًّا ملؤه الجفاف والأنانية والبرد الزئبقي.
لماذا يشفق الرجل على المرأة؟ لأنها تقضي حياتها تائهة في لجج هوَّة لا يعرف هو منها إلا الشاطئ، وهي هوة العواطف. للرجل كبرياء الجولات الفكرية والأطماع المتزايدة والقوة البدنية. أما المرأة فمهما ارتقت وتناهت نشاطًا ورغبةً في تنسُّم ذرى الفكر ليست بقادرة على أن تستخرج من نفسها آثار ذلك الإرث الذي أودعتها إياه يد العصفور. وهو قوة الشعور، قوة الحب التي تخلق من الكائن الترابي العادي آلهةً سامية جليلة.
والمرأة القوية القادرة بإرثها النسائي ضعيفة جدًّا إزاء نفسها. وفي ذلك ما يستدعي الإشفاق والإجلال معًا. وليس الإشفاق بقاتل الاحترام وملاشيه، بل قد يجتمعان متساندَين متعاضدَين. فكم تشفق المرأة الضعيفة على الرجل القوي! وكم تكون قوته ذاتها موضوع عطفها! وذلك لا يقلل من إعجابها به، بل كثيرًا ما ينتبه حبها وينمو ساعة الشعور باحتياجه إلى مساعدتها. فلماذا لا ينمو كذلك حب الرجل تحت فعل الإشفاق، وكم كان الإشفاق مقدمة الحب، وهل في القلب المغلق في وجه الرحمة العذبة مكان للحب الأكيد؟!
ولكن لا يجفلن القارئ لهذه الوثبة الكلامية من الباحثة! إنه سيسمعها بعد حينٍ عائدةً إلى الابتهال.
•••
يومئذٍ حسبت هذه الجملة الأخيرة زهرةً من زهرات البيان، ولم أكن أدري أنها نبوءة، فما تلقيتها إلا اليوم بالتصديق، فجاء تصديقي متأخرًا! لقد وصلت الآن إلى «السماء» فماذا وجدت هنالك حيث احتجبت عن أبصار البشر متفرغة لاستقبال وجه البقاء؟ إنها أردفت الفقرة السابقة بهذه الجملة: «فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك.»
•••
من الأدوار الثلاثة المهمة التي تستغرق حياة المرأة؛ أي أدوار البنوة والزوجية والأمومة، كانت تحت تأثير الدور الثاني يوم كتبت «النسائيات»؛ لخروجها من دور البنوة الصرف. ولما لم تُرزق ولدًا ينال نصيبه من عنايتها فقد ظل اهتمامها محصورًا في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة. نعم إنها بحثت في جميع أدوار المرأة المصرية من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنها كانت بالزوجية أكثر اهتمامًا منها بأي دور نسائي غيره. أما في أحاديثها فكانت تُكثر من ذكر أبيها وقرينها؛ مما يدل على مقدار احترامها لهما وتعلُّقها بهما.
زرتُها مرة وسيدة إنجليزية فوجدنا صالونها مملوءًا بالزائرات المسلمات من والدات وفتيات، ودارت بينهن مناقشة فيما إذا وقع خلاف بين أبِ المرأة وزوجها فأيهما تتبع. فكثرت الأقوال واحتدم الجدال إلى أن قالت شابة عروسُ عامٍ: «مات أبي منذ سنوات خمس فحزنت عليه حزنًا شديدًا، وما زلت أبكيه إلى يومي هذا. ولكن إذا مات زوجي أموت معه ولن أعيش بعده لحظة لأبكيه.» فاعترضت والدة هذه السيدة بلهجة جعلتني أظن أن بينها وبين صهرها سوء تفاهم في أمر من الأمور، وإنها تود استمالة ابنتها إليها. لكن باحثة البادية دخلت بينهما قائلة بلهجة جمعت بين الجد والمزاح: «مكثت في دار أبي عشرين سنة ولمَّا تتم لي هذه المدة عند زوجي …» فقاطعها هنا بعض الزائرات قائلات: «ما هذا؟ أتجعلين طول الإقامة ميزانًا للحب!»
قلت إن باحثة البادية امرأة بكل معنى الكلمة؛ فهي لا تريد أن يعرف الجميع خفايا ضميرها، ولا تريد أن تجرح زائراتها. وقد كان لديها مع قلمها (الذي كان صريره يشبه أحيانًا وخز حربة صغيرة غُمست في مداد إنما هو مزيج من مرارة ولهيب) سلاح آخر نسائي محض، وهو الضحك، وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من إرضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف الحرجة بمهارة وبساطة.
لو قالت: «تتبع المرأة زوجها» لغضبت الأمهات. ولو قالت: «تتبع والدها» لسخط الأخريات. فلم تقل هذا ولا ذاك، بل ضحكت في وسط الضوضاء والاحتجاج والاعتراض ضحكة فضِّية كرنين البلور على البلور، أعقبتها بنكتة صغيرة أقفلت باب الموضوع وأرغمت جميع الحاضرات على الاشتراك في الضحك. وما كان أجمل ضحكة ثغرها! بينا شفتاها القرمزيتان تتلامسان بألفاظ مصرية التركيب واللهجة والمعنى!